الاستراتيجيا، شرط الفعل السياسي المحرر من رد الفعل – الفصل الأول

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله الاستراتيجيا

مهما كانت خلافات العرب السنة في الإقليم عامة وفي الخليج خاصة يوجد أمران ينبغي ان يبقيا فوقها لأنها تمس سلامتهم جميعا وتتعلق بشروط بقائهم وصمودهم إزاء المسعيين لإخراجهم ليس من التاريخ فحسب بل ومن الجغرافيا بخطط جهنمية تسندها القوتان الروسية والأمريكية لمنع استئناف الأمة دورها.

ولكن لسوء الحظ فإن ما يبدو مسيطرا هو عكسهما بإطلاق: فالأنظمة والنخب العربية انقسمت إلى خيارين واستثنت الخيار الثالث المستقل عنهما. فالبعض انحاز إلى إسرائيل التي تسعى لأن تكون سيدة الإقليم ليحتموا بها من إيران التي لها نفس الهدف. كلاهما يريد إرجاع الإقليم إلى ما قبل دولة الإسلام.

وحتى نكون منصفين فإن كل ما يسمى دولا عربية-وهي محميات وليست دولا-سبقت إسرائيل وإيران في محاولة تأسيس شرعية ما يسمونه بالدولة الوطنية على ما تقدم على الإسلام حتى وإن ستره بعضهم بما يسمونه القومية العربية وبعضهم الآخر بما يسمونه الحكم بالإسلام.

واصطفاف هذه الانظمة في نظام العالم السابق كان بالانحياز إلى من هم الآن مساندون للذراعين الإسرائيلية والإيرانية مباشرة ثم هم الآن يستسلمون للذراعين بعد أن فوضت روسيا العمل المباشر على الارض لإيران ومليشياتها والنظام الطائفي في سوريا ولبنان. والتفويض الأمريكي لعملائها لم يتغير.

لكني مع العلم بكل هذا أريد أن أفهم مواقف من يتصورون أن كل موقف من إيران لا يفسر إلّا بالانحياز إلى إسرائيل والعكس بالعكس. ومعنى ذلك أنهم لا يريدون حتى في فهم المواقف تصور بعد ثالث يختلف عن هذه الرؤية المثنوية التي تلغي كل فعل موجب يمكن أن يكون محررا منهما كليهما.

وسأطبق ذلك على القضايا الحارقة في وضعنا الحالي:

  1. قضية اليمن

  2. وقضية لبنان

  3. وقضية فلسطين

  4. وقضية الحرب الاهلية العربية أو معركة الثورة والثورة المضادة

  5. وأخيرا معركة النهوض السوي الذي يخرج من معركة الكاريكاتورين التأصيلي والتحديثي.

وبين أن القضية الثالثة قضية فلسطين هي التي تؤسس للوهم الذي يجعل المنحازين لإيران يعتبرونها زعيمة من يدعونها قضيتهم الأولى بمعنى أن هذه الكذبة هي التي تبقي على المغترين بخدعة إيران الاستراتيجية: دعوى المقاومة التي جعلت نخب العرب المنحازة لإيران عمياء صماء بكماء لا يفقهون قيلا.

وهي كذلك التي تجعل كل من يريد أن يعالج المسألة الفلسطينية باستراتيجية مناسبة يعتبرون عملاء لإسرائيل حتى أصبح الجميع بسبب عقم استراتيجيات الكل أو بدونها مضطرا للاستسلام لسياسة إسرائيل بعد أن صار الانحياز الأول خطرا على وجودهم بسبب المد الإيراني واحتلال أهم مراكز حضارة الإسلام.

الفهم الرديء لاستراتيجية التحرر بالبناء وليس بالمضادة جعلت العرب في النهاية يعتبرون معيار تحديد السياسات إضافي إلى ثوابت لا تصلح في أي استراتيجية. فإيران التي تعميهم بكذبة المقاومة والعداء مع اسرائيل حققت ما لم تستطع إسرائيل تحقيقه طيلة نصف قرن بأيد عربية تمويلا وقتالا.

فكانوا بهذه الحماقة في فهم الاستراتيجيا مجرد اوراق تستعملها إيران في تفاهماتها مع إسرائيل وربتها أمريكا وهم يتفرجون بأفواه فاغرة لا تدل إلّا على الغباء والحمق: ماذا ربحت فلسطين من إيران؟

سفارة في طهران والكثير من العنتريات. والحركات الفلسطينية هي التي خدمت إيران وليس العكس.

ومن يعترض على هذا الوصف يكون على صواب إذا توهم أن تمويل بعض الحركات أو مدها ببعض السلاح يختلف في الاستراتيجية الإيرانية عن الحاجة لما يمكن أن يكون ورقة في مفاهماتها مع إسرائيل وأمريكا لأن أهم وسيلة ضغط لديها هو أن يكون لها قواعد مجاورة لإسرائيل حتى تضفي الجدية على عنترياتها.

والهدف الإيراني واضح: كيف تناور حتى تصبح قوة نووية بوسعها أن تقاسم إسرائيل السيطرة على الإقليم في لحظات غيبوبة العرب وحربهم الأهلية التي لا تتوقف لأن قادتها ما يزالون قائلين بمبدأ الثالث المرفوع. فمن: إما مع السوفيات أو مع الغرب انتقلوا إلى: إما مع إيران أو مع إسرائيل.

وعندما توفر الحل الثالث منذ ترسخ السياسة التركية التي تمثل بداية خروج تركيا من عداء نظامها للإسلام والعرب ربما بسبب طلبه شرعية مطابقة لثقافة الشعب التركي وربما بعد اليأس من قبول أوروبا بهم أصبح قادة العرب هم الذين يتهمون تركيا بكونها لا تختلف عن إيران وإسرائيل طمعا فيما لديهم.

بل أصبح أكثر انظمة العرب فجورا وعبثا بقيم الإسلام تحرض منافقيها من رجال الدين وحتى من الليبراليين بأن تركيا غير إسلامية وأنها علمانية وأنها تسمح بالخمور ونسوا أن بلدانهم مبنية على المواخير سواء لديها أو في بعض بلاد العرب من توابعها التي لم تستثمر فيها إلا بجعلها مواخير سياحتها.

وبذلك اضاع حكام العرب عامة والخليجيين خاصة ومعهم نخبهم من الطبالين هذه الفرصة التي كان يمكن أن تخرجهم من منطق الثالث المرفوع الذي لم يعد صالحا حتى في النظر ناهيك عن العمل الذي من خصائصه أنه لا يقول لا بالثالث المرفوع ولا بعدم التناقض لأنه استراتيجية استسناح الفرص لتحقيق الهدف.

أذكر أني في نقاش مع أخي المسفر في دمشق خلال ندوة حول الاستراتيجية التي تمكن من قهر إسرائيل وصلنا إلى خلاف من سياسة السادات. كان ضد وكنت مع. وحجتي أن قوة اسرائيل ناتجة عن امرين: أولهما عدم إقدام العرب على الفعل والاقتصار على رد الفعل وهو الوحيد الذي أخرج العرب من هذا الداء.

والثاني هو استفادة اسرائيل من دعاية مقنعة جدا للغرب الذي يعاني من عقدة الهولوكوست أن اليهود المساكين يحيط بهم ملايين العرب البدائيين المؤمنين بسياسة هتلر وكان أكبر مساعديها في ذلك عنتريات القوميين العرب الذين حكموا شعوبهم بالاستبداد والفساد مثل إيران: عنتريات خاوية ضد إسرائيل.

فأقدم السادات على خطوتين قضتا تقريبا على سر قوة إسرائيل: جعلها لأول مرة تخشى الجيوش العربية التي اقدمت على حربها مبادرين ولا تستطيع أن تتعلل بما تدعيه ضد العرب والجميع يعلم أنهم حتى لو ارادوا لن يستطيعوا الانتصار عليها وهم في الوضع الراهن ما ظلوا تابعين للغرب والسوفيات.

وكان له من النباهة ما جعله يعد لأن يكون عمله بعد إخراج السوفيات من مصر حتى لا يكون فعله وكأنه حصل بفضلهم. لكن العرب خذلوه بسبب عنتريات العراق والجزائر وتبعية الخليج الذي كان يرى رأيه لكنه كان يخاف من العراق والجزائر فكانت مهزلة عزله التي جعلته يخسر ما خطط له بدهاء منقطع النظير.

ولو كان للفلسطينيين حينها ما له من دهاء لدخلوا معه في الصفقة ولبقيت الضفة كاملة خالية من المستعمرات ولتوحدت فلسطين ولو في شكل دولة تحت الانتداب الدولي مؤقتا خاصة وجميع ما يسمى دولا عربية تحت الانتداب الأمريكي أو السوفياتي رغم عنتريات زعمائها في خطابات الاستهلاك الداخلي.

والاستراتيجيا هي التاريخ القبلي أما التاريخ البعدي فهو تاريخ الندم أمام حصيلة الفشل الاستراتيجي والعجز عن فهم مجرى التاريخ الذي هو شرط الاستراتيجية التوقعية: فلا يمكن خوض الحروب السياسية والعسكرية وحتى الاقتصادية إلا بتخطيط النظر البعيد المحرر من سياسة رد الفعل بالفعل