الاسلام، سرمدي الأصالة والحداثة

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله

سرمدي الاصالة والحداثة

فيم تتمثل حداثة أدعياء الحداثة العرب مشرقا ومغربا منذ أكثر من قرن؟

فيم يتمثل التحديث الذي بدأ يتحقق؟

فالإسلاميون لا يمثلون الأصالة فحسب.

إنهم يجمعون بين الأصالة المتحررة من الانحطاط، والحداثة المستقلة من التبعية: كل من يزعم عكس ذلك ما جرى في القرن الماضي، يكذبه تكذيبا لا يجادل فيه نزيه.

فكل تحديث سليم ينبغي أن يحقق شروط المناعة والتحرر. وبهذا المعنى لا يمكن نسبة أي قدر منه مهما صغر إلى غيرهم في جميع المجالات التي هي قابلة للحصر بحسب وظائف العمران.

لذلك فعندي خمسة أسئلة متعلقة بالتحديث الأصيل والتأصيليون غاية، وبالتحديث اللقيط والتحديثيون اللقطاء بداية وآفاق المعركة الجارية حاليا ومآلها.

فما معنى التحديث الأصيل؟

الجواب يشمل كل أنشطة الإنسان عندما تتعثر ويريد صاحبها استئناف العمل المبدع فيها لتستعيد قيامها بذاتها وحيويتها.

وهذه الأنشطة هي بالنسبة إلى اي أمة مرجعيتها الروحية وحياتها الوجدانية وقدرتها المادية وإدراكها لشروط قيامها وأخيرا إرادة أمة الأحرار صاحبة الشهادة على العالمين.

فالله في الإسلام يوصف بكونه رب العالمين وشارع الكونين الدنيوي والأخروي: ليس رب شعب معين ولا دينا دون آخرة. بل هو رب العالمين والكونين.

وواضح أن التحديث اللقيط هو نقيض ذلك كله: التنصل من المرجعية وفقدان الوجدان والتبعية المادية والتماهي مع المستعمر والقبول بنفي شروط السيادة.

بهذا أجبنا عن السؤالين الأولين، أي ما التحديث الأصيل وما التحديث اللقيط. وإذن فبوسعنا أن نجيب: من سعى إلى الأول وإلى الثاني في القرن الماضي؟

والقرن الماضي كما هو معلوم، بدأ بحركات التحرر وانتهى بانقلابات العسكر وعملاء الغرب عليها، ليكونوا بديلا يحكم نيابة عن الاستعمار غير المباشر.

والعملية لم تنتظر خروج الاستعمار، بل هو الذي أعد لها مباشرة بعد الحرب العالمية الاولى لما أدرك أن كلفة بقائه مباشرا ستكون باهضة، فأعد البديل.

ما نراه يحدث الآن في اختراق حركات المقاومة، حصل كذلك بين الحربين. فأندس عملاء الاستعمار في حركات التحرر حتى يفتكوها وكأنهم هم المحررون فعلا.

وهذا ما حدث في كل بلاد العرب. وعلى كل فهو ما حصل في المغرب العربي كله. فما كان يسعى إلى الاستعمار وعجز دونه حققته بسرعة أنظمة الاستقلال الصوري.

والذين قادوا هذا الاغتراب والتغرب هم أدعياء التحديث الذي انتهى إلى الوضع الراهن: تبعية مطلقة في المرجعية والحياة والقدرة والعلم والإرادة.

كل شعوب آسيا-وهذا أمر عاينته بنفسي لما هاجرت إلى ماليزيا-حققت شروط المناعة رغم أنها كانت دوننا إمكانات مادية ودوافع روحية وسندا حضاريا.

مقارنة مصر باليابان وكوريا الجنوبية وتونس بماليزيا تبين التخلف الذي نتج عن أفعال من يدعون التحديث والتقدمية والتنوير: إنهم الظلامية عينها فهم أبواق الاستبداد والفساد.

فمن كانت الدعاية تقنعه كان يتصور مصـر-بحسب افلامها وإعلامها-وتونس بحسب فترينتها السياحية أصبحتا جنة على وجه الأرض: الثورة عرت المذابح فبنيت مهازل النظامين.

كذلك كان الجميع يتصور العراق أصبح يابان عربية وسوريا ولبنان سويسرا عربية والجزائر عملاق صناعي والخليج بناطحاته فاق أمريكا. حك بظفرك الطلاء.

ماذا تجد؟

لا شيء عدا فترينات تخادع النفس. ذلك أن ما سرق أكثر مما بقي وما بقي لا يتجاوز ما يسمح للحكام وعملائهم من رفاهية من يحكم شعب مستعبد.

وحتى لا أنسى أيضا متع حماتهم لأنهم جعلوا البلاد مرتعا لجيوش الأعداء ومخابراتهم ولجمعيات مخابراته التي توصف بـالمجتمع المدني عيونا للمستعمر ومعاول لتهديم قيمه.

صحيح أنهم طلبا لما يضفي المصداقية على أسمائهم يقومون أحيانا بشبه دفاع عن المضطهدين ليس لحمايتهم بل لابتزاز الحكام عند تضارب مطلب المصداقية، كأن يحاول حاكم التظاهر بالوطنية بما يشبه “البناش” الوطني.

وهذه لعبة معروفة يتداولها اليسار العربي: يريد أن يبدو معارضا معارضة يريدها الحكام ليقولوا نحن ديموقراطيون، وفي نفس الوقت هو حليف الأنظمة على حربهم على الإسلام والإسلاميين.

ذلك هو التحديث المطلوب: إنه المهمة التحضيرية التي تهدف إلى تغيير قيم الجماعة وأخلاقها ومحو كل ما يمثل مرجعيتها الروحية والخلقية والتاريخية. وذلك كله يمثل جوهر آخر مراحل استراتيجية الغزو: فما لم يقض العدو على المرجعية التي هي عين المناعة الروحية لا يعتبر نفسه قد انتصر على الأمة.

جوهر التحديث اللقيط: تحقيق المرحلة الأخيرة في الحرب. فبعد هزيمة الجيوش والاستحواذ على القوة المادية لمنع الاستئناف لم يبق إلا تهديم المرجعية.

عرفنا التحديث الاصيل والتحديث اللقيط. وعرفنا بوضوح أصحاب الثاني وطبيعة ما فعلوه بهدف تحقيق آخر مراحل استراتيجية الغزو كما حددها كلاوسفيتز.

فلنمر الآن إلى تعريف ما تم في سبيل التحديث البناء لدى من يتهمون بأنهم رجعيون وظلاميون أي الإسلاميون.

أولا حركات التحرير كلها كانت إسلامية.

وهي تماما من جنس ما نراه الآن حتى وإن كانت حينها لا تصارع على جبهتين كالآن، لأن الصدام كان مع الاستعمار نفسه ومن كان يعدهم ما زالوا ضعافا.

هم الآن ممسكون بمقاليد الحكم ومعهم الاستعمار غير المباشر وذراعاه إيران وإسرائيل. لكنهم لن ينتصروا لأن المقاومة معها الشعب الذي لم يفقد أصالته.

ما بثّوه من سموم لم يفسد مزاج الشعب. بل بالعكس فتريناتهم تتهاوى كقصور الرمال والقومة يتزايد زخمها: صمود شباب الأمة في سوريا جيوش الأعداء.

لوكان لسليماني بعض حياء لاستحى فتخفى ولما تعنتر: قلة من الشباب بتسليح بسيط صمدت خمس سنوات ضد النظام وضد ميليشياته كلها وضد روسيا وأذاقتهم الأمرين وخرجت سالمة.

وما كانت لتخرج سالمة لو كان العدو منتصرا أو قادرا على الانتصار الحاسم: وهـي لن تتوقف عن المقاومة بل هي كانت محاصرة وسيصبح العدو هو المحاصر بعد مراجعة الاستراتيجية والاتحاد.

وذلك ما لم أتوقف عن بيان ضرورته وشروطه وثمراته والاستراتيجية التي تمكن هزيمة الأعداء بالتحكم في المكان والزمان عسكريا وفي التواصل والصورة دبلوماسيا.

ماذا فعل الإسلاميون؟

أولا قادوا حركة التحرر دون ترك جبهة البناء. فكل المؤسسات الحديثة هم صانعوها وكل جبر للكسور الماضية هم جابروها. فلنثبت ذلك.

وليكن مثال تونس فلي بها دراية أوسع من غيرها.

حركة الإصلاح.

احياء التراث.

بناء المؤسسات الحديثة ومشروعات المستقبل في مجالات العمران الخمسة المناظرة للوجود والحياة والقدرة والعلم والإرادة.

حركة الإصلاح زيتونية بما فيها منشأة الصادقية.

مشروع خير الدين من تأليف أهل الزيتونة.

أول حزب وحركة الكشافة وكل نوادي الرياضة للإسلاميين.

حركة العمال وحركة تحرير المرأة والتركيز على الدستور والجمع بين القطرية وما يتجاوزها، وهي أحدث فكرة وصلت إليها أوروبا بعد الحرب الثانية حتى تصبح بحجم عماليق العالم.

فهذه الفكرة هي سر القوة في عالم العماليق والتحرر من الوطنية الضيفة بوطنية أوسع تحقق شروط المناعة في عصر العماليق. وهو أمر يحاربه اللقطاء.

لذلك فيسار العرب وقوميوه يناظرون يمين الغرب المتطرف الذي يريد العودة إلى الدولة العرقية بدل الدولة المبنية على الوحدة الثقافية في كونفدرالية دون مركزية.

لما أقارن أفكار ادعياء الحداثة في تونس ومصر، لا أجد عندهم إلا أدنى ما يدافع عنه جماعة لوبان في فرنسا وجماعة بيجيدا في ألمانيا وربما ترامب في أمريكا.

وهذا طبيعي، فالمرآة إذ تحاكي تعكس: يمين الغرب صار يسار العرب من سفهاء المثقفين الذين يتصورون كلام الجرائد فكرا وترديد الشعارات ثورية وتقدمية.

لا يؤمنون إلا بشيء واحد: أن تبقى بلادنا مرتعا للسياحة والاستباحة حتى يتمتعوا بما يعتبرونه حريات وإن كانت لا تتجاوز حياة العبيد والحيوان.

وكم يضحكني زعماؤهم-كأركون وأبي زيد والشرفي صاحب دكتوراه أم مائتي دولار -عندما يدعون أن الإسلاميين ليس بينهم مثقفون ولا فنانون ولا علماء مثلهم. من يقودهم السيسي وحفتر وبشار طالح يزعمون تمثيل التقدمية والتنوير والعلم والفن وحتى الفلسفة.

يخلطون بين الثقافة والسفاهة: مثقفون زعماؤهم من جنس السيسي وطالح وحفتر ومفكروهم من أجهل خلق الله ولا يتجاوز كلامهم قشور الفكر الغربي الميت.

أما فنهم فهو لا يتجاوز ما كانت الحضارات الوسيطة تنسبه إلى الجواري والولدان. والسكارى والمخدرون لن ينتجوا ثقافة راقية شكلا ولا مضمونا: قشور.

صحيح أن لهم نجوم لا تحصى ولا تعد. لكنها كلها لا تتجاوز أبواق استعمارية للحرب على التنوع والتحرر من المركزية الغربية التي فقدت نسغ الحياة فتجاوزها الغرب نفسه.

لكن هذه النجوم أول من يحتقرها الغرب نفسه: فهو يعتبرهم مجرد مخبرين وطوابير خامسة ولا يعتد بهم إلا في حدود خدماتهم لمصالحه. مآلهم مآل الحركيين.

لما كنت طالبا في باريس في السبعينات، اضطررت للعمل لتحصيل اسباب العيش فجلت في الأحياء المخصصة للحركيين ورأيت المذلة والمهانة مآل الخونة.

وذلك ما ينتظر بقاياهم ممن لم ينجلي مع الاستعمار، لأنهم كلفوا بمهمة خدمة شكله اللامباشر. ونحن اليوم نخوض حرب التحرر والتحرير وسينجلون حتما.

مهما ساعدهم الاستعمار وذراعاه إيران وإسرائيل فالنهاية حتمية: لذلك فإني اعتبر أنهم والذراعين والاستعمار ذوو فضل لأنهم أعادوا للشباب جذوته.

حرب التحرير الأولى في القرن الماضي خاضها آباؤنا بثقافة لم تكن متمكنة من شروط فهم العصر ونجحوا مع ذلك في وضع الأسس. علينا أن نستكمل البناء.

نحن في الموجة الثانية من حرب التحرير، لذلك فهي تتضمن حرب التحرر. التحرير من الاستعمار والتحرر من الاستبداد والفساد. معركة صعبة: ذلك هو الجهاد الأكبر.

والموجة الثانية لا يمكن أن يقودها إلا الحداثي الأصيل، بمعنى من يستخرج من حضارته قيمها التي كاد الانحطاط أن يلغيها وكاد الاستعمار أن يقضي عليها.

ذلك أن التحديث ليس محاكاة لمسار حضارة أخرى. بل هو حياة حضارة كونية حاربوها من أول يوم نشأت فيه، فانتصرت عليهم وأعادوا الكرة وهي منتصرة حتما.

الإسلام الديني في كل دين جاء ليوحد بعدي الإنسان من حيث هو إنسان يجمع بين الدنيا وما يتعالى عليها لئلا يخلد إليها هو طريق الحق الكونية.

الكتيب

وثيقة النص المحمول ورابط تحميلها

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
آخر تحديث 05-04-2025
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي