الاسلام السياسي هو أصل الاستئناف بشروط لابد منها – الفصل الثالث

**** الاسلام السياسي هو أصل الاستئناف بشروط لابد منها

لو حاولنا وصف موقف الحركات الإسلامية من الدور السياسي الذي تسعى إليه أحزابها ولو كان هذا الدور كما يحدد الإسلام طبيعته باعتباره رعاية المصالح العامة باجتهاد الجماعة (دون اعتبار الحكم جزءا من العقيدة بخلاف التشيع: ابن خلدون) لكانت رؤيتهم قريبة جدا من مفهوم الديموقراطية. لكن ذلك لم يجعل أحزابهم جاذبة للنخب بل إن جل النخب الحديثة بأصنافها الخمسة (السياسي والعلمي والاقتصادي والفني والرؤيوي) يناصبهم العداء. ومهما كانت دوافع هذه النخب فلا بد من ألا يكونوا على خطأ مطلق وينبغي أن نبحث عن العلل التي لها شيء من الوجاهة. فما اعتبره غير وجيه في عداوة النخب التي ذكرت للحركات الإسلامية لأفهم علة عدم جاذبية الأحزاب الإسلامية لهم ونفورهم منها يرد إلى أمرين داخلي وخارجي ليس للإسلاميين عليهم فيها ما يعاب. فأما الأول فهو أمر خارجي: البلاد العربية وحتى الإسلامية الأخرى يحكمها حام هو صاحب السلطة الفعلية. ومعنى ذلك أن محدد الدور السياسي للنخب ليس داخليا بل هو خارجي في اغلب الحالات ومن ثم فالمجذوبية لأصحاب الطموح السياسي من النخب لا تتعلق بالشرعية الشعبية بل بأصحاب الشوكة الذين هم من يختارهم الحامي وعملاؤه في الأوطان ويسمح لهم باختيارهم على أساس فرز تحدده حماية مصالحه فيها. وعندما قلت إن الإسلاميين لا دور لهم ولا حيلة في هذا الأمر فقصدي أني لا أحمل الحركات الإسلامية مسؤولية وضع الرؤية الإسلامية الراهنة واعتمادها على ما بينت فساده من علوم الملة وسريان حالة الطوارئ والقوانين الاستثنائية فيها منذ الفتنة الكبرى. وفهم ذلك ينبغي أن يمثل بداية جديدة لهم. وما كتبته تحليلا لعلل فساد علوم الملة التي لم تعد صالحة والتي لا يمكن أن يتأسس عليها الاستئناف إن انطلقنا منه فيمكن أن يؤسس للبداية الجديدة التي من منطلقها أكتب هذه المحاولة رسالة موجة إلى الحركات الإسلامية حتى يكون دورها السياسي سياسيا فيستعيد الجاذبية رغم إرادة الحامي. ذلك أن النخب التي تنفر من الحركات الإسلامية ليست بالجوهر تابعة للحامي مثل الأنظمة بل الكثير منهم في قرارة نفسه يتمنى أن يتحرر من هذه التبعية لو توفر العامل الثاني والذي هو بدروه لا دخل فيه للحركات الإسلامية مباشرة لأنه مثل الأمر الأول موروث لوم يراجع ويعلل النفور من أحزابهم. وهذا الأمر هو الخلط بين الشرعية المستمدة من الثقافة الدينية والشرعية المستمدة من الدور السياسي. فاعتبار الثقافة الدينية شرطا في الشرعية السياسية معتقد شعبي يعلل طبيعة القاعدة الشعبية للأحزاب الاسلامية فيستبعد من لا ينتسب إلى الثقافة الدينية ويجعلهم فاقدين للوزن السياسي. وكما في الحالة الأولى فإن ما ليس للإسلاميين فيه ذنب لأنه موروث لهم فيه مسؤولية عدم مراجعة الموروث بل هم يستعملونه ويستمدون منه ثقلهم السياسي الذي يجعل مشاركة الآخرين بحاجة إذن إلى سند أجنبي عن الفعل السياسي الخادم لمصلحة الأمة الراهنة: غير الإسلامي تخيفه شرعية شعبية مغشوشة. فالشرعية الشعبية السياسية تعتمد على الإنجاز السياسي لكنها صارت تعتمد على الثقافة الدينية والشعائر ومن ثم فكل من لا يتبع هذه الثقافة يصبح عاجزا عن الفعل السياسي فيحتاج إذن إلى رافعة تعدل الكفة مع الرافعة المستمدة من رافعة الثقافة الدينية: فيصبح للحزبين رافعة غير سياسية بحق. والترجمة الفعلية لهذا الخلط هو ما سميته الحرب الاهلية بين الكاريكاتورين: أحدهما يدعي استمداد شرعيته من الدفاع عن الأصالة والثاني من الدفاع عن الحداثة. وكلاهما يخلط بين الفاعلية التي هي مجال السياسي والفاعلية التي هي مجال العقائد والخيارات الحضارية التي ينبغي الحد من دورها. إذن عاملان ليس للإسلاميين فيهما مسؤولية الوجود لكن لهم فيها مسؤولية الاستعمال والتوظيف في السياسة فكانا من علل النفور النخبوي من أحزابهم. لكني لا أجهل أن النخب يسيطر طلب الغاية السريعة والمباشرة وعدم الإيمان بالمشاريع الكبرى. فالطموح إلى استعادة دور الامة “خرافة” عندهم ولا تغريهم. والدليل هو أن النخب التي تنفر من الإسلاميين لا تتورع على اللجوء إليهم إذا كان ذلك يمكنهم من الوصول إلى الموقع السياسي الذي يرغبون فيه عندما يفتح للإسلاميين باب المشاركة لأنهم يعلمون أن قاعدتهم الشعبية منعدمة وأن تزكيتهم من الإسلاميين تمكنهم من النجاح في الانتخابات النزيهة. وقصدي أن الحداثيين والعلمانيين والقوميين والليبراليين إذا خيروا بين الرافعة التي فيها خيانة للأوطان والرافعة التي فيها تناقض مع موقفهم الفكري يفضلون الثانية على الأولى لأن مطلبهم هو النجاح السياسي ولا توجد إلى طريقتان: إما فرصة القاعدة الشعبية أو الولاء للأنظمة التابعة. فيكون الإسلاميون مسؤولين على الاستحواذ على الشرعية السياسية والأنظمة على الشوكة السياسية وتصبح النخب الأخرى بين استبدادين بالشرعية وبالشوكة وتلك هي علة الحرب الأهلية الدائمة بين شعب مقموع وحكم عميل موال لمن يحميه من الخارج ضد شعبه. والنخب بحسب الطموح تفضل العاجل على الآجل. وما أقصده بالآجل مضاعف: 1. مشروع الحركات الإسلامية هو الطموح لاستعادة دور الأمة الكوني دون تناف مع الأوطان والحداثي لم يعد تؤمن به بل تعتبره من أوهام الإسلامي فيكون الحداثي بذلك أقل الناس حلما بالتحرر من التبعية لأن البلاد العربية كلها محميات وستظل ما لم يكن ذلك هو مشروعها. 2. والآجل الثاني مرض أصاب كلتا النخبتين الإسلامية والحداثية. فهذه تستعجل المشاركة في السياسة ولو بخدمة أنظمة يعترفون بأنها عميلة هروبا من أنظمة ممكنة يعتبرونها بالجوهر رجعية وتحتكم إلى الماضي في صوغ المستقبل. وتلك تستعجل المشاركة ولو باختراق الاجهزة والانقلاب السياسي (قبل الربيع). تقديم العاجل على الآجل موجود في الحالتين: كلاهما يريد الشوكة. عديم الشرعية بالانضمام إلى الانقلاب الموجود (الحكومات العربية جلها بنت الانقلابات في الأسر الحاكمة وفي العسكر) وصاحب الشرعية باختراق الاجهزة ومحاولة الانقلاب وغالبا ما يستخدم في المهمة ثم يستبعد من العسكر. وإذن فهذا العيب الثاني مشترك بين نوعي النخب ولا أحد منهما يمكنه أن يشير بسبابة الاتهام للثاني. وهدفي من هذا الوصف بيان جوهر المشكل: السياسة بالجوهر شرعية ذات شوكة أو شوكة ذات شرعية والشرعية هي القاعدة الشعبية والشوكة إذا كانت ذاتية وليست اجنبية هي دور القاعدة في حماية الدولة. فيصبح العبء كله على كاهل الحركات الإسلامية: كيف يتحررون من الخلط بين شروط الفاعلية السياسية والثقافة الدينية حتى تتحرر القواعد الشعبية من الموقف السلبي إزاء النخب الحداثية فيمكنوها من التحرر من الموقف السلبي من الثقافة الشعبية التي هي دينية وإسلامية بالجوهر. وأعلم أنه من العسير تحرير النخب الحداثية من موقفهم السلبي من الثقافة الدينية لأنهم يعتبرونها شديدة الاقتحام في حياتهم الخاصة وحرمانهم مما يتصورونه حقوق الفرد في حياة خاصة واعتقد أنهم بذلك أقل نفاقا من النخب التي تستعمل بتعمد الخلط بين السياسي والثقافة الدينية انتهازا وليس إيمانا. ويبرز ذلك خاصة عند بعض الحداثيين الذين يمرقون في صفوف الإسلاميين فيزايدون عليهم في النفاق الديني فتراهم في الاجتماعات وكأنهم متصوفة في التظاهر بالتعبد والكل يعلم أنه خداع متبادل لا علاقة له بالإيمان الصادق. وينبغي أن يزول هذا الداء فهو أكثر شيء يقززني لأنه توظيف مقيت للدين. حاولت وصف الوضع السياسي وعلل النفور المتبادل بين نوعي النخب وخاصة في شكلهما الكاريكاتوري المولد لصدام حضاري داخلي في بلاد العرب والمسلمين ليس بين الماضي والمستقبل بل بين صورتين ظائفتين من ماضيين: كلاهما له صورة زائفة من ماضينا وصورة زائفة مما صار ماضيا في الغرب. كلامي على الصورة الزائفة من ماضينا مفهوم. فما القصد بالصورة الزائفة مما صار ماضيا في الغرب. ما يقدمه الحداثي على أنه المنشود في التحديث لم يعد حديثا بل صار من ماضي الغرب. ولا أحد اليوم ذو عقل سليم ما زال يعتقد أن الديموقراطية في الغرب تمثل إرادة شعوب العرب بل هي إرادة مافياته. فما تسمح به هذه المافيات في بلادنا ليس ديموقراطية فعلية لأنها حتى عندهم لم تعد موجودة-يكفي مثالا محاكمة ساركوزي وما بينت من مال فاسد أو انتخاب ترومب أو أعمال نكسون قبل أن يستقيل ووتر جيت-بل يريدون جمهوريات موزية لا تختلف عن الدكتاتوريات الموزية قبلية كانت أو عسكرية عندنا. وصفي للوضعية السياسية في هذا الفصل غايته الانتقال إلى مقترحات قد تمكن الإسلام السياسي من القيام بدوره -لأني أعتقد أنه لا يمكن للأمة أن تستأنف دورها من دون أن تتكفل بذلك قوة سياسية فعلية ولا توجد قوة سياسية فعلية ذات شرعية شعبية غير الإسلام السياسي-باستراتيجية سياسية خالصة.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي