لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله الاسلام او في العلاقة بين الطبائع والشرائع
والمشكل مع الغزالي وابن تيمية بإطلاق ومع ابن خلدون بنحو ما هو عدم الذهاب بثوراتهم إلى غاياتها. فالأول تراجع عن نقده وأصبح سينويا والثاني لم يستثمر ثورته النظرية فلم يتقدم ولم يتراجع والثالث تقدم خطوة كبيرة في فلسفة العمل (المقدمة وشفاء السائل) لكنه لم يستثمرهما بصورة إيجابية.
كتبت فيهم ثلاثتهم ما يكفي للغرض لكن دور المفهومين-البراءة الأصلية والنفي الأصلي- لما ينالا حظهما فيما كتبت لأني لم أطرح حينها إشكالية علاقة الطبائع بالشرائع في القرآن الكريم وفي سياسة الإنسانية تربية وحكما. والآن حان وقت الكلام فيما قدمه الغزالي حتى مع عدم الاستثمار العملي.
فكما قال ابن خلدون في غاية المقدمة ليس ضروريا أن يحقق المبدع مشروعه كاملا بل هو يفتح طريقة وأفقا جديدين ليسلكها فيه الاجيال الموالية. وإذن فعدم استثمار الغزالي وابن تيمية وابن خلدون منه براء: مشكل ثقافة كانت آيلة إلى الانحطاط بسبب حالة الطواري التي عطلت الدستورين المعرفي والسياسي.
ما يعنيني الآن بيان ما فعل الغزالي بهذين المفهومين. فهو أولا وضع مبدأ أن الطبائع لا تتضمن الشرائع ولا يمكن استنتاجها منها بالعقل لأنها ليست صفات ذاتية للأفعال والأشياء بل هي نسبة بينها وبين غايات المشرع أو مقاصده بحسب الحاجة التي يراد سدها أو المشكل الذي يراد علاجه.
وفي هذا الحالة فالمحدد هو إرادة المشرع وخاصياتها السياسية (الخلقية بالمعنى العام) تربية وحكما لتنظيم سلوك الناس ومعاملاتهم. فإذا كان المشرع ليس طرفا في هذه المعاملات والسلوك أي طرفا لا يفضل زيدا على عمرو بمقتضى الإرادة العادلة والعلم المحيط-الله في هذه الحالة-كان تشريعه محايدا.
ويمكن القول حينها إن المشرع يعلم غاية طبائع الافعال لأنها خالقها ويعلم غايات التشريع تربية وحكما لأنه آمرها وناهيها فيكون أمره مطابقا لخلقة ويمكن حينها أن نقول إن العلاقات والنسب بين الخلقات (ليس الطبائع) والأوامر والنواهي متناظرة من حيث الرتبة الوجودية لصاحب العلم المحيط.
ويمكن عندئذ أن نقول إن “عقل” الله أو علمه محسن ومقبح بصورة محايدة ومتحررة من الأهواء التي تفرض بالقوة وتدعي أنها تحسين وتقبيح عقلي. والمعتزلة الذين يدعون ذلك جعلوا موقفهم من مسألة القرآن حلا لا يمكن للعقل أن يفرضه بوصفه أحسن لتأسيس الإسلام بل ارادوا فرضه بقوة الدولة.
فإذا حسم ما يسمى عقلا موضوع أي خلاف بين عاقلين لم يكن العقل هو الحاسم بل الهوى المستند إلى القوة. ولهذه العلة يحتاج الناس إلى حكم بين العقول: في العلم الحكم هو التجربة للفصل بين الأقوال النظرية الفرضية المتنافسة. وفي التشريع الحكم من يؤمن الناس أنه هو الحكم الأعدل.
والمؤمنون يرون أن الحكم الأعدل هو الله وتلك هي علة الاطمئنان للإيمان الديني وغيرهم يرى أن الحكم هو السلاح والغلبة (كاليكلاس) ويوجد حل وسط هو أساس الديموقرطية وهو القوة اللطيفة التي تحدد طرقا لجعل المشرع المقبول الإرادة الممثلة للجماعة بقدر الإمكان.
وطبعا لا واحدة من هذه عقلية إلا إذا اعتبرنا الله بحاجة لعقل يهديه في المفاضلة بين الحلول التشريعية وليست إرادته وعلمه كافيين. والحل الوسط مبني على مبدأ التقليل من الخطأ باستشارة الجماعة وكان يمكن أن يكون ذلك قريبا من العقل لولا أمرين: فهو لعبة حظ غير نزيهة لأن الجماعة تخدع وتشترى.
فلم يبق إلا حلان حسب الغزالي:
التشريع العادل إيمانا بأن الله الخالق والآمر أعلم بما ينبغي لتنظيم حياة البشر تربية وحكما ليكون التعامل بينهم خاضعا لمعيار مفاضلة واحد هو التقوى أي احترام القانون أو الشريعة الإلهية.
تشريع الهوى والقوة وللعقل فيه دور الأداة التي تبر فرضه وتنظمه.
ومن هنا جاء إبداعه الأساسي لما يمكن أن نسميه علم اجتماع المحركات النفسية والمنفعية للتشريع الذي يمكن أن نسميه عقليا بمعنى كونه جملة الحيل التي يضعها العقل بدافع المصلحة وبأداة قوة الدولة. وهذا العلم بناه على ما يشبه علم نفس التوارد بين المعاني عند هيوم.
أهتم كثيرا بمسالة هل النوع الاول صحيح أم هو مجرد اعتقاد. وذلك لعلتين: فلا أريد أن اتدخل في عقائد الناس ولست بصدد عرض عقيدتي. ثانيا كلنا يعلم أن القانون يفعل بخمسة أسس:
وكلها فيها شيء من الإيمان إما العام وهو الاول أو الإيمان بأن الغاية في الحياة هي المنفعة الدنيوية أو الجمع بينهما أو الاستبداد والفساد أو النكوص التام للقانون الطبيعي كما كان عليه العرب في الجاهلية هي كانت القبائل تتناهب الثروة المادية والنساء رغم كل ما يقال عن أخلاق الفروسية.
وهم الأن يجمعون بين قانون التاريخ الطبيعي الذي يفرضه عليهم حماتهم من أرباب العولمة ويخضعون شعوبهم لقانون الاستبداد والفساد والجاهلية كما هو بين: والفرق الوحيد أن جاهليتنا الحالية هي جاهلية أدوات السلطان الروحي لـ”تكنيس” الدين والمادي لـ”مفوزة” الدولة في النظامين القبلي والعسكري.
وقد حدد ابن خلدون نوعي التشريع وضاعف ما يسميه عقليا وكان عليه أن يضاعف ما يسميه دينه (لأن الحكم بالدين إما صادق أو منافق) واعتبر التشريع العام هو الجامع بينهما أساس للتعاقد إما من أجل مصلحة الحاكم أو مصلحة الحاكم والمحكوم دون التفكير فيما يتجاوز الدني (علقي) أو باعتبارها ديني.
وما يسميه عقدا عقليا لمصلحة الحاكم أو الحاكم والمحكوم أساسه الأخلاق النفعية وعندما يتكلم على العقد السياسي الديني فيعتبر أساسه الإيمان بالآخرة وهذا يمكن أن يكون صادقا أو من جنس دين فولتار: حاجة الحاكم لتوظيف الدين مخدرا وليس منيرا كما هي وظيفته إن كان صاحبه صادقا.
وفي كل الاحوال فالتشريع لا علاقة له بطبائع الأفعال (ما يجازى إيجابا أو سلبا منها والأشياء ما يحلل وما يحرم منها) بل العلاقة هي بين ما يوجد فيها وما يحتاج إليه المشرع لتحقيق غاية سواء يمكن أن يكون أساسها منافيا للعقل وللدين في آن. يكفي النظر في تشريعات أنظمة الاستبداد والفساد.
بلغتنا الحديثة ميز ابن خلدون بين النظام ذي التشريع الديني والنظام ذي التشريع العلماني. فذكر نوعي الانظمة:
التي يكون أساس الطاعة فيها المصلحة الدنيوية واعتبرها عقلية (نوعان)
والأنظمة التي يكون أساس الطاعة فيها الجمع بين الدنيوي والأخروي
الموجود عند المسلمين جامعا بينهما
أما الغزالي فميز كذلك بين ما يمكن أن يعتبر بلغتنا الحديثة أنظمة ذات تشريع علماني أساسه المنفعة ويعتبره أنظمة الهوى وأنظمة ذات تشريع ديني أساسه الحكم المحايد أي الله اعدل الحاكمين ويسميه أنظمة الإيمان الموافق الذي لا يتنافى مع العقل فيكون دور العقلي فيها بيان مناسبته للغرض.
وفي الحالتين فإن المسألة بقيت كلامية ولم تصبح محددة المناط التشريعي الذي حاولت بيانه. ذلك أن المقابلة بين العقلي والديني في مسألة التحسين والتقبيح وما نتج عنها من صراع كلامي بين المعتزلة والأشعرية كانا ناتجين عن التحديد الدقيق لمناط الخلاف والذي تعلله نظرية المعرفة المطابقة.
العلة ضميران:
الكلام على العقل الإنساني وكأنه ذو علم مثل العلم الإلهي فيكون عالما بموضوعه علما مطلقا لا غيب فيه أو وهم الإنسان بأن علمه بموضوعه علم به على ما هو عليه: نظرية المعرفة القائلة بالمطابقة
الخلط بين أحكام التشريع بشريا كان أو الهيا والطبائع وأعراضها الذاتية