احتج بعض القوميين من تونس فذكرني أحدهم بكيف تورد الإبل، وادعى ثان بأني كنت ناصريا وارتددت. وقبل أن أحدد موقفي من القوميات عامة، أود أن أذكر من يذكرني بأن العالمين بإيراد الإبل صاروا اليوم أعداء العروبة والإسلام في آن محاولين التعلمن والتلبرل تصهينا والتطوف والتأملل تصفينا.
وأريد كذلك تنبيه المتكلم على الردة بأن الناصرية التي كنت عليها في شبابي، لم أكن أتصورها دينا، وإذا اعتبرها كذلك، فإني حينها كنت مرتدا إليها وعدت إلى تقديم الإسلام عليها، وطبعا ليس اسلام المتعلمنين اتباع إسرائيل من الثورة المضادة ولا إسلام الطائفيين من اتباع الملالي.
وهذا بيت القصيد.
فالقومية التي ربي عليها جيلي، لم تكن القومية العرقية التي يستعملها النوعان المشار إليهما في التغريدة الأولى، مطية للحرب على الأتراك والاكراد والأمازيغ. فكلنا كنا في جيلي نعتبر العروبة والإسلام وحدة لا تنفصم، ولسنا من بقايا الصليبية والباطنية اللتين جعلوها قومية متقدمة على الإسلام.
في جيلي، وفي المغرب الذي كنا نسميه عربيا، لم يكن ذلك يزعج لا المغربي ولا الجزائري لأنه لا أحد منا كان يفهم العربي بالمعنى العرقي، بل كنا جميعا نفهم بها الوحدة الحضارية الإسلامية الناطقة بالعربية لغة القرآن.
الحقد العرقي الذي استعمله المشارقة كان أبعد ما يكون عنا.
والدليل أن المغاربة لما بدأوا يتعرفون على المشرق، كانوا يعجبون من وجود عربي غير مسلم دون أن يكونوا جاهلين بوجود مسلمين غير عرب. وهو ما يعني أن عربيا في المغرب العربي لم تكن تعني شيئا آخر غير مسلم الدين والثقافة التي كان لسانها عربيا، فكبار علمائنا كانوا بلغة الآن أمازيغ وأكراد.
لكن لما أصبح بغباء القوميين العرب، الذين أرادوا أن يعربوا غير العرب، بالمعنى العرقي وأن يحاربوا ثقافتهم الشعبية، وخاصة لغتهم وفرض التعريب بقوة الدولة، عملاء بمصر الفتاة وقبلها تركيا الفتاة، ثم البعث الذي بينت الاحداث أنه طائفية شيعية وعلوية وماركسية ولا علاقة له بالعروبة ولا بالإسلام.
بعض هؤلاء يزايد علي في العروبة متلاعبا بهذا المغالطات. من يزعم أن بشار عربي أو حتى إنسان، وأن السيسي عربي أو حتى إنسان، أو صدام عربي أو حتى إنسان، فهو يغالط الناس فرضا على أنه واع بما يقول فلا يغالط نفسه. هؤلاء كلهم لا عروبة فيهم ولا إسلام ولا إنسانية ومثلهم بدو الثورة المضادة.
أي قوميين هؤلاء التوانسة الذين يدافعون عن الحشد الشعبي ومليشيات إيران العربية بالقلم وبالسيف التي تحارب من أجل تمكين الملالي من استرداد إمبراطورية فارس؟ هل يحق للقوادة من “قوميي” تونس وصحافييها الذين زاروا العراق وسوريا وتجولوا مع عبيد “زورو” إيران لمشاهدة تهديم مدن السنة فيهما؟ أنا لم أبدل رؤيتي -وهي ليست دينا بل حضارة- ومثلي كل أبناء جيلي في المغرب الذي جعله غباء القوميين من أذيال البعثين السوري والعراقي والناصرية والقذافية، لم يعد يسمى مغربا واحدا بل مغارب-بل فهمت أن شعارات العروبة لم تكن إلا غطاء يخفي طائفية بقيادات الباطنية والصليبية في المشرق.
ما زلت عربيا بالمعنى الذي وصفت، وعدوا للعروبة بالمعنى الذي فضحته الثورة فبينت تبعية بعضهم للملالي وبعضهم الآخر للحاخامات. ولا يمكن لأي مدع للعروبة ممن يؤيدون السيسي وبشار وحفتر وغِرّي الثورة المضادة من بقايا خونة الإسلام الذين نصبهم الانجليز ضد وحدة الامة في القرن الماضي.
وعندي أن كل مليشيات إيران “العربية” بالسيف والقلم في الهلال وكل مليشيات إسرائيل “العربية” بالسيف والقلم في الخليج -وهي الحاكمة ونخبها- كلهم لا يحق لهم أن يدعوا العروبة فضلا عن الإسلام. ذلك أن مجرد خدمتهم للموالي والحاخامات دليل على أنهم يريدون العودة إلى ما قبل الإسلام.
ولذلك فكل ما يجري هدفه محو معالم الحضارة الإسلامية وأهم معالمها مدنها الكبرى ومساجدها التي هدمت عن بكرة أبيها في الهلال ويسعون إلى تهديمها في الخليج صعودا من اليمن ليلتقي التهديم مع أخيه النازل من الهلال. ومثلما تجلى التشيع المتنكر في القومية النازل فسيتجلى التصهين الصاعد.
قد لا أعيب على شباب “الحزيبات الذرية” التي تدعي القومية في تونس، إذ هم في غفلة عما يحاك للأمة، ومثلهم لما كنت شابا لم أكن أدري أن الناصرية والبعثية -التي لم أمل إليها أبدا، بل كاد بعضهم أن يقتلني لما عارضت هجوم صدام على الكويت- هما بالأساس حرب على الإسلام بدعوى محاربة الرجعية. فبنفس هذه الدعوى، صار بعض اعشار المثقفين من المصفقين لمراهقي الثورة المضادة يتخذونها شعارا في مزاعمهم الوسطية والتحديثية من علمنة دكتاتورية اغرار تقودهم مخابرات إسرائيل وخبراؤهم الانجليز والصهاينة الذين هم نسخ جديدة من لاورنس العرب تقود “مربوطي الرأس عمي البصيرة”.
ولا شيء يضحكني أكثر من كلام هؤلاء العرب عن “الثراء” والمال. ولو كانوا حقا يعلمون أن مجموع دخلهم القومي مجتمعين لا يساوي دخل كاليفورنيا، ومع ذلك لم اسمع أمريكيا واحدا يباهي بالثروة رغم أنها ليست مثل التي يباهي أدعياء الليبرالية والعلمانية والتحديثيين من اصحاب الثورة المضادة.
ليست ثروة طبيعية ناضبة، بل هي ثمرة عمل وإبداع، ولأنها كذلك فهي عند أصحابها دليل اعتراف بأصحابها أي بشعوبهم وليس ببلطجية قبلية وعمالة لحام أجنبي. لذلك فهي ليست لصالح شعوبهم، بل هي لترف العلماء وخدمهم، أو لنقل بعض ما بقي منها بعد حلبهم هي لمتعهم وبذلها في محاربة بعضهم البعض.
لذلك فكل تخريف “القوميين” العرب في تونس ممن يتوهمون أني ملت لصف الثورة المضادة عندما اتهمت من انحاز منهم لبشار وحفتر والسيسي، كل هؤلاء عندي سواء: لا أحد منهم يحق له أن يدعي العروبة فضلا عن الإسلام. فهم عندي ليسوا بشرا، فالقرآن يعرف التابع لغير الله بالإخلاد إلى الأرض.
أردت اليوم في الفجر أن أكتب هذا النص قبل المغادرة إلى ملتقى حول مستقبل الامة التي تتصالح مع ماضيها وتستعد لاستئناف دورها في نظام العالم الجديد، متحررة مما ينصب لها من أفخاخ العرقيات والطائفيات والأحقاد بينها، الهادفة إلى جعلها تنسى الغزاة وتغرق في الملهاة، يمثلها بلداء العملاء.