لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفلهالانحطاط
كتبت قبل الألفين ردا على سمير أمين نموذجا من الماركسيين الذين يستندون إلى القيمتين الاقتصاديتين (الاستعمالية التبادلية) بافتراض نوع ثان أسمى منهما وبه تقاس درجة تحرر الإنسان من حتمية المادية المادية الجدلية. وهو نوع يعرف فرعاه بنفي ما يعرف به المعنى الاقتصادي الاستعمالي والتبادلي.
لكني حينها لم أكن قد وضعت نظرية رمز الفاعلية (العلمة) وفاعلية الرمز(الكلمة) اللذين يمثل أولهما أساس كل تبادل للقيم بمعناها الاقتصادي أي ما يقبل أن يكون قيمة استعمالية وتبادلية وثانيهما أساس كل تواصل حولهما وحول ما يمكن أن يتجاوزهما إلى ما لا يقبل الاستعمال والتبادل.
فيكون التواصل أوسع من التبادل لأنه يشمل نوع القيم الاقتصادية الاستعمالية والتبادلية ويتعداه إلى نوع القيم ولنسمها اللااقتصادية والتي لا تقبل الاستعمال ولا التبادل بالمعنى الاقتصادي. ودورا التواصل هذين يوجبان تحديد طبيعة العلاقة بين الاقتصادي واللااقتصادي أو بين نوع القيم.
وهنا يأتي دور ما تكلمنا عليه عند محاولة تحديد أبعاد الرمز اللساني (ومنه الكلمة): فقد تبين أن الابعاد الثلاثة التي يحددها علم اللسان (النظم والدلالة والتداول) لها فروع تتجاوز النظم الخاصة بالدلالة والتداول المختص هي التداول العام والمعنى والنظم المتحرر من الدلالة والتداول المختص.
سأسمي تجوزا هذا النوع من أبعاد اللسان في التواصل مناظرا لمعنى القيمة التبادلية في الاقتصاد والنوع المعتاد في علوم اللسان مناظرا لمعنى القيمة الاستعمالية في الاقتصاد. ولنسميهما بالقيمتين اللااقتصاديتين أي اللااستعمالية واللاتبادلية وهما روحيتان إذا اعتبرنا الاقتصاديتين ماديتين.
وهي تسمية غير دقيقة لأن ما به يختلف التبادلي عن الاستعمالي في الاقتصاد لا يستمد قيمته من سده لحاجة مادية بل لحاجة روحية هي التي رفعت من قيمة تبادله على قيمة تبادل الاستعمالي. لكن لو فرضنا أنفسنا في زمن الحرب وأصبح الإنسان مضطرا لما هو ضروري بدل ما هو اختياري لانقلبت العلاقة بينهما.
في الحروب وفي الظرفيات الشبيهة بها يدفع الإنسان اي سعر لسد الحاجة لأن الاستعمالي حينها يصبح مقدما على التبادلي من القيم. الماء في الصحراء أغلى من الذهب. والخبز في الحرب أغلى من كل الذهب. واوضح مثال هو أن الأم مستعدة لدفع حليها كله لتغذي أبناءها أو لتعالج مرضهم.
ويمكن أن نعود إلى الاصطلاح فنقول إنه توجد قيم استعمالية وقيم نفعية وهما فرعا النوع الاول وينطبق عليه المعنى الاقتصادي للقيمة وقيم جمالية وقيم خلقية وهما فرعا النوع الثاني وينطبق عليه المعنى اللااقتصادي للقيمة. وبهذا نكون قد وصلنا إلى بداية الطريق الموصلة لتحديد علاقة الرمزين.
فلنفرض أن الاستعمالي في الاقتصادي مناظرا للدلالي والتداولي المختص ولمنطق الرموز المحقق لهما وهو ما يناسب العلوم التي تعتمد على التجربة الطبيعية والتجربة التاريخية. فيكون التبادلي في الاقتصادي مناظرا للمعنوي والتداولي العام ولمنطق الرموز المحقق لهما مناسبا للمقدرات الذهنية بنوعيها.
وإذن فالمقدرات الذهنية بنوعيها الرياضيات والسياسيات تتعلق بالنوع الثاني من القيم التي هي قيم جمالية وخلقية غير قابلة للاستعمال والتبادل بالمعنى الاقتصادي الاستعمالي والنفعي. سلم القيم في كل حضارة مبني على هذه المقابلة: قيم الحرية جمالية وخلقية وقيم الضرورة استعمالية ونفعية.
ويمكن أن نقول تجوزا إن القيم اللااقتصادية هي قيم التحرر من “الواقع” في الإبداع الرياضي والسياسي وفي القيم الجمالية (وتناظر الرياضيات) والخلقية (وتناظر السياسيات). وهي في منظور “الواقعيين” مجرد خيال وهروب من “الواقعية” لكنها في منظور المبدعين هي الحقيقة وهي الواقع الأسمى.
ولولا هذه المقابلة لاستحال أن نفهم وجود الفلسفة والدين. فهما أساس تحرير الإنسان من واقعية الخضوع للضرورة أو القيمتين الاقتصاديتين بتحريره في مستوى الإبداع النظري الجمالي (الرياضيات) والإبداع العملي الخلقي (السياسيات) اللذين يحررانه من الاستعمالي والتبادلي.
وهما لا يحررانه منهما بازدرائهما بل بجعل انتاجهما يصبح ممكنا بالعمل على علم فتكون نسبتهما إلى المثال كنسبة الدنيا إلى الأخرى بالمعنى الديني للكلمة: شرط ضروري غير كاف لحياة الإنسان الحر والكريم. ومن ثم فالقيم الأسمى تصبح شرط وجود القيم الادنى وشرط منزلتها التي لا تستعبد الإنسان.
فعندما يكون الإنسان عبد الحاجة المادية فإنه يكتفي بالاستعمالي ولا يطمح في التبادلي في زمن السلم. لكن في زمن الحرب يصبح ما كان استعماليا رخيصا إلى تبادلي غال فلا تكون الاستعمالية والتبادلية صفة ذاتية للبضاعة أو الخدمة بل هي صفة إضافية للطلب الذوقي المتحكم في السوق عرضا وطلبا.
وكون القيمة الاستعمالية والتبادلية إضافية إلى العرض والطلب المحكوم بالحاجة والذوق يجعل المفهومين ليسا ماديين فحسب كما قد يتوهم الكثير بل هما ثقافيان كذلك. فما يطلبه الذوق في السلم والحرب من بضائع وخدمات يحكمه سلم القيم أو النسبة بين النوعين: مثال ذلك تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها.
وهذا هو بيت القصيد في ردي على سمير أمين: لا أنفي أن للعامل الاقتصادي دورا رئيسيا -والقرآن يؤكد على ذلك فجل تشريعاته تتعلق باستعمار الارض ونتائجه الاقتصادية مباشرة والخلقية بصورة غير مباشرة-بل أعدل دوره بدور أسمى منه عند من حررهم الإبداعان وثمراتهما العلمية والعملية.
وهذان الإبداعان ودورهما التحريري يتأسسان في الرؤية الفلسفية والدينية التي لم أجد نصا في تاريخ الإنسانية يؤسس عليهما كل الوجود مثل القرآن: فالوجود الطبيعي يتأسس على الرياضيات والوجود التاريخي على السياسيات. والأولى أساس العلوم والثانية أساس الأعمال والجمع بينهما هو العمل على علم.
فالقرآن يعتبر الخلق رياضيا والأمر سياسيا. فيقدم لنا صورة الله على أنه مهندس عالم وسياسي حكيم خلق العالم وأمره أو وضع له شريعة أو نظاما قانونيا وخلقيا يساس بمقتضاه واستخلف الإنسان ليبدع رياضيات يطبقها على تجربة الآفاق وما سياسيات على الأنفس فيصنع أداتي التعمير بقيم الاستخلاف.
وهذه الأسس الضمنية لمقدمة ابن خلدون: فهو يفسر الابداع العلمي والإبداع العملي بمفهوم الاستخلاف في المقدمة من بدايتها إلى نهايتها: ففي البداية يقدم نظرية الجغرافيا وهي تطبيق رياضي على الأرض ويقدم حاجة الإنسان لتنظيم حياته وتوقع المستقل وهي تطبيق سياسي على التاريخ ويدرس تفاعلهما.
طبعا من يبحث عن كونت أو عن ماركس في ابن خلدون لن يدرك هذه الحقائق لأنه يتصور أن في ذلك مدحا لابن خلدون وهو في الحقيقة ذم للقارئ والمقروء: فقارئ ابن خلدون بهذه الطريقة يصيبه العمى فلا يرى حقيقة إبداعه وابن خلدون المقروء تضيع قيمة إبداعه لجهل قارئه المقلد ليبدو حداثيا.
بعبارة أخرى فهذه المحاولة ليست لقراءة القرآن الكريم فلسفيا فحسب بل هي تهدف إلى إعادة النظر في كل التراث وأول الأهداف هو التحرر مما أعاق القدرة الإبداعية في حضارتنا فآل إلى ما سماه ابن خلدون بـ”فساد معاني الإنسانية”. ذلك أن ما يجري حاليا بالذات مصداق لتعليله له.
لا يمكن لأي مخلص للأمة أن ينكر أنها وخاصة نخبها المتنفذة قد “فسدت فيها معاني الإنسانية” بمعنى أنها صارت عالة على الغير كما وصفها ابن خلدون في كلامه على ما ينتج عن الحكم والتربية العنيفين أي الصادرين عن الاستبداد والفساد وهو ما يسمى قرآنيا بالرد إلى أسفل سافلين.