الاسلام أو في العلاقة بين الطبائع والشرائع – الفصل الخامس

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله الاسلام او في العلاقة بين الطبائع والشرائع

وصلنا الآن إلى الفصل الأخير من مسألة العلاقة بين الطبائع والشرائع غاية للطريق الواصلة بين الفتنتين الكبرى والصغرى حول علاقة بعدي الديني في المنظور القرآني كما فهمته المدرسة النقدية العربية بدءا بالغزالي وختما بابن خلدون: أو الحل الذي شكلي الدولة الثيوقراطي الأنثروبوقراطي.

  • والحل الثيوقراطي هو الحل الشيعي أساس الفتنة الكبرى.

  • والحل الأنثروبوقراطي هو الحل العلماني أساس الفتنة الصغرى.

وظرف الأمة التاريخي الحالي هو الحلف بين أصحاب الفتنتين المحليين وذراعي القوتين في الاقليم   أي إيران وإسرائيل في حرب مضاعفة أهلية لكل قطر وقومية بين القوميات.

وطبعا سيعاب علي رفض الحلين بمنطق الثالث المرفوع والقول بعدم التناقض لكأن العمل يخضع لهذا المنطق البدائي (منطق ارسطو) أو لما يظن متجاوزا له (منطق هيجل) فيظن الحل القرآني توليفة بين المنطقين لكأنه حصيلة بين موضوع ونقيضه أو سانتاز فيعرف سلبا بكونه لا هذا ولا ذاك بمعنى التوسط المقيت.

وهذا يذكرني بغنائيات نيتشة إذ يعرف نفسه بكونه ضديد المسيح متوهما أن ذلك يخرجه من المسيحية لكأنها ليست مؤلفة من التلازم بين الوجهين وهو عين التلازم الذي يدعي به قلب سلم القيم لكأن القلب يلغي وحدة السلم حتى إن تبادل الفوق والتحت للمواقع بمعنى قلب ماركس لفلسفة هيجل.

ويذكرني هذا بفهم البعض ممن يتكلمون على مفهوم التوسط الأرسطي في الأخلاق متصورين الوسط الأرسطي حلا وسطا بين طرفين متناقضين فيكون الخلقي مؤلفا من بعضين من التطرفين. وكلما سمعت شيخا يخرف بهذا العلم العميق جدا جدا أبكي على أرسطو المسكين: فيكون العدل وسطا بين إفراط وتفريط.

رؤية الإسلام للعلاقة بين الطبائع والشرائع أو بين الديني من حيث هو فطري مقوما لكيان الإنسان الطبيعي والسياسي من حيث هو تاريخي مقوما لمساعي هذا الكيان باجتهاده لعلاج ما يقتضيه وجوده كأمر واقع حتى يقترب من منشوده كأمر واجب ليست حلا وسطا بين إفراط وتفريط بل العكس تماما.

فالإفراط والتفريط إن سلمنا بهما هما انزياح عن أصل مقوم وسابق وليسا أصلين يكونان بالتأليف التوسطي بينهما الاصل المقوم لكيان الإنسان من حيث جمعه بين القانون الطبيعي والقانون الخلقي أو ما فيه من مضطر وما فيه من حر. فما فيه منهما ليس عنصرين كيانه توسط بينهما بل معنى الحرية الواحد.

فالحرية ليست حلا وسطا بين الحر والمضطر بل هي فعل الحر أو التشريع الذاتي للذات فيكون الديني الطبيعي بمعناه الإسلامي هو “الاتونومي” أو التشريع الذاتي الذي هو عين كيان الإنسان. ذلك أنه حتى لو كان مستسلما للأقدار فإن استسلامه من علامات الاختيار. مسعاه إلى المربوبية شرطه الآلهية.

فالمربوبية تبدوا انفعالا والآلهية فعلا. وهما ليسا أمرين مؤلفين بمنطق جدلي بين تاز وانتيتاز وسنتاز بل هما وجهان حصيلتهما مخمس كيان الإنسان: فالشعور بالمربوبية (انفعال) ممتنع من دون الشعور بالآلهية (فعل) لكأن الامر يتعلق بالسعي إلى الانضباط الناتج عن الوعي بمثاله الاعلى: تشريع ذاتي.

التشريع الذاتي هو الحرية “أوتو-نومي” من أتو-ونوموس أي قانون ذاتي: الحرية هي بمعنى ابن خلدون الوازع الذاتي في مقابل الوازع الأجنبي. وابن خلدون يعتبر الاول دينيا والثاني سياسيا. فتكون دينيا عنده تعني ما ينبع من الذات وسياسيا ما ينبغ من الجماعة التي تربي الذات وتحكمه.

فإذا كانت الجماعة مؤلفة من أفراد “اتونوم” أو أحرار كانت جماعة الاحرار التي تربي أحرارا وتحكمه بقانون الحرية وهي بالضبط ما تعرفه سورة العصر باعتباره شرط الاستثناء من الخسر:

  1. متواصية بالحق (طلبا للحق خلقيا والحقيقة معرفيا) ومتواصية بالصبر (طلبا للعمل بالحق والعلم به). والاول اجتهاد والثاني جهاد. وهما شرط الحرية النظرية والحرية العملية في كل جماعة مؤلفة من أفراد احرار.

والخسر عرفه ابن خلدون بكونه “فساد معاني الإنسانية” الناتج عن سلب الفرد حريته الروحية (في التربية) وحريته السياسية (في السياسة). والعلة هي التربية والحكم العنيفين اي اللذين يقضيان على الوازع الذاتي اللطيف ويعوضانه بالوازع الاجنبي العنيف في التربية والحكم.

وبهذا المعنى يكون المفهوم القرآني للدين الطبيعي أو الفطري مفهوما ثوريا مرتين: بالمعنى الروحي وثمرته رؤية تحررية للتربية وبالمعنى السياسي وثمرته رؤية تحررية للحكم. وغاية الرؤيتين يعتبرها ابن خلدون غاية تحقيق مقومي الإنسان بوصفه ذا صلة مباشرة بربه وبشأنه الأخروي والدنيوي.

فلا يكون الإنسان مترددا بين المسيح وضديده أو بين بعد روحي وبعد مادي بل هو كيان موحد تمسيحه أو تضديده للمسيح وترويحه أو تمديده انحرافات مجردة تلغي وحدة كيانه وتفسد كل مواقفه بنفس القدر: فلا فرق بين تمسيح الدين أو تنتيشه ولا فرق بين ترويح الدين أو تمديده: كل ذلك تفتيت لكيان الإنسان.

وأكره ما أكره القول إن الإنسان وسط بين الحيوان والملائكة. الإنسان إنسان وليس وسطا بين أمرين آخرين. لا يمكن أن نعتبر ما فيه من خير روحيا وما فيه من شر بدنيا فكلا الفعلين يمكن أن ينبعا من نفسه أو من بدنه. وإذا قبلنا بذلك فينبغي أن نعكس: ذلك أن البدن أكثر ذاتية الانتظام من النفس.

وذلك بين من وظيفتي الذوق عنده: فما يتجاوز الحاجة في فن المائدة وفي فن السرير تفرضه النفس على البدن لأن ما يتجاوز حاجة الأكل وحاجة الجنس إذا فعله الإنسان فهو من أمانيه النفسية وليس من حاجاته البدنية. لكني لا أعترف بالمقابلة ومن ثم فكلاهما انحراف عن السوي من كيان الإنسان الواحد.

لم أطنب القول في رأي ابن خلدون لأنه تونسي فهو ليس تونسيا بل هو عربي مسلم أصله حضرمي ومولده تونسي وتربيته مغاربية واندلسية ومقدمته كتبت في الجزائر ودوره السياسي تونسي وجزائري ومغربي وأندلسي ومصري وشامي ومن ثم فهو ابن الجميع ممثل وحدة الامة بحق.

العلة في إطالة الكلام على رؤيته مضاعفة: أولا كلامه كان غاية ما بدأ مع الغزالي في كتاب فضائح الباطنية حيث قابل بين نوعي الشرعية السياسية-الوصية شيعيا والاختيار سنيا-وبلغ الذروة عند ابن خلدون لما نفى أن يكون التنظيم السياسي جزء من العقيدة بل هو تابع لاجتهاد الامة في تحقيق غايتها.

ويوجد خلط مفزع بين كون السياسة جزءا من الدين بمعنى أنها شرط تحقيقه العملي في التاريخ الإنساني تربية وحكما وبين أنواع التنظيم السياسي باعتبارها اجتهادا لتحديد شروط القيام بهذه الوظيفة العملية في الرؤية الدينية: السياسة ضرورة الوصية  تحريف ديني لهذه الحرية في الاختيار الاجتهادي.

والسياسة ضرورة عقلية ونفي ما وراء الدنيا تحريف عقلي لحرية الاختيار الاجتهادي. وهذا هو معنى الرؤية القرآنية التي هي عند تعريفها بالسلب ليست ثيوقراطية (سلطان الله محوا لدور الإنسان) وليست انثروبوقراطية (سلطان الإنسان محوا لدور الله): حقيقة السياسة أنها نظام ادوات لتحقيق غايات.

والادوات هي مؤسسات التربية والحكم وتشريعاتهما والغايات هي غايات التربية (تكوين الإنسان وتموينه) وغايات الحكم (حماية الإنسان الداخلية والخارجية) وتلكما هما بعدا الدولة التي هي كيان الإنسان متعينا في الوجود الخارجي ترجمة لما فيه من متجاوز لموجوده نحو منشوده أو لواقعه نحو مثاله.

وهذا الوصل بين موجود الإنسان ومنشوده هو عين وحدة وجهي كيانه البدني والروحي وهو ما يجعله في صلة مباشرة دائمة مع ربه مربوبا (انفعال) ومع إلهه إلاها (فعل) وهما وجها كيانه من حيث بالمعنى القرآن خليفة مستعمر في الأرض أي مكلف بمهمة تعمير الارض بقيم الاستخلاف.

وبذلك فالإسلام الذي يعتبره القرآن الديني في كل دين وما يزيد عليه فيها هو تحريفاتها وليس حقيقة الدين ينقسم إلى جزئين كلاهما فيه جهاد واجتهاد: جزء النظر والعقد أو الإيمان والتواصي بالحق خلقيا والحقيقة معرفيا وجزء العمل والشرع أو الصلاح والتواصي بالصبر خلقيا للحكم ومعرفيا للتربية.

فجمع بين الديني في كل دين واعتبره فطريا والفلسفي في كل فلسفة واعتبره فطريا واعتبر الاكتساب مجال حرية الإنسان من حيث هو مستعمر في الارض ومستخلف ومجهز لهذين المهمتين بقدرات بدنية وروحية هي التي تؤهله لهذه المهمة التي هي في إيان اختبار لأهليته للأمانة التي قبلها: الحرية والكرامة.

يقوم على الموقع عاصم أشرف خضر مع مجموعة من طلاب الأستاذ ومتابعيه.
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي