الاسلام السياسي هو أصل الاستئناف بشروط لابد منها – الفصل الثاني

**** الاسلام السياسي هو أصل الاستئناف بشروط لابد منها

ليس ما أعيبه على الاسلام السياسي الحالي أنسبه إليهم بوصفهم أصله او علته بل بوصفهم وارثيه دون نقد لخلطهم كما بينت بين النموذج الخلقي والنموذج السياسي ظنا أن الأول يغني عن الثاني رغم علمهم أن الاول يتعين في الشخص والثاني في المؤسسة. والدولة السوية تحتاج إليهما معا: مؤسسة وقيم عليها. ولو لم أكن اعتقد أن المستقبل لن يتحدد إلا بالإسلام السياسي وأن كل الأحزاب والمجموعات الاخرى لا قيام لها إلا بسند الأنظمة المستبدة والفاسدة والعميلة بجنسيها سواء كانت قبلية أو عسكرية وبسند أسيادهم وذراعيهم وأن معركة الأمة جندها من الإسلام السياسي وممن لم يلوث من الشباب بجنسيه وجند المعركة ليسوا اهل الحكم وحدهم بل هم أهل العلم (بالمعنى الحديث) وأهل القدرة (الاقتصاد) وأهل الحياة (الذوق الجمالي) وأهل الرؤى (الفلسفية والدينية) وهذه الأصناف من النخب منفصلة بعضها عن البعض ولا يمكن أن يمثلها شخص يدعي العلم الديني والأربعة الأخيرة متحرر عملها من الحزبية. فالسياسة تخدم دولة لها كيانين: نظام مؤسسات ذات نسق متكامل يحقق وظائف الدولة يملأه قيمون عليه بكفاءة تقنية وأخلاق سياسية ومهنية. والمقوم الأول يشبه الجهاز الألى الذي يؤطر العمل والمقوم الثاني يجعل هذا الجهاز يصبح كائنا حيا يعمل بما يشبه عمل الأعضاء في الكائن الحي: تشريح مع وظائف. وظائف الأعضاء تفسد إذا لم تكن الأعضاء محددة الدور في الكيان الكامل للدولة. وكلما دمجت الوظائف فنسبت إلى عضو واحد أو قلة قزم كيان الدولة وفسدت الوظائف. فمثلما أن تقسيم العمل في الاقتصاد من شروط فاعليته فكذلك في الدولة: السياسة لها اقتصادها المعتمد على تقسيم العمل بحسب الوظائف. والجامع بين المؤسسة والقيم عليها-وهم إداريون عادة لهم كفاءة الإدارة وأخلاقها-يحدد عملها القانون بدرجاته الخمسة -من المنشور إلى القانون التنفيذي إلى القانون العام إلى النظام العام القانوني إلى الدستور وكلها ضوابط تقتضي الاستقلال عن السياسة قدر الإمكان لتداولها عليها. لكن السلطان الفعلي هو للأخلاق الجماعية العامة. ذلك أن الرادع الحقيقي للسلوك ليس القانون أيا كانت درجته بل ما يتحقق فيه من مساءلة وحرص على تنفيذه واحترامه وبمقدار المساءلة والحرص على تطبيقه تقاس أخلاق اي جماعة وفاعلية الدول. فإذا فسد هذا فسد كل شيء وسيطر منطق الحزب والفرقة. والمشكل في الفعل السياسي الذي يصبح بيد الأحزاب الإسلامية هو الجمع بين نوعين من الشرعية القانونية غالبا ما يكونان متضاربين: لما كانت الشريعة لم تعد كافية لتسيير الدول وكانت تعميماتها تعسفية بات من الصعب التوفيق بين وظيفة القانون الوضعي ووضيعة القانون الشرعي. ومثلما أن تعميمات الشريعة تعسفية فإن أرخنتها ودعوى أنها لم تعد صالحة لأن التاريخ تجاوزها تعسفي. وحل المقاصد هو من أفسد الحلول لأنه تسليم بعلمنة القانون بحيلة المقاصد والافضل التسليم بأن القانون بطبعه وضعي وأن ما يعود إلى الشريعة ليس التشريع للنوازل بل التشريع للتشريع. والتشريع للتشريع حدده القرآن بمعيارين في تعيين صفات القاضي (الحكم) وصفات الشاهد وصفات التوثيق وصفات الإجراءات (مثل على من البينة) ولم يحدده بتطبيق الحدود. والفقهاء هم الذين تصوروا القرآن والحديث مدونة فقهية وما هما كذلك. لذلك أهملوا شروط تشريع التشريع وخرفوا حول القياس والمقاصد. فلم يمأسسوا ما يضمن حماية صفات القاضي (الأمانة والعدل) لأنه لا يمكن أن يكون كذلك إذا كان غير محمي والمتهم من تسلط الحكام والمحكوم عليه. وصفات الشاهد لنفس الغاية وصفات التوثيق وصفات الإجراءات. تصوروا أن القيس على الحدود التي لا يمكن أن يطبقها إلا الله والنبي أو من يدعي علمهما. ولما كان الإسلام السياسي يعتقد أصحابه أن الشارع للنوازل هو القرآن والحديث وما يقيسه عليهما الفقهاء فقد جانبوا الصواب وجعلوا الكلام على الشريعة ضد قابلية القبول بالمرجعية الإسلامية ذاتها. وعندما تكون الشريعة مشرعة للتشريع وليس للنوازل فإنها