الاسلام أو في العلاقة بين الطبائع والشرائع – الفصل الأول

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله الاسلام او في العلاقة بين الطبائع والشرائع

نال الكلام في الظرفيات السياسية ما يكفي. فلنمر الآن إلى قضايا فلسفية لعلها ذات صلة بما أعاق فكرنا فجعل وضعيتنا السياسية والاستراتيجية على ما هي عليه من ضعف وعدم إدراك لشروط التدارك السريع قبل أن تذهب ريحنا لأن كل الكواسر والأعداء تحالفت ضد شروط قيامنا المادية والروحية.

ولست أنوي العودة إلى هذه الإشكالية فقد نالت حظها لأني خصصت لها عشرين فصلا في محاولة سابقة. ما أريد أن أبحث فيه هو قضية فلسفية قبل كل شيء ولها انعكاس على معارك الكلام القديم ومعارك ما يسمى بالكلام الجديد لعلل منهجية ومعرفية أهمها قضية نظرية المعرفة القائلة بالمطابقة.

ولأبدأ فأحدد القصد بالمرجعية النصية والوجودية. كان من المفروض أن أصف الوجودية بأكثر دقة لأن النصية أيضا لها صلة بالوجود مثل الثانية إذ الصلة هي في الحقيقة بالمقابلة بين ضربين من رؤية الوجود: من خلال النص أو من خلال ما يزعم من علاقة مباشرة بين العقل الإنساني والوجود.

وهذه طبعا من أوهام القائلين بقدرة العقل على التخلص من مرجعياته الثقافية التي هي رؤية معينة قد تكون مكتوبة في نص أو شائعة في تقاليد واساطير واعية وغير واعية هي الرؤية التي ينطلق منها الإدراك الإنساني باعتبارها مناخا روحيا هو المحدد لـ”روح” عصر في ثقافة معينة: وهي بنحو ما نص.

ونستطيع أن نسمي هذا المناخ الروحي المتحكم في الرؤية بأحكام العصر المسبقة في كل فكر كل ثقافة وحضارة. ولهذه العلة فإن أهم بداية في الفكر الفلسفي هي عملية النقد والتخلص من هذا المناخ الروحي الذي هو شبكة من الأحكام المسبقة تحول دون الاتصال المباشر بين الفكر والوجود.

وليكن مثالنا من حضارتنا محاولة الغزالي في المنقذ أو محاولة ديكارت في التأملات. فكلاهما اراد أن يحرر عقله من الاحكام المسبقة لثقافته في عصره. لكننا نحن نكتشف بعدهما أنهما لم ينجحا قيد أنملة وأن ما توهماه نفاذا مباشرا للوجود بقي حبيس الثقافة والحضارة وتراكم التراث الفلسفي والديني.

لذلك فتجنبا لهذه الإشكالية التي هي أساس ما يسمى بما بعد الحداثة التي جوهر رؤيتها أن الفكر مهما فعل يبقى حبيس “سردية” مؤسسة في الحضارة التي ينتسب إليها. والمعلوم أني لا أقول بهذا الرأي فعندي أن الفكر كوني بسعيه لتجاوز السرديات الحضارية من خلال سردية كونية تميز بين الطبائع والشرائع.

والشرائع هي جملة ما يضيفه الإنسان لما فيه وفي عالمه من متجاوز كأفق متعال على إرادته وعلمه وقدرته وحياته ورؤاه. فيكون له معيار يمكن أن يحقق بمجرد وجوده كصبو لتجاوز رؤية اساسها مفهوم متعال على رؤاه وتصوراته الإضافية للحضارات هو معنى الوجود المشترك بين البشر وراء تعددهم الحضاري.

وأعجب ما في الأمر أن هذه الرؤية حددتها الآية الأولى من سورة النساء (وهو ما جعلني اعتبر الإسلام متجاوزا للفلسفة في تحديد مفهوم الإنسان): فهي تميز بين الطبائع والشرائع أو بين مستوى المربوبية ومستوى الآلهية في كيان الإنسان. فبما هو مربوب هو واحد وبما هو إلاه هو متعدد بتعدد الأديان.

والترجمة الفلسفية لهذا المفهوم هو التمييز بين ما في الإنسان من طبيعة وما فيه من شريعة أو ما في كيانه وما في شروط قيام كيانه من طبيعي أي البايولوجي وشروط قيامه ومنه أيضا تعدد الخيارات الحضارية التي هي حلول متعددة مضمونيا وواحدة شكليا لتحديات شروط القيام العضوي والنفسي.

ولأضرب مثالين: كل البشر لهم بمقتضى كيانهم العضوي والنفسي نفس الحاجات الغذائية والجنسية. لكن علاج الحضارات لسد هذه الحاجات متعدد بمقتضى الشروط الجغرافية والتاريخية لإنتاج ما به تسد الحاجات. فيكون العلاج شكليا واحدا رغم أن مضمونه متنوع بمقتضى تعددها مضمونيا ووحدتها وظيفيا.

ومعنى ذلك أن الحضارات تتعدد فيها ثقافة المائدة (الغذاء) وثقافة السرير (الجنس) لكن وظيفة المائدة ووظيفة السرير واحدة وهي كونية لا تختلف بها الحضارات إلا من الثقافة التي هي شرائع وليست طبائع. وهي شرائع مضمونيا (كيفية العلاج لسد الحاجة) لكنها طبائع شكليا (سد الحاجة الواحدة).

ولما كانت كل العلوم أدوات لسد حاجة هذين الوجهين من حياة الإنسان وكل الفنون تعبيرا ذوقيا مصعدا من الذوق الأساسي المتمثل في سد هاتين الحاجتين الغذائية والجنسية وما يتبعهما من شروط الصحة والمتعة والوظائف العضوية والنفسية بات واضحا أن كونية البشر ثابتة وأن تعدد السرديات يدعمها.

لكن الجديد في الإسلام هو أنه يعتبر الدين كذلك أمرا فطريا أو جزءا من الطبائع وليس من الشرائع وأن الاديان التي لا تقول بذلك هي تحريف للدين الفطري او للإسلام أو “للدين عند الله”. وهذا من أعجب الظاهرات التي غابت عمن يريد أن يعامل الإسلام وكأنه سردية مثل الاديان الاخرى والأساطير.

ومما يثبت هذا الاختلاف النوعي في الإسلام أنه يميز بين الطبائع والشرائع في الدين تمييزه بين الربوبية والألوهية في نفس الآية الأولى من النساء وتمييزه بين الرحمين الكوني (ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة) والجزئي (الله الذي تساءلون به والأرحام). وهو تواز بين وحدة الكونية وتعدد السرديات.

فـ”لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا” دليل تعدد الشرائع. والتسابق في الخيرات نحو غاية هي الوصول إلى مطابقة الشرائع للطبائع الدينية غاية لهذا التسابق هو ما تثبته الآية لأن الله لو أراد أن يكون البشر على ملة واحدة لفعل لكنه أراد التعدد ليكون السعي للغاية فعلا حرا تبينا لرشد من الغي.

فتكون المسافة بين المربوبية (طبائع) والآلهية (شرائع) هي فسحة وصول فعل الإنسان الحر إلى تحقيق الغاية مما يبدو فعلا مضطرا بمعنى الفطرة الدينية في القرآن أو الإسلام من حيث هو فطرة إنسانية هي الكوني في التناسق بين الروحي والعضوي لدي البشر: من هنا اعتراف الإسلام بوحدة كيان الإنسان.

فما كان الفلاسفة والأديان المحرفة يحقران منه (البدن) صار من أهم مشاغل الإسلام نظافة وغذاء وجنسا وهو ما كانت المسيحية تعتبره دليلا على أن الإسلام ليس دينا بل هو بدعة حرفت مفهوم الدين الذي بنوه على اعتبار الجنس جريمة موروثة مؤولين قصة التفاحة تأويلا مرضيا ضد وحدة كيان الإنسان.

احتقار المادة عامة والبدن خاصة وحتى فكرة البعث الروحي دون البدني كل ذلك أمور يستهجنها الإسلام لأنه يرى أن كيان الإنسان المتناسق بدنيا وروحيا هو عين الفطرة التي تتناغم فيها الطبائع والشرائع. وإلى اليوم ما تزال الحضارة الغربية قائلة بالجريمة الموروثة (Die Erbsünde) فتدنس الجنس.

وأصل إلى بيت القصيد: ما سميته فساد علوم الملة الذي ذكرت به في بداية هذا الفصل الأول هو أنها آلت في الغاية إلى عدم إدراك هذه الخاصية الجوهرية للإسلام فأصبحت بمفعول الفلسفة والتصوف خاصة قريبة من رؤية احتقار المادة (فلسفيا) واحتقار الحياة (صوفيا) ففقد الإسلام كونيته ليصبح إحدى السرديات.

ومن مهازل غياب هذا الفهم لطبيعة الرسالة الخاتمة أن كاريكاتور التأصيل وكاريكاتور التحديث بغير وعي صاروا يعتبرونها سردية من السرديات فيعاملونها وكأنها ظاهرة ثقافية أضيفت إلى الطبيعة وهو معنى الشرائع وليست محاولة لتحديد الواحد المشترك كيانا في التعدد الإنساني علاجا لتحقيق شروطه.

ولهذه العلة فكل ما تضمنته علوم الملة استمدادا مزعوما من القرآن رؤية وجودية وكل ما تضمنه نقد الإسلام الحداثي استمدادا من سوء فهم هذه الرؤية اعتبره عديم المعنى والدلالة على ما في الإسلام من قيم ما تزال الإنسانية دون إدراك ثرائها وتقدميتها وكونها مستقبل البشرية حتما.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
آخر تحديث 05-04-2025
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي