لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفلهالاسلام او في العلاقة بين الطبائع والشرائع
إذا ما استثنيت فتاوى ابن تيمية التي لا تعنيني ولا أهتم بها لكونها من ظرفيات العمل الفقهي المسألة الوحيدة في فكره التي الخلاف بينه وبين جوهري هي مسألة التحسين والتقبيح. فهو يقترب فيها من الفكر الاعتزالي وإن اختلف معهم في قوله بها بما يعود إلى الجزاء من افعال العباد.
لن أخوض في هذا الخلاف لأن ما أريد بحثه أعمق بكثير وآمل أن يصبر علي القراء. وسأنطلق من مفهومين يستعملهما الغزالي في كلامه على المسألة (المستصفى). فهو يميز بين أمرين لهما صلة بقضيتنا في العلاقة بين الطبائع والشرائع. والمفهومان هما: مفهوم البراءة الاصلية ومفهوم النفي الأصلي.
والمفهوم الثاني -النفي الاصلي-أوضح من المفهوم الاول -البراءة الاصلية. لكن الثاني أعمق وابعد غورا. فالأول يعني أن الطبائع بريئة مما تضيفه إليها الشرائع من حد تشريعي يأتيها من خارجها أمرا أو نهيا بدرجتي الامر (واجب ومندوب) والنهي (حرام ومكروه) بل هي كلها منفي عنها هذا الحد التشريعي.
ويمكن بفهم ما أن نعتبرها من المباح بإطلاق. ولعل أبرز هذه المعاني يتعين في مفهوم المحارم. فلو لم يوجد تشريع وضعي أو سماوي لمنع العلاقة الجنسية بالمحارم لكان ذلك على النفي الأصلي. فالانثروبولوجيا مثلا لا تعتبر ذلك ذا صلة بالمقدسات بل لحاجة تبادل النساء بين البشر وتوسيع التحالفات.
ويمكن أيضا أن نعلل مفهوم المحارم بعلة عضوية هي ضرر التزاوج الداخلي وفائدة الابتعاد عن الدم الواحد الذي قد يؤدي إلى الامراض الوراثية التي تكثر في حالة التزاوج الداخلي. وهذا على اهميته لا يبين عقليا قبح التزاوج الداخلي ولا حسن التزاوج الخارجي بل هما ناتجان عن التشريع وليسا طبيعيين.
لكن يمكن من منظور إسلامي يعتبر الديني من الطبائع وليس من الشرائع أن يعتبر مفهوم المحارم بوصفه من شريعة دين ينتسب إلى الطبائع فيه وعي بما يترتب على الطبائع من ضرر عضوي بمعنى ضرر الوراثة التي وصفنا (التزاوج الداخلي والعاهات الخلقية) أن يعتبر ذلك من علم الدين الطبيعي بقانون طبيعي.
فيكون مفهوم المحارم في الإسلام جزءا من الدين الطبيعي او الفطري الذي تكون شريعته هي بدورها ناتجة عنه وهي تختلف عن الشرائع التي لا تصدر عن الطبائع. وقد يبرر حل ابن تيمية ما يظن حلا اعتزاليا وهو غيره: فالاعتزال يعتبر التحسين والتقبيح من الطبائع عامة وليس من طبيعي الديني في الإنسان.
وإذن فطبيعي الديني في الإنسان يختلف عن مفهوم الطبيعي عامة: وهو ما وصفناه بالعلاقة المباشرة بين الله والإنسان وغير المباشرة بتوسط الطبيعة والتاريخ شرطي قيام الإنسان من حيث هو كائن عضوي وروحي له شرط الاستخلاف فيهما بما يصدر عن العلاقة الأولى دينا طبيعيا ذا تشريع نابع عنه بهذه الصفة.
وهو ما يعني أن الإنسان لا يختلف عن الحيوان بالعقل -الذي هو أداة لا تحدد الغايات بل الوسائل لتحقيقها-بل بالديني الطبيعي أي بشروط إمكان العقل نفسه وهو الإيمان بحقائق لا تحتاج إلى علم نظري شرطه العقل: العلم العملي المباشر الذي يتألف منه وعي الإنسان بمحدوديته ومائتيته ونسبية افعاله.
فيكون الديني الطبيعي هو هذه الحقائق الإيمانية التي لا دليل عليها: كل إنسان يعلم أنه لم يكن ثم أصبح وأن كائن ثم يموت وأنه ضعيف أمام المرض والجوع والقوة وأنه كلما نسي ذلك كان في شبه غيبوبة عن ذاته غير دار بأن بقاءه بين لحظتين لا شيء يضمنه غير الاستسلام للإيمان بسنن الوجود.
وبهذا المعنى فلا وجود لما يميز الإنسان عن الحيوان إلا هذا الوعي بالذات وبشروط قيامها وبحدوده ومن ثم بكون صفاته المقومة لذاته هي وعيه بحدود إرادته وعلمه وقدرته وحياته ووجوده. وهذا هو أساس الأخلاق التي هي هذا الوعي بالحدود الذاتية وبالعدل الذي يلازم الشعور بالظلم وعدم نسيانه.
فينتج أن الديني الطبيعي في الإنسان هو اساس البعد الخلقي من العقل لأن العقل من دونه يكون أداة خير وأداة شر ككل الصفات الخمس التي ذكرت: الإرادة يمكن أن تكون إرادة للخير أو كراهة له فتكون إرادة للشر وقس عليها العلم والقدرة والحياة والوجود. لذلك فالرسالة تذكير بذلك وتحذير من نسيانه.
ومعنى ذلك أن الإسلام لا يعتبر الوحي إعلاما بمضمون الرسالة الخاتمة بل هو يعتبر هذا المضمون مكتوبا في “جينوم” الإنسان أو فطرة فطر عليها وإنما هي تذكير به وتحذير من نسيانه. وآيات الميثاق او شهادة ذرية آدم وهم في ظهور آبائهم عبارة رمزية عن هذه الحقيقة: دين الفطرة الطبيعي.
وبهذا المعنى يكون الدين الطبيعي ساعيا إلى جعل الشرائع لا تتنافي مع الطبائع ومن ثم فهو ينبغي أن يصبح استراتيجية سياسية تعمل بالتربية والحكم لجعل الإنسان يدرك هذه العلاقة التي تبين التناغم بين الطبيعي والتشريعي فتحرر الأول من الرد إلى أسفل سافلين والثاني من الحرب على كيان الإنسان.
وهذان هما الخطران اللذان يهددان سلامة الإنسان البدنية والروحية: فظن البدن يتنافى مع الروح كذب عليه لأن مناعته الذاتية تتنافى مع ذلك وظن الروح محكومة بما يتنافى مع البدن كذب عليها لأن حصانتها الخلقية تتنافى مع إهمال العناية به نظافة وشروط قيام. فيكون كلاهما لا يقوم من دون الثاني.
وبذلك يتبين أن المعادلة الوجودية مرسومة في كيان الإنسان البدني والروحي بل هي من جنس الوازع الذاتي الذي يجعل الإنسان في آن أمرا ومأمورا ككيان روحي يشده إلى هذا الموقف كيانه البدني أكثر من كيانه الروحي: فالبدن لا يكذب على نفسه شعورا بما وصفنا من هشاشة منزلة الإنسان الوجودية.
فيكون البدن بهذا الشعور وكأنه الصوت الذي يعبر عن الوعي بحدود كيان الإنسان ومن ثم فهو أساس أخلاقه بخلاف ما يتوهم الكثير ممن يتهم البدن بما ينتسب إلى الثقافي وليس إلى العضوي فيه. وذلك هو معنى المقابلة بين أحسن التقويم والرد إلى أسفل سافلين. وذلك هو مفعول الشرائع المنافية للطبائع.
لذلك فشروط الاستثناء من الخسر في سورة العصر هو ما يترتب على الطبائع في الشرائع: فالإيمان والعمل الصالح شرط التعاون في الجماعة التي هي شرط بقاء الإنسان الطبيعي. لكن الجماعة لا تحقق هذا الشرط إلا إذا عملت بالتواصي بالحق وبالتواصي بالصبر أي معرفة الحق والصبر على العمل به.
فلا يكون الحسن والقبح صفة ذاتية للأشياء بل هو صفة ذاتية لما هو ديني طبيعي في الإنسان. لو كان صفة ذاتية للأشياء لكانت الشرائع من وضع العقل الذي يعلمها كما يعلم صفاتها الذاتية المقومة لها. لكن الحسن والقبح علاقة إضافية إلى حاجات الإنسان السياسية تربية وحكما ليحقق قيامه الخلقي.
وإذن فأحكام الأشياء القيمية التي يتأسس عليها كل تشريع لا تستمد من صفات الأشياء كما في المعرفة العلمية بل هي تستمد من صفات التشريعات التي يحتاج إليها الإنسان ليحقق شروط وجوده الخلقي بفضل التربية والحكم أي بالسياسة التي تقرب التشريعي من الطبيعي إذا كانت بحق سياسة سوية.
ولو قلنا إن العقل يحسن ويقبح وكان “المعقول” هو إرادة الأقوياء فإن “ذوقهم” هو الذي يحدد الحسن والقبيح فيكون الحسن والقبيح خيارات ثقافية ذاتية للغالبين ويضاف عليه اسم العقل حتى يفرض كما يحدث في أي مجتمع يدعي أصحابه أنهم يحتكمون إلى العقل أي إرادة الاقوياء لا مقومات وجود الإنسان.
إلى حد الآن اكتفينا بالكلام على المفهوم الثاني عند الغزالي -النفي الأصلي-ولم نتكلم في المفهوم الاول -البراءة الأصلية-وكلاهما استعمله الغزالي لبيان امتناع أن تكون أحكام الافعال بمعناها الشرعي (اثنان سالبان واثنان موجبان وما يمكن اعتباره الدرجة صفر أي عدم الوصف الشرعي سلبا وإيجابا المباح).
وكما أسلفت فإن مفهوم البراءة الأصلية أثرى وأعقد وسنحاول الكلام عليه في الفصول الموالية. يكفي الآن أننا بينا أمرين مهمين: مغالطة القول إن العقل يحسن ويقبح دون تمييز بين دوره بعد اختيار الحل السابق عن تنسيقه عقليا ودوره اللاحق فنفيهما لا يعني نفي دور العقل في التشريع.
ما يريد اثباته نفاة التحسين والتقبيح العقليين-وإن لم يوفقوا في بيان هذا التمييز لعدم تحديد مناط الإشكال-هو بيان الطبيعة الإضافية للغاية من التشريع. فالوصف التشريعي للأفعال ليس صفة ذاتية لها بل هو علاقة بين الأفعال والغايات التي يريدها المشرع الله أو الإنسان في سياسة البشر.