تصبح جوهر أصول الفقه كما يحددها القرآن. عيب تعميم الشريعة وكأنها تشريع مباشر للنوازل لا يختلف عن سد الذرائع: الأول يوسع والثاني يضيق ما لا يقبل التوسيع ولا التضييق لأن الله ليس شارعا للنوازل وإلا فتشريعه يصبح تاريخيا ومن ثم فهو متجاوز بالطبع. لكنه مشرع للتشريع بمعنى أنه محدد لشروط كونها ذا شرعية يكون أمينا وعادلا. وقد حاولت حسم هذه المسألة اعتمادا على تكويني في القانون الحديث وعلى فلسفة القانون والفلسفة السياسية وذلك خلال حواري مع الشيخ البوطي رحمه لله وتعليقاتي على نظرية المقاصد بمناسبة ندوة شاركت فيها مع الدكتور الريسوني أكبر المختصين فيها وبينت أنها لا تحل المشكل وتجانست طرحه العلمي. وأضيف حجة قدمتها في خلال كلامي على تحريف علوم الملة وخاصة على خرافات القائلين بالإعجاز العلمي: لو كان القرآن يتضمن هذه الامور لأصبح الكلام على مسؤولية الإنسان والحساب والعقاب يوم الدين فاقدا لكل معنى. فأهم عملين يحاسب عليهما الإنسان هو التشريع والتنفيذ في كل أعمالنا. فإذا كان الله يقوم مقام الإنسان في التشريع لما ينظم حياته وعلاج ما يطرأ فيها من نوازل لوجب أولا أن تكون النوازل ثابتة أو القوانين متغيرة. والحقيقة أن النوازل والقوانين متغيرة تغير الحلول التشريعية والتنفيذية والقضائية والإدارية لكل أفعال الإنسان التي يحاسب عليها بالجزءين. وأعود الآن إلى ضرورة تعليل قولي إن الإسلام السياسي هو الامل الوحيد فهذا يغضب الكثير فيكثر من ذمهم دون معنى لأني لم أقل ذلك لعلل خلقية فحسب -وهم خلقيا أفضل النخب السياسية ربما لسبب عقدي-بل لعلل سياسية: فالسياسة تتحدد بعاملين أحدهما هو الشرعية والثاني هو الشوكة أو القوة السياسية. والعاملان مترابطان ومتكاملان ولا يمكن لأي منهما أن يكون صالحا من دون الثاني. فمن دون تمثيل إرادة الجماعة لا توجد شرعية ومن دون القدرة على حمايتها سلما وحربا لا معنى للشرعية لأنها تكون عزلاء عديمة القدرة على تنفيذ إرادة الجماعة: لا بد من شرعية ذات شوكة وشوكة ذات شرعية. كل القوى السياسية الاخرى في بلاد العرب وغيرهم من المسلمين يصعب أن تمثل أغلبية تمثل ارادة الجماعة وتقدر على حمايتها سلما وحربا ومن ثم فهي في الغالب تعتمد على اجهزة الدولة التي تكون حينها استبدادية وفاسدة وعلى حماة من خارج الجماعة (الذراعان إيران وإسرائيل وسندهما من القوى العظمى). ولهذه العلة فلا يمكن أن نختبر التمثيلية الفعلية للإسلام السياسي لأنه مقموع ولم يترك للشعب تقييم عملهم السياسي الذي قد يصبح علة لاستبعادهم من الحكم بإرادة الشعب ولا أن نختبر عدم التمثيلية الفعلي لغير الإسلام السياسي لأن أصحابه يوجدون بحماية الأنظمة والذراعين وسندهما العالمي. ولو كان متهموهم واثقين مما يعيبونه على الإسلام السياسي لتركوا الشعوب تحكم ولما احتاجوا إلى كل هذا العنف وخاصة منذ حصول الثورة لمنعهم ليس من المشاركة السياسية فحسب بل وحتى من الوجود في المجتمع فعمموا كذبة الإرهاب عليهم بعد أن جعلوها مرضاة لحماتهم الذراعين وسندهما العالمي. وبمجرد أن تجيب متهمي الإسلام السياسي هؤلاء يكون الجواب دالا على الدوافع الحقيقية: الشعب ليس بعد ناضجا لحكم نفسه بنفسه. ولا بد من الاستبداد والفساد إلى أن ينضج ولن ينضح أبدا لأن نضوجه سيحول دون استبدادهم وفسادهم ولا مصلحة لهم ولحماتهم لتركه يتعلم حكم نفسه بنفسه. ولما تأكدوا أن الشعب نبذهم ولم يعد يقبل بعد ما حدث توهموا أن سوريا ستكون درسا لفشل الثورة ومآل الثوار والسيسي درسا لنجاح الثورة المضادة ودلالة عودة النظام القديم على النجاح انتهوا إلى فضح أنفسهم مرتين: فبشار هدم بلده وسلمه لمليشيات والسيسي لم يبق لبلده أدنى دور وقوة حياة. والنخب التي اختارت المحافظة على التبعية نالها ما تستحق فصارت أول الخاسرين. لم يبق مما سموه جبهة الانقاذ والشباب الذي جنده العسكر للاحتجاج إلا الركام المخزي لأصحابهما وبات العسكر يحول حتى دون التنفس وأدنى شروط الحياة فضلا عن الحريات التي يزعمون الخوف عليها من الإسلام السياسي.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي