لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله الاسلام او في العلاقة بين الطبائع والشرائع
وما حير الغرب الوسيط سلبا والحديث إيجابا إلى حدود هيجل الذي جمع الحيرتين في الموقف من الإسلام هو هذه الخاصيات التي أحاول الانطلاق منها لدراسة قضية فلسفية جوهرية هي قضية العلاقة بين الطبائع والشرائع وسر اعتبار الإسلام الديني من كونية وحدة الطبائع الواحدة لا من جزئية تعدد الشرائع.
كل حداثيي العرب ممن علمهم بالغرب لم يتجاوز حضيض المعرفة العامية مثلهم مثل تأصيلييهم لا يفهمون أن ما حير الغرب سلبا وإيجابا وجمعا بين السلب والإيجاب ليس ما يبرزه سجال الحروب بين الغرب المسيحي والشرق الإسلامي إلى حد الآن بل رؤية الإسلام الغريبة عندهم لعلاقة الطبائع والشرائع.
فالغرب الوسيط تحير سلبا لأنه اعتبر الإسلام منافيا لكل خصائص الديني كما عرفوه وجربوه حتى نسبوه إلى الشيطان وعبادة الدنيا والغرب الحديث قبل هيجل تحير إيجابا لأنه وجد فيه دين العقل الطبيعي ومنذ هيجل اجتمعت الحيرتان فبات الإسلام عصيا على التصنيف تماما كما هو الآن: سر غير مفهوم.
ولعل السر غير المفهوم يتلخص خاصة في الرسول نفسه. فلا شيء فيه يطابق ما يفهمه الغرب من معنى السلطة الروحية التي يعرفونها بما يفيد نفي الدنيا سواء أخذنا السلطة الروحية بالمعنى الفلسفي ومثالها سقراط أو بالمعنى الديني ومثالها المسيح بل هو إنسان بأتم معنى متناغم الكيان العضوي والروحي.
تاجر وحارب وأحب النساء وقاد أمة وكون دولة ووضع نموذجا لوجود الإنسان الفرد والجماعة بصورة لا مثيل لها قبلها ولا بعدها في أمة لم يكن لها شأن يذكر قبله وكادت تفقد هذا الشأن منذ أن خالفت جل تعاليمه بل وحرفتها بما أدخلته على سيرته من خرافات لا علاقة لها بأفعاله ولا بأقواله.
ونفس ما يشعرهم به سيرة الرسول يجده من يقرأ منهم القرآن قراءة متحررة من تعصب الغرب الوسيط عليه وتعصب الغرب الحديث له والجمع بين التعصبين عند هيجل (تقديمي لترجمتي دروسه في فلسفة الدين بجزأيها): ففيه شيء سيرة الرسول ونقد تاريخ الإنسانية الروحي والسياسي بمنظور مفهومه لحقيقة الإنسان.
وبهذا المعنى فالإسلام لغز محير للفكر الغربي وهو من أهم إشكالات هذا الفكر بخلاف ما يتوهم السطحي من فكر تحديثيينا وتأصيليينا بل هو أكير مشكل في فكرهم حتى وإن لم يعترفوا بذلك. وأهم قضية فيه أنه اعتبر الدين ظاهرة طبيعية وليست ظاهرة ثقافية واعتبره واحدا للجميع مع تعدد الشرائع.
ذلك أنه لا يرد إلى الدين بالمعنى المتعارف ولا إلى الفلسفة بالمعنى المتعارف بل هو يتضمن علاقة بين الطبائع والشرائع شبيهة بالعلاقة بين مفهومي العلم بالمعنى الألماني: علم الطبائع Naturwissenschaft وعلم الشرائع Geisteswissenschaft دون أن يستثني أحدهما الآخر بل كلاهما بداية وغاية.
والأعجب من ذلك كله أن كتابه لا يعتمد على دليل الإعجاز وخرق العادات بل هو يعتبر هذا الدليل للتخويف وليس للإقناع بالرسالة رغم أنه يحترم معجزات الأنبياء السابقين ولا ينفيها احتراما لهم أو للمعتقدين فيها. ويستثني كتابه من هذه الرؤية لاعتباره الاعجاز مقصورا على نظام الطبيعة والتاريخ.
وهذا الأمر العجيب هو الذي جعلني أستخرج من القرآن ما سميته بالمعادلة الوجودية: فالإنسان يوجد بين النظامين الطبيعي (كيانه العضوي) والتاريخي (كيانه الروحي) وهو يتجاوزهما إلى ما ورائهما ليكون محاورا مباشرا معه فتكون المعادلة بين قطبين الله والإنسان وبينهما محددا الطبائع والشرائع.
وبما أن رؤية الإسلام للعلاقة بين الطبائع والشرائع مماثلة للعلاقة بين نوعي المعرفة اللذين حددنا مفهومهما الالماني فإن كتابه لا يفهم إلا تحليليا فيما منه مبني على الاستدلال بتحليل المفهومات والمنطق Analytucal وتأويليا Hermeneutical فيما منه مبني على الاستدلال بالأمثولات والقص.
ورغم أني مسلم أبا عن جد ومن أسرة دينية بالأساس فإن الإسلام لا يزال من أهم علل حيرتي الوجودية: لا يقبل التصنيف لا بين الأديان بالمعنى السائد ولا بين الفلسفات بالمعنى السائد بل هو فريد نوعه فيه من الفلسفي وفيه من الديني ما يمكن اعتباره جوهرهما لكن خلوه من قشورهما يستثنيه منهما معا.
لذلك فإني لا أفهم لا من يحاول التوفيق بينه وبين الفلسفة التقليدية التي بدأت بأفلاطون وختمت بهيجل أو مع الفلسفة التي تلت المرحلة الهيجلية بسبب تأكيده على الدنيا وسياستها (عدلا وظلما) لأن معادلة الوجودية مشدودة إلى الحيزين (الطبيعة والتاريخ) وما قبلهما (الله) وما بعدهما (الإنسان).
وإذن ففه علاقتان بين القطبين الإنسان والله:
مباشرة هي عين قيام الإنسان الروحي (حتى الملحد يعيش بها ولو بسلبها لذلك تجدهم أكثر الناس كلاما في المسألة).
وغير مباشرة بتوسط الحيزين الطبيعي والتاريخي أو دور الطبائع ودور الشرائع في شروط قيام الإنسان عضويا وروحيا.