الاسلام، استئناف دوره فرصة الانسانية الثانية

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله الاسلام استئناف دوره فرصة الانسانية الثانية

ككل الفنون يمكن القول إن السياسة تجمع بين الموهبة التي لها صلة بشخصية ممارسها والتجربة على علم أو العفوية. وكلاهما يبرز حين الفعل الموجب والسالب بمعنى أنها يمكن أن تكون إثمارا في مشروع ذاتي وإفسادا لمشروع المنافس فتكون ككل افعال الإنسان ذات استراتيجيتين للفعل ولرد الفعل.

وككل فن ما هو موهبة مقومة لذات السياسي لا يمكن أن يعوضها شيء أو أن تتعلم لأنها فاعلية في كيانه البدني والنفسي من جنس حبال الصوت عند المغني ودقة المسع عند الملحن و”مهابة” الكاريزما عند أي قائد. وهذه إما موجودة أو معدومة بنسب مختلفة وهي الشرط الاول لعمل أي قائد سياسي.

ولعل فاعلية النفسي أهم من فاعلية البدني. فالكثير من كبار الزعماء في السياسة والحرب لم يكن لهم ما به يبرزون بدنيا على مخاطبيهم -وهي صفة مهمة تساعد كثيرا في القيادة-وكانوا مع ذلك من كبار القيادات السياسية والعسكرية (نابليون هتلر إلخ..). والعلة هي تعويض النفسي للبدني. فبم يفعل؟

يمكن جمع المؤثرات النفسية في القيادة في كلمة واحدة ومحاولة فهم سرها: المهابة. فسر ابن تيمية مفهوم المهابة بكلمتين يرد إليهما تأثيرها العقلي والخلقي. الاولى هي الجلال والثانية هي الجمال. وكلتاهما تجعل الغير يسمع وينظر لصاحبهما بعين الإعجاب. ولا أتحدث عن المستفيدين من منافقيه.

ولما كان الفعل السياسي مضاعفا: عمل سديد دال على علم وخبرة بالمجال وتعقيداته فإن الخاصية التواصلية والشجاعة الإقدامية هما أصل كل مهابة. ومعنى ذلك أن السياسي ذا المهابة -مع ما ذكرنا من الموهبة الفطرية-هو القدرة على التواصل الذي ينفذ إلى القلوب والعقول والإقدام على المغامرة المحسوبة.

والجامع بين الامرين خيال الشعراء وفصاحتهم وشجاعة ابطال الحروب وتواضعهم. والمشكل كله في الجمع بين هذين الوجهين. فمن العسير الجمع بين الخيال الجموح والحكمة القيادية في الفعل السياسي الذي هو أكثر الأفعال الإنسانية تعقيدا إذا كان بحق سياسة على علم وليس سياسة رعوانية كحالها عندنا.

فما القصد بتعقيد السياسة على علم؟

إذا كانت خاصيات المهابة فردية فإن خاصيات الفعل السياسي لا يكتفي بها لأنه ليس فعلا فرديا بل هو فعل فريق يقوده فرد له هذه المهابة التي هي ما يمسك بالفريق ليكون فعله من جنس الأنغومة الموسيقية المعتمدة على عدة آلات. وآلات الأنغومة السياسية خمس.

وهذه الآلات التي يتألف منها الفعل السياسي هي المقومات التي تجعل الفريق الذي يقود الجماعة يتحول إلى ما يشبه الكائن الفردي الذي تعمل فيه كل مقوماته بتناسق والهدف جعل الجماعة كلها على هذا المنوال: فلا بد أن تعمل بتناسق أداة الرؤية وأداة الإرادة وأداة العلم وأداة القدرة وأداة الحياة.

وهذا الأدوات إذا أخذت بهذا الترتيب كانت وظيفة كل واحدة معدة للي تليها بحيث تكون الأخيرة هي الغاية القصوى. فتكون السياسة بهذا المعنى رؤية أولا وإرادة ثانيا وعلما ثالثا لتحقيق قدرة رابعا من أجل مطالب الحياة الإنسانية التي تشرئب لها الجماعة أخيرا. ويمكن أن نقرأها عكسيا.

فيكون الترتيب توظيفيا: الحياة المطلوبة تقتضي قدرة معينة لا بد فيها من علم مبني على إرادة منطلقها الرؤية التي حددت نموذج الحياة التي تطلبها الجماعة. فلا يكون السياسي ذا مهابة إلا إذا كون الفريق الذي يعمل بهذه الاستراتيجية في الاتجاهين: الثاني لعلم الموجود والأول لتحقيق المنشود.

وعندما أراجع تاريخنا السياسي فإني لا أجد أحدا تحققت فيه كل هذه الشروط بأفضل ما يمكن غير الرسول الخاتم. ولا يعنيني البحث في مصدر هذه القدرة. ما يعنيني هو أنه قدم الرؤية ومثل الإرادة وحقق العلم فبلغ إلى القدرة التي تعبر عن حياة كانت الإنسانية التي تعاني من الإمبراطوريتين ترنو إليها.

وأعتقد جازما أن المعجزة التي تنسب إليه بعد القرآن الذي نؤمن بأنه من الله لا منه هو هذه القدرة العجيبة التي جعلته يوحد قوما لو اجتمع الإنسان والجان ما فعلوها (العرب)ليكونوا نواة الدولة الكونية التي تسعى لتحرير البشرية من سلطان الوسطاء (الكنسية) والأوصياء (الحكم بالحق الإلهي).

فالإمبراطورية الفارسية والبيزنطية كانتا تحتلان ما أصبح قلب دار الإسلام أي الشرق الأدنى مشرقا ومغربا من حدود فارس إلى حدود الاندلس وتفرضان الوساطة الروحية والوصاية السياسية على الإنسان. فجاء الإسلام ليحرر الإنسانية من هذين المرضين اللذين نكصت إليهما الإنسانية بعد الفتنة الكبرى.

فحتى محاولة العصور الحديثة التخلص منهما في أوروبا فإنها قبلت بتنكرهما فيما هو أدهى وأمر ولا يختلف عما نكصت إليه حضارتنا بعد الفتنة الكبرى إلا بأسلوب التنكر: حكم القانون الطبيعي بأداتي القوة الرمزية المبنية على ثقافة الإخلاد إلى الارض والقوة المادية المغذية لها أي الخوف والطمع.

ومعنى ذلك أن ما يعتبر ثورة حداثية هو في الحقيقة قمة التحريف أعني دين العجل الذهبي ذي الخوار: فهو يستعبد البشر روحيا بخواره الإيديولوجي (ثقافة الإخلاد إلى الأرض) وماديا بمعدنه الذي يرمز إلى القوة الاقتصادية (الذهب هو العملة أو رمز القوة الاقتصادية): وتلك هي فرصة الإسلام الثانية.

وتيسيرا لفهم هذه العلاقة بين الفرصتين: الإنسانية كانت خاضعة للوساطة الروحية (الكنسية) وللوصاية السياسية (الحكم بالحق الإلهي) وحاول الإسلام تحريرها منهما. لكنها نكصت فتنكرت الكنسية في ثقافة الأخلاد إلى الارض وتنكر حكم المافيات بالحق الإلهي  إلى حكم المافيات بالحق الطبيعي .

والتنكر مقصور على تغيير الأسماء لأن المسميات واحدة: فسيطرة الإخلاد إلى الأرض لها مافية تسيطر بمنظور قيمي معين للإنسان وحكم الحق الطبيعي له مافية تسيطر بمنظور وجودي معين للإنسان. وكلاهما ينكص به إلى الحيوان الذي يحكم بما يرد إلى منطق التاريخ الطبيعي وصراع البقاء للأقوى.

ورغم أني لا أقول بالعود الابدي للتاريخ فإن للتاريخ قوانين ثابتة: فنحن اليوم في وضعية يمكن القول إن العرب نكصوا بصورة لا جدال فيها إلى ما كانوا عليه من تفرق وحروب مخمسة:

  1. في نفس القبيلة التي يسمونها دولة

  2. وبين المحميات التي يسمونها دولا عربية

  3. ثم بنيهم وبين منافس من ثقافتهم

  4. ثم بينهم وبين منافس نزله الغرب في أرضهم

  5. وأخيرا بينهم وبين من لم ينس التاريخ الوسيط وإن ببديل منهم يستعمرهم هم أنفسهم (الولايات المتحدة وروسيا) فصار العرب في وضع شديد الشبه بما كانوا عليه في جاهليتهم: منبوذي العصر لشذوذهم على منطقه ونظامه بما تمثله فوضاهم وتخلفهم.

ولست ممن يتنظر المعجزات. فلا نبي بعد الخاتم. لذلك فلا حق غير الحل الذي توخاه السياسي الاكبر في تاريخ الامة: لا بد من فريق من جنس الفريق الذي وضع المشروع في موضع التنفيذ.

  1. احياء المشروع ودستوره (الرسول)

  2. ثم تثبيت مركزه المكاني (الصديق)

  3. ثم تثبيت مركزه الزماني (الفاروق)

  4. ثم توحيد مرجعيته (ذو النورين)

  5. الشروع في توحيد دولته (معاوية) بتحريره مما اضطر إليه من قوانين خاصة اقتضتها الحروب الاهلية الأربعة التي تلت الفتنة الكبرى. فيكون المشروع الذي أتكلم عليه هو إخراج الأمة من حالة الطوارئ التي دامت أربعة عشر قرنا والعودة إلى ما تقدم على الفتنة الكبرى.

وهذه العودة ليست عودة إلى الماضي بل هي تحريره مما ألغى ثورته التي حررت الإنسان روحيا بإزالة مافية الكنسية وسياسيا بإزالة مافية الدولة. وذلك هو القصد بالاستئناف: فالإسلام قبل الفتنة الكبرى والحداثة قبل الاستعمار يتفقان على حرية الفرد الإنساني الروحية وحرية الجماعة السياسية.

وهذا هو عين ما أراه في ثورة الربيع العربي. ذلك أن الثورة المضادة بمقوماتها العربية الاربعة والأجنبية الاربعة حددت طبيعتها فنسبتها إلى الإسلام الذي تتصور التحقير منه بوصفه سياسيا. فالأربعة العربية هي من المعارضة متطرف العلمانية والجهادية ومن الحكم هي أنظمة القبائل وانظمة العسكر.

والأربعة الأجانب هم ذراعا القطبين إيران وإسرائيل وثم القطبان روسيا وأمريكا. هم إذن ثمانية مافيات تحارب ثورة المسلمين للخروج من حالة الطوارئ والشذوذ التاريخي حتى يستأنفوا تاريخهم الكوني بوصفهم قطبا معدلا لما أصاب البشرية من أدواء هي تنكر التحريف الديني في دين العجل.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
آخر تحديث 05-04-2025
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي