الاسلاموفوبيا، تحييد دوافعها السطحية شرط الانتصار عليها – الفصل الثالث

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله الاسلاموفوبيا تحييد دوافعها السطحية شرط الانتصار عليها

تغيير مسرح المعركة والاستراتيجية الملائمة تحققت في أمريكا حققها الملونون ذوو الأصل الافريقي ويمكن أن نعتبر أن صفهم قد تمتن بفضل انضمام المهاجرين ذوي الثقافة اللاتينية من أمريكا الجنوبية وبعض المسلمين من آسيا ولم ينجح بعد المسلمون من اقليمنا في الانضمام إليهم بسبب خلافات العرب. لكن مع ذلك يمكن القول إن الاستراتيجية المؤثرة حقا هي التي وصفنا والتي اصطلحنا على تسميتها بتكيف المبنى السريع واعطاء الوقت للمعنى حتى يتفاعل بين الثقافتين المتنافرتين ثقافة الأقوى العنصرية وثقافة الأضعف التي بدأت تتغلب على العنصرية بالثقافة الشعبية (الرياضة والموسيقى والرقص). ثقافة روحها افريقية وشكلها أمريكي من حيث اللغة واللباس رمزي الاندماج الشكلي أو المبنى الواحد والمعنى المتنوع. ولما كانت الثقافة الشعبية تمثل الاغلبية دائما فهي تعم بالتدريج وخاصة بين الشباب والنساء في عالم ليس لثقافة الخاصة فيه سلطان يحول دون حريات العامة فإن النتيجة معلومة مسبقا. والخاصة لفرض ثقافتها العنصرية تستعمل بعض العامة -نوع من البلطجية-ضد هذه الثقافة فتقع في فساد خطتها لأن هذه البلطجية سرعان ما تخسر المعركة بسبب فشو الثقافة الشعبية الرياضية والموسيقية والحياة الجماعية الاحتفالية في المهرجانات الفنية والاعياد الشعبية: عالم جديد. لكن المسار الراقي في نظام التربية والسياسة والاقتصاد وحتى الثقافة العالية مثل الإبداع الأدبي خاصة -الرواية- يسير ببطء والاختراق فيه نادر لكنه مؤثر لأن النخب الملونة بدأت تصعد في سلم هذه الثقافة الخاصية وأصبحت داعمة للثقافة الشعبية. فيلتقي المساران من تحت إلى فوق ومن فوق إلى تحت. وذكرت أن من أهم العوامل التي قد لا تهمل في تحليل مثل هذه الظاهرات وأعني العلاقات الحميمة التي تحدث في الثقافة الشعبية بين الجنسين والاختلاط بين الأعراق والألوان. فلهذه أهمية كبرى بين الشباب من الجنسين حيث إن الاختلاط بين الأعراق يجعل المجتمع فسيفساء من الاجيال المهجنة. وهنا يخسر من يتصور نفسه العرق الأفضل معركته وتزداد أزمته الوجودية: ذلك أن الحيوية العضوية للعرق المحتقر هي التي تتفشى بسرعة مذهلة فتعمل عمل بقعة الزيت في النسيج الاجتماعي الذي يتلون بالتدريج فتصبح كل الأسر مخترقة بالملونين بفضل العلاقات الحميمة وما يترتب عليه من تهجين الأجيال. صحيح أن هذه الاستراتيجية بطيئة لكنها مفعولها مضمون ولا يقبل الرجع. فهو في امريكا تطلب قرنين لكن تسارعه بدأ منذ أقل من نصف قرن وهو يكتسح أمريكا بصورة مذهلة وخاصة بعد أن تدعم صف الملونين السود بصف الملونين الذين هم بين السود والبيض أو اللاتين والصفر والشرقيين عامة. وليس بالصدفة أن صارت قضية الهجرة من أهم القضايا وأنها المؤشر الأساسي لظاهرة الإسلاموفوبيا في أوروبا لأن جل المهاجرين إليها من غير ثقافتها المسيحية (المهاجرين من أوروبا الشرقية مثلا) جلهم من المسلمين ومن اقليمنا بالذات (عرب وأتراك وأمازيغ وأكراد) وهم يعتبرونها غزو بايولوجي. وموقفهم من الظاهرة حرج جدا: فمن جهة توجد بلاد أوروبية بحاجة أكيدة لتجديد الطاقة العضوية لأنها تعاني من الشيخوخة (ألمانيا واسبانيا مثلا) وبحاجة إلى قوى عاملة شابة وأيضا إلى محاولة تغيير منحنى الحيوية العضوية (التغلب على الشيخوخة العضوية) لكن غياب هذه الاستراتيجية يقوي اليمين. ويمكن أن نرمز للأمر بالأتراك في ألمانيا وبالمغاربة عامة وبالجزائريين خاصة في فرنسا والمغاربة خاصة في هولندا وبلجيكا والتونسيين ما زالوا دون الجزائريين والمغاربة في هذا المضمار ربما بسبب قلتهم بالقياس إليهما. وعلى كل حال فأغلب التونسيين يجزأرون أو يتمغربون بالاندماج مع الاكثرية. فنحن نلاحظ مثلا أن جل عمالنا في أوروبا تجزأرت لغتهم أو تمغربت وخاصة أذواقهم في الفنون الشعبية وفي الرياضة التي لم يبق فيها من التونسي إلا القليل. وهي ظاهرة صحية فشباب المغرب المهاجر اتحد رغم محاولة اللعب على زرع الفتنة بين العرب والأمازيغ لينسوهم ثورة آبائهم الواحدة على الاستعمار. لكن التمييز العنصري هو العامل الأساسي الذي وحدهم إذ حتى الحركيين الذين انحازوا لصف فرنسا في معركة الاستقلال لم يجدوا العرفان فانضموا بالتدريج إلى “المنبوذين” وصار صف المغاربة واحدا بل حتى “السوق السوداء” وجد الكثير منهم أنفسهم أقرب إلى المغاربة منهم إلى الفرنسيين الذين يحتقرونهم. وقد بدأت ثقافة المجتمع الأدنى تسيطر بالتدريج في فن المائدة وفن السرير وفي الرياضة وفي الفنون الشعبية وفي المهرجات الشبابية والاخلاط الجنسي وخاصة في الأحياء الشعبية أو احواز المدن الكبرى حيث يلتقي الفقراء والمنبوذين وغير المندمجين في ثقافة المجتمع “الراقي” مافيات القوة والترف. وأذكر أني لما كنت طالبا في فرنسا واضطررت للعمل في محطات القطار وفي المعامل وفي حراسة الفنادق وفي الكتابة في الجامعة رأيت من أعاجيب هذه العلاقات ما يذهل المحلل الاجتماعي للتفاعل الثقافي بين طبقات المجتمع والتوالج بين الثقافات المختلفة حيث يصبح الإنساني الكوني هو المسيطر. وتبرز هذه الظاهرات المتعالية على الصراع بين الثقافات في الأعياد الدينية التي يشارك فيها المسلم المسيحي في مهرجاناته والمسيحي المسلم في مهرجاناته (رمضان خاصة) بين الشباب والطبقات الشعبية الذين ليس لديهم التأفف المتبادل في الطبقات العليا والتي شيئا فشيئا بدأت تأتيها “العدوى”. وهنا أعود إلى المفهومين اللذين اصطلحت على استعمالهما في كلامي على الذوق وسلطانه في كل المجتمعات: ففن المائدة (كناية على الغذاء وما يصحبه) وفن السرير (كناية على الجنس وما يصحبه) هما السهم الحاملة للعدوى الثقافية في هذه الاستراتيجية مع الرياضية والموسيقى وتجانس الوضعيات الطبقية. في أحدى سنوات دراستي في باريس اضطررت للعمل في مصنع علب الأدوية ورأيت العمال العرب والاتراك والفرنسيين كيف يتعاملون بوصفهم عمالا وبشرا دون اعتبار للفروق الثقافية أو العرقية بحيث أن الوضع الاجتماعي هو المحدد للعلاقات بينهم بصورة تعيدهم إلى الوحدة الإنسانية فوق كل شيء. وفي سنة أخرى اضطررت في الصيف إلى توزيع اعلانات تسويق لنوع جديد من عجين نظافة الفم والأسنان فتجولت في الأحياء حول مدينة باريس وناسب أن كان ذلك في عيد الاضحى فرأيت “جيتوات” الحركيين ومعازلهم قبل أن ينضموا إلى الجالية العربية والأمازيغية التي بدأت تحتل منزلة محترمة في فرنسا. ورغم أني كنت أسكن في قلب باريس -باريس 2 في الأوبرا قريبا من اللوفر حتى إني اكتفيت بدراجة هوائية في تنقلي إلى السوربون-فإني كنت دائما اتجول في الأحواز والأحياء الشعبية إما لضرورة العمل لأن المنحة لم تكن كافية أو لحب الاطلاع على حياة الطبقات الدنيا من الشعب حيث التحولات الجوهرية. وأعتقد أن المهاجرين العرب والأمازيغ والأتراك والأكراد والفرس وكل من يأتي من الثقافات الشرقية-لا من الشرق الاقصى-تحرروا من سلطان حكام بلادهم الاصلية وأصبحوا بالتدريج فاهمين الاستراتيجية الجمع بين التكيف بوحدة المبنى وتنوع المعنى: الاندماج مع المحافظة على مقومات الهوية الروحية. لكنهم بخلاف الملونين في امريكا ينتسبون إلى حضارة ما تزال حية ولهم فيها “عروق” لأن أسرهم ما تزال في أوطانهم الأصلية وهو ما يجعل التكيف في المبنى عسيرا وخاصة في ما يتعلق باللسان. ولعل هذا هو الذي يعطل أطفالهم في الدراسة وفي التكيف النازل من فوق إلى تحت أي في ثقافة الطبقة القائدة لكن ولله الحمد فبعض الشباب من المغاربة والجزائريين وحتى التونسيين وهم الأقل من حيث العدد بدأوا يصعدون في المسار التعليمي والمهن الحرة وحتى في السياسة والاقتصاد. وصعودهم يجري بصورة أسرع من صعود الملونين في أمريكا لأن الهجرة في أوروبا حديثة بالقياس إلى العبودية في أمريكا. وقد أغفلت الكلام على المهاجرين العرب من المشرق لأنهم بصنفيهم لا ينتسبون إلى هذا الذي النوع الذي له دور في التغيير الكيفي للاستراتيجية -رغم أن الامر تغير بعد الربيع-فهم إما مسيحيون و”نخب” مزعومة من توابعهم أو من اثرياء الخليج ونخب مزعومة تابعة لهم وليسوا تابعين لما أتكلم عليه. ولذلك فهم في الأغلب وسطاء بين الأنظمة العربية والأنظمة الغربية وقلة منهم من المهاجرين بالمعنى الذي أتكلم عليه حيث يشبه المهاجرون في أوروبا الملونين في أمريكا. الفرق أن هؤلاء كانوا عبيد الأوروبيين في أمريكا قبل أن تستقل وبعد أن استقلت إلى أن شرعوا في التحرر بالطريقة التي أصف. أما المهاجرون الى اوروبا والذين اهتم بهم في هذه المحاولة والذين يمكن أن ينغص عليهم دورهم تدخلات الأنظمة ودراويش الحروب الصليبية فقد كانوا عبيدا للاستعمار ولعملائه فهاجروا إلى بلاد المستعمر وخاصة بعد أن أصبحت بلادهم في يد العملاء الذين هم أشد عليهم حتى من الاستعمار المباشر.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي