من الأخطاء الاستراتيجية التي غالبا ما يقع فيها الإسلاميون، جعل المعارك القيمية تحصر في صفين: • من يدعون تمثيل الحداثة. • ومن يدعون تمثيل الأصالة. فلكأن كلا الصفين، تسليما جدليا بصحة هذا التمثيل، كتلة واحدة لا يوجد فيها خلافات قيمية قد تكون أوسع شقة من الخلاف بين الصفين فيها.
ولهذه العلة، فهم غالبا ما يخسرون معاركهم، رغم كونهم في الكثير منها يكونون هم أصحاب الحق. ذلك أن المعارك لا تربح بمجرد الانحياز إلى الحق، بل لا بد للحق من أن يكون مستندا إلى استراتيجيات تجعل أصحابه ينتصرون على الباطل. فالغاية الحميدة لا تتحقق بذاتها لمجرد كونها حميدة، وخاصة في ظرف يجعل الإسلاميين في موقف يستضعف داخليا وخارجيا: فعملاء الاستعمار ومافياته هي التي بيدها الحل والربط في الداخل، وإذا عجزوا، يأتيهم المدد من الخارج. فهم في وضعية إسرائيل لا يسمح الاستعمار بهزيمتهم، فإن لم يغلبوا بما لديهم من أجهزة الدولة ومال الثورة المضادة يتدخل لحمايتهم.
ولهذه العلة حصرت نقاشي مع هذه اللجنة التي ليس لها صفات اللجان العلمية والفنية والتمثيلية في شكليات علاج القضايا القيمية، ولم أدخل مع أي منهم في مضمون التقرير، لأن ما فيه ما يزال في العالم كله موضوع نقاش فكري وقيمي في الجماعة كلها، وليس شيء منه محسوم بحيث يحتج بكونية الحل. فهذه المسائل – الاسرة والمساواة والمثلية والاجهاض والعلاقة بين المرأة والرجل ومسألة الجنس في الجماعة – كل هذه المسائل القيمية مسائل نقاش في الجماعات وليست مسائل حسم قانوني إلا بطرق الحسم في المسائل القيمية وهي غالبا ما تكون في برامج انتخابية ولخطرها تحسم بالاستفتاءات الشعبية.
لذلك فلا يمكن أن يبقى العلاج على ما هو عليه حاليا: لجنة رسمية تدعي تمثيل الحداثة وردود فعل شبه “رسمية” تدعي تمثيل الأصالة. ذلك أن نزول الأئمة ومن يسمون أنفسهم علماء دين، لا يقوي صف من يرد إفحام الخصوم، بل هو يقويه لأنه يصبح حجة على كذبتهم في ادعاء المعركة بين التقدم والتخلف. فبهذه الطريقة خسر الثعالبي وربح بورقيبة، رغم أن هذا لم يكن أدرى من ذاك بالرهانات ولا حتى بالحداثة وخاصة بما كان يجري في الجيوسياسة الدولية. لكن خدعة المقابلة بين الحداثيين المزعومين-الصادقيين وهم خدم الإدارة الاستعمارية- والزيتونيين – وهم خدم الإدارة التقليدية- دون دراية بالرهانات. فالرهان اليوم بين لجنة الحريات المزعومة وبين معارضيها يجري في أفق يريده هؤلاء معبرا عن نفس المقابلة بين التقدم والرجعية. والاقتصار على هذه المقابلة يجعلها لصالح أدعياء التقدم رغم أن كل شيء يثبت العكس تماما. فهل يوجد عاقل يرى مستقبلا للمحاكاة القردية لما يسمونه حداثة يعقوبية؟ والحداثة اليعقوبية تتمثل في ظاهرتين: 1. التغيير القيمي بعنف الدولة -وهنا المحمية- في حين أن المسائل القيمية من التاريخ المديد الذي يجري في المجتمع المدني الحر والذي تشارك فيه كل توجهاته وحساسياته قبل أن تصبح مسألة سياسية تعالجها الدولة بالطرق الشرعية وليس بالتحيل قصير النظر؟ 2. والخاصية الثانية هي الرؤية الفلسفية الضيقة التي هي أساس كل “دغمائية” لأن أصحابها يتصورون أنفسهم على دراية بكل الحقيقة بحيث الحداثة اليعقوبية أكثر دغمائية من القدامة “الكاثوليكية” لأنها في الحقيقة كاثوليكية مقلوبة: ما كانت تطبقه الكاثوليكية نقليا يطبقون عكسه ويزعمونه عقليا.
بحيث تستطيع وأنت مطمئن البال أن تعرف الجماعة التي تدعي الحداثة في تونس تعريفا جامعا مانعا: أنصاف مثقفين تجمدوا في المشترك بين اليعقوبية الماركسية دون نقد، لظنهم أن مادية فلاسفة الثورة الفرنسية وجدلية الثورة الماركسية معرفة علمية بالتاريخ الإنساني المردود إلى التاريخ الطبيعي. ولما يستعمل الإسلاميون المحرك الديني في مثل هذه المسائل، فهم يعترفون بأنهم فاقدون لما عداه بمعنى أنهم لم يفهموا طبيعة القضية المطروحة. هم يعودون بها إلى نفس الوضعية التي يعود إليها خصومهم: المقابلة الغبية بين النقل والعقل لأن النقل أو العقل تسليما بالفصل بينهما، حسماها حسما خاتما. عندما ينزل الأئمة بالزي الرسمي للإمام، فهم يرجعون المعركة إلى ملحدي القرن الثامن عشر مع الكاثوليكية فيضعون القضية بالشكل الذي يريده خصومهم ويخسرون المعركة لأنهم لا يجهلون خطة الخصم ويعملون في إطارها من حيث لا يدرون. فهل شباب الإسلاميين ما يزال يعيش على التربية التقليدية؟ حصر المعركة في صفين من علامات سذاجة الإسلاميين ودهاء خصومهم. ومن يحلل الوضع موضوعيا سيجد أن هذه المعارك تهم الأغلبية الصامتة التي لا تنتسب لا إلى الإسلاميين ولا إلى اللاإسلاميين. هم مواطنون عاديون ليس لهم انتساب مسيس لكنهم لو وعوا بأهمية الرهانات لكانوا أفضل المدافعين عن قيمهم. وأول طريقة لتحقيق ذلك تجريد القضية من تحولها إلى قضية أيمة ومساجد مقابل “أدعياء” الثقافة الحديثة أي قضية “فنانين” و”مفكرين” و”مثقفين”، وكل ذلك دعاوى تريد قلة بها نيابة شعب مغيب لم يشركه أحد في رهانات حياته اليومية وقضاياه القيمية. وطبيعي أن يكون ذلك إذا رئيس الدولة نفسه عابثا. حاولت أن أشير إلى أن القضايا التي تدعي اللجنة علاجها ليست محسومة لا في الفكر الحديث ولا في الفكر الإسلامي، وأنها ما تزال مطروحة للنقاش العام ولا يمكن حسمها بقرار فوقي خاصة إذا كان ذلك لم يسبقه شرطان: 1. الحوار الوطني العام 2. والبرمجة السياسية لنيل الاغلبية لخيار مشروع من خيارات علاجها لكني أعتقد أن عملية الاستقطاب حدثت كما أرادها رئيس الدولة ليظهر ما يريد تمثيله: أنه يقود التحديث في صراع مع “الظلاميين” بدليل أنهم لجأوا لطرق الدفاع التقليدية باستعمال الأيمة والمساجد وليس الشعب عامة، بصرف النظر عن المقابلة بين إسلامي وغير إسلامي، بل كمواطن يدافع عن قيمه الحضارية.
لكني لن أيأس. سأواصل السعي لإثبات أمرين: فمن يوظف الفلسفة والحداثة لا يقل دغمائية عمن يوظف الاصالة والدين. تونس خاصة والمسلمون عامة ينبغي أن يخرجوا من هذه الثنائية العقيمة التي نجح الاستعمار وعملاؤه بوضع النخب في جبها وعلينا أن نخرج منها ونشرع في الاستئناف.
المسائل القيمية ليست مسائل يتقابل فيها الديني والفلسفي بل هي مسائل دينية وفلسفية. لا الدين ولا الفلسفة حسما في الإشكالي فيها، بل كلاهما يبحث في حلول تسعى إلى الجمع بين الكونية والعينية لتكون جامعة بين المتعالي والمحايث، بعدي الإنسان سواء في المنظور الديني أو في المنظور الفلسفي. وكم أعجب من كثرة استعمال “فصل المقال” عند كلا الطرفين. فهذه قضايا سرمدية من الأزل إلى الابد، لا يحسم فيها مقال لا بالعقل ولا بالنقل ولا بالوحي ولا بالكشف، بل هي مناوسة بين الأوضاع الوجودية التي تمر بها الإنسانية صعودا وهبوطا في “ذوقها” الوجودي والقيمي ذي السيلان الأبدي.