سأستأنف الكلام في مسألة البدن لاحقا. توجد قضية عجيبة تستحق التأمل ولها صلة مباشرة بما يجري في الإقليم وليست بعيدة عن الهموم اليومية ومن ثم فستكون شبه استراحة من البحث في قضايا فلسفية شديدة التعقيد: لماذا يحقد أدعياء الحداثة على الإخوان خاصة والإسلاميين عامة إلى حد الهوس المرضي؟ فأن يحقد عليهم الاستعماري افهمها وأن يحقد عليهم المستبدون والفاسدون أفهمها وأن تحقد عليهم الطبقات المتنفذة في المجتمعات العربية أفهمها أما أن يحقد عليهم من هم من طبقات المجتمع الدنيا ومن هم أقرب إلى البداوة منهم إلى الحضارة لأنهم من النازحين حديثا من أريافهم فذلك ما يحيرني حقا. فالاستعماري لأنه يخاف على مصالحه لعلمه بمقاصدهم والحكام لأنهم توابع للاستعماري إذ هم يستمدون منه وجودهم والنخب المرفهة من توابع الأنظمة والطبقات المرفهة هي التي ترضع المحميات أو بصورة أدق فضلات الاستعماري والحكام لكن ما فائدة “النخب” التي تنتسب إلى الطبقات الشعبية الدنيا؟ فجل المليشيات سواء بالسيف أو بالقلم منهم لأن من سبق ذكرهم يفضلون أن يأكلوا “المشوي” بأصابعهم: انظر في الإعلام العربي وسترى من أقصد بهذه المليشيات فإذا أضفنا إليهم البلطجية سواء الذين هم خارج الأجهزة الرسمية أو فيها -وغالبهم من فواشل “المثقفين” وطريدي درجات التعليم فهمت عجبي وسؤالي. هل يكفي لتفسير ذلك التسابق من أجل نيل ما به يمكن أن يصعدوا في السلم الاجتماعية لأن هذه الخدمات مكنت البعض من الوصول إلى ما يصبو إليه من جاه وثراء هو المطلب الاول والأخير لهؤلاء “الوزاكة” والذين يغلب حضورهم فيما يسمى بالمجتمع المدني والأحزاب اليسارية والقومية والأحزاب الحاكمة. فهذه هي المصاعد الثلاثة الاسرع -مصاعد كهربائية. فما يسمى بمنظمات المجتمع المدني عمالة مباشرة للقوى الاستعمارية التي تمولها والمعارضة التي تصف نفسها بالتقدمية هي أيضا في نفس العلاقة فحصان معركتها هي الحرب على ثقافة شعبهم عامة والإسلام خاصة ثم الأحزاب التي هي دمى يحركها حامي الحكام. ألا أكون بهذا قد بسطت القضية فأرجعتها إلى عامل وحيد هو استراتيجية الاستعمار ضد الاستئناف؟ هل صحيح أن الاستعمار الغربي يعتقد أن سهمه الحاملة الوحيدة الممكنة -اعتمادا على تاريخ العلاقة بين الحضارتين الإسلامية والأوروبية-هي حزب إسلامي يكون المنتسبون إليه حاصلين على التكوين الحديث؟ ذلك أنه لا أحد بغافل على أمرين: 1. العداء يستثني الجماعات الإسلامية التقليدية التي هي حليفة من نصبهم من عملائه لحكم المحميات التي ما يزال سيدها ويوظف حتى الحركات التي تدعي الجهاد باختراق مخابراته لها لتشويه الإسلام والمسلمين. 2. التكوين الحديث لمن يسمونهم اخونج أو الإسلام السياسي. فأي إنسان نزيه يستنتج من مقارنة الأحزاب التي تسمى اخوانية أو اسلامية سياسية بالأحزاب التي تدعي العلمانية سواء كانت يسارية أو قومية أو ليبرالية أن التكوين الحديث المتين لا يوجد عند هؤلاء بل عند أولئك وأن قادة هذه الأحزاب ليسوا من خريجي المدارس التقليدية كما في القرن الماضي. وهذه النتيجة ثابتة حتى لو اكتفينا بالمعيار الخارجي المتمثل في الشهادات الجامعية. فالأحزاب الحاكمة أما عسكرية أو قبلية والنخب التابعة لهم جلهم حتى لو كان لهم مثل هذه الشهادات فأخلاق “اللحس” والطبل تنفي عنهم الاخلاق وتثبت أنهم غير واثقين من قيمة شهاداتهم وما تخوله في سلم المجتمع. والبقية هم مطاريد المسار الدراسي والقابلين بالخدمات الدنيا واغلبهم يبدأ بوظيفة المخبر في الجامعة أو في الصحافة أو في كل ما ينتسب إلى ثقافة الحانات والمقاهي واللقاءات الحزبية التي يغلب على الحاضرين فيها الحصول على وجبة يوم وربما أي وظيفة من هذا النوع في الأجهزة الرسمية. لكن حذار فهذا لا يعني أن الأحزاب الإسلامية خالية من مثل هؤلاء. لكن كونها مضطهدة وليس فيها “مطموع” لأنها لا تحكم يجعل هذا النوع فيها قليلا جدا. وليست واثقا من أنهم لو صار فيهم “مطموع” سيخلوا من هذه الظاهرة الملازمة للسياسة والتي تجعل من بيده المقاليد جذابا طمعا أو خوفا. وقد يعترض العلماني من أدعياء الحداثة فيقول: الطمع والخوف موجود كذلك عند الإخوان لكن ليس من الحاكم بل ممن يعتقدون أنه حاكم الحاكمين. يطمعون في الجنة ويخافون من النار. وكلنا يعلم كيف أنهم يفسرون ظاهرة الجهاد بخرافتي الحور وجهاد النكاح. وطبعا فضعاف النفوس يقيسون غيرهم عليهم دائما. فالعلماني بهذا الاعتراض يثبت غباءه: فالشاب اليوم ليس بحاجة لانتظار الآخرة للحصول مجانا على الحور يكفي أن يسقط في رؤية العلماني للعالم. حينها كل بنات جيله يصبحن حورا عينا بلا مقابل كما يحدث فيما يجعلونه هم مثالا اعلى لنمط المجتمع. من يطلب ذلك هو من يرتمي في البحر سعيا لجنة أوروبا. وبين أن هذا الاعتراض على المنتسب إلى الاحزاب الإسلامية بالقول إنه مثل المنتسب إلى الأحزاب غير الإسلامية مدفوع بالطمع والخوف لكن في عالمين مختلفين كان يمكن أن يقبل لو بقي العالمان مختلفين. فعالم اليوم لم يبق أمام المرء والطمع الأخروي حائل دون تحقيقه في الدنيا. فيسقط الإعتراض. وهنا يأتي الدحض الحاسم للاعتراض: ذلك أن الدنيا يمكن أن تتوهم أخرى إذا توفرت الأداة. والأداة هي دين العجل معدنه وخواره. وذلك هو مطلوب العلماني والليبرالي والقومي وكل طبالة الانظمة القبلية والعسكرية التي هي أدوات الرب الأرضي او الاستعمار الذي يسيرهم عن بعد: تلك هي جنة اللحاسين. الإسلامي السياسي يرفض هذه الجنة التي يحكمها العجل الذهبي بمعدنه(الذهب) وخواره (إيديولوجيا الإخلاد إلى الأرض). وإذن فالحرب على الإسلام السياسي-الإسلام عامة لأنه لا معنى لإسلام من دون تحقيق قيم عليا كونية في التاريخ الفعلي وذلك هو مفهوم السياسة-بعيدة الغور: معركة بين رؤيتين للوجود. ومن الخطأ الجسيم في فهم ما يسمى بالإسلام السياسي واعتبارها ظاهرة خاصة بالمسلمين: هي ظاهرة كونية تنتج عن رؤيتين للوجود وكلتاهما دينية: رؤية دين الله ورؤية دين العجل. وصراعهما دائم ويترجم سياسيا بالجواب عن سؤالين: ما أساس الشرعية السياسية؟ وما وظائف الدولة الشرعية؟ مشكل من ذكرت مع الإسلام السياسي يتعلق بالجواب عن هذين السؤالين: هل الشوكة تغني عن الشرعية وهما أداتا السياسي عامة؟ وهل الدولة الفاقدة للشرعية والقائمة على الشوكة وحدها يمكن أن تؤدي وظائف الدولة التي هي من صنفين الحماية والرعاية شرطي سيادتها وتعبيرها عن جماعتها؟ المعركة هي إذن بين رؤيتين للوجود: رؤية العجل الذهبي وهي دينية أيضا لأن ما به عوضت ألواح موسى كان معدن العجل (الذهب) وخوار العجل (الإيديولوجيا التي ترفع عبادة الذهب إلى منزلة ما يتعالى على الدنيا). والمعلوم أن التوراة المحرفة ليس فيها إيمان بعالم أخروي. وهبنا سلمنا بأن الإيمان بعالم أخروي من إبداع خيال الإنسان-وهي قضية لا يمكن إثباتها بالاستدلال العقلي ككل قضايا الإيمان-فالسؤال هو: هل يمكن تصور الوجود الإنساني مقصورا على العالم الدنيوي ويكون مع ذلك قائما على غير الشوكة أو بقانون الانتخاب الطبيعي والصراع مثل الحيوانات؟ وهبنا قبلنا هذا المنطق الذي يجعل الإنسان لا يتعايش إلا بتوازن التخاوف والتراهب ألا يكون العلماني والليبرالي والقومي العربي وكل من يحارب الإسلام السياسي هو في الحقيقة ومن حيث لا يدري ابعد الناس عما يترتب على هذا المنطق؟ ذلك أن شروط هذا التعايش هو التوازن للتحرر ممن يستعبدك. وكلنا يعلم أن هؤلاء المحاربين للإسلام السياسي لا يحاربون الاخوان بل يحاربون فكرة الامة التي هي الوحيدة التي لها الحجم الكافي لتحقيق التوازن المحرر من الاستعباد والعاملة في آن بالمنطق الذي يدعون إليه أعنى الاكتفاء بالشوكة مع من لا يؤمن بغيرها أي أصحاب العجل الذهبي. وإذن فحتى بمنطقهم هم محجوجون: لا يمكن للمحميات التي يتعصب لها اليساري والليبرالي والقومي والإسلامي التقليدي في الأنظمة العربية القبلية والعسكرية ألا يعترفوا بأن العصر الحالي ليس فيه سيدا إلا العماليق والاقزام الذين من جنس المحميات ليسوا إلا عبيدا يحققون شروط الاستسلام للأقوياء. والنتيجة وذلك ما كان علي بيانه: كل أعداء الإسلام السياسي في بلاد العرب عملاء بعضهم واع بالعمالة ومستفيد منها وبعضهم يتبع كإمعات. ولذلك فهؤلاء مثلهم مثل الاستعمار لا ينفع معهم إلا تطبيق منطقهم عليهم: فهم لا يمثلون إرادة الشعوب الحرة بل يحكمونها بالشوكة ولابد من قلعهم عنوة: الثورة.