لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله الاسلام او في العلاقة بين الطبائع والشرائع
وصلنا الآن إلى الفصل الأخير من مسألة العلاقة بين الطبائع والشرائع غاية للطريق الواصلة بين الفتنتين الكبرى والصغرى حول علاقة بعدي الديني في المنظور القرآني كما فهمته المدرسة النقدية العربية بدءا بالغزالي وختما بابن خلدون: أو الحل الذي شكلي الدولة الثيوقراطي الأنثروبوقراطي.
والحل الثيوقراطي هو الحل الشيعي أساس الفتنة الكبرى.
والحل الأنثروبوقراطي هو الحل العلماني أساس الفتنة الصغرى.
وظرف الأمة التاريخي الحالي هو الحلف بين أصحاب الفتنتين المحليين وذراعي القوتين في الاقليم أي إيران وإسرائيل في حرب مضاعفة أهلية لكل قطر وقومية بين القوميات.
وطبعا سيعاب علي رفض الحلين بمنطق الثالث المرفوع والقول بعدم التناقض لكأن العمل يخضع لهذا المنطق البدائي (منطق ارسطو) أو لما يظن متجاوزا له (منطق هيجل) فيظن الحل القرآني توليفة بين المنطقين لكأنه حصيلة بين موضوع ونقيضه أو سانتاز فيعرف سلبا بكونه لا هذا ولا ذاك بمعنى التوسط المقيت.
وهذا يذكرني بغنائيات نيتشة إذ يعرف نفسه بكونه ضديد المسيح متوهما أن ذلك يخرجه من المسيحية لكأنها ليست مؤلفة من التلازم بين الوجهين وهو عين التلازم الذي يدعي به قلب سلم القيم لكأن القلب يلغي وحدة السلم حتى إن تبادل الفوق والتحت للمواقع بمعنى قلب ماركس لفلسفة هيجل.
ويذكرني هذا بفهم البعض ممن يتكلمون على مفهوم التوسط الأرسطي في الأخلاق متصورين الوسط الأرسطي حلا وسطا بين طرفين متناقضين فيكون الخلقي مؤلفا من بعضين من التطرفين. وكلما سمعت شيخا يخرف بهذا العلم العميق جدا جدا أبكي على أرسطو المسكين: فيكون العدل وسطا بين إفراط وتفريط.
رؤية الإسلام للعلاقة بين الطبائع والشرائع أو بين الديني من حيث هو فطري مقوما لكيان الإنسان الطبيعي والسياسي من حيث هو تاريخي مقوما لمساعي هذا الكيان باجتهاده لعلاج ما يقتضيه وجوده كأمر واقع حتى يقترب من منشوده كأمر واجب ليست حلا وسطا بين إفراط وتفريط بل العكس تماما.
فالإفراط والتفريط إن سلمنا بهما هما انزياح عن أصل مقوم وسابق وليسا أصلين يكونان بالتأليف التوسطي بينهما الاصل المقوم لكيان الإنسان من حيث جمعه بين القانون الطبيعي والقانون الخلقي أو ما فيه من مضطر وما فيه من حر. فما فيه منهما ليس عنصرين كيانه توسط بينهما بل معنى الحرية الواحد.
فالحرية ليست حلا وسطا بين الحر والمضطر بل هي فعل الحر أو التشريع الذاتي للذات فيكون الديني الطبيعي بمعناه الإسلامي هو “الاتونومي” أو التشريع الذاتي الذي هو عين كيان الإنسان. ذلك أنه حتى لو كان مستسلما للأقدار فإن استسلامه من علامات الاختيار. مسعاه إلى المربوبية شرطه الآلهية.
فالمربوبية تبدوا انفعالا والآلهية فعلا. وهما ليسا أمرين مؤلفين بمنطق جدلي بين تاز وانتيتاز وسنتاز بل هما وجهان حصيلتهما مخمس كيان الإنسان: فالشعور بالمربوبية (انفعال) ممتنع من دون الشعور بالآلهية (فعل) لكأن الامر يتعلق بالسعي إلى الانضباط الناتج عن الوعي بمثاله الاعلى: تشريع ذاتي.
التشريع الذاتي هو الحرية “أوتو-نومي” من أتو-ونوموس أي قانون ذاتي: الحرية هي بمعنى ابن خلدون الوازع الذاتي في مقابل الوازع الأجنبي. وابن خلدون يعتبر الاول دينيا والثاني سياسيا. فتكون دينيا عنده تعني ما ينبع من الذات وسياسيا ما ينبغ من الجماعة التي تربي الذات وتحكمه.
فإذا كانت الجماعة مؤلفة من أفراد “اتونوم” أو أحرار كانت جماعة الاحرار التي تربي أحرارا وتحكمه بقانون الحرية وهي بالضبط ما تعرفه سورة العصر باعتباره شرط الاستثناء من الخسر:
متواصية بالحق (طلبا للحق خلقيا والحقيقة معرفيا) ومتواصية بالصبر (طلبا للعمل بالحق والعلم به). والاول اجتهاد والثاني جهاد. وهما شرط الحرية النظرية والحرية العملية في كل جماعة مؤلفة من أفراد احرار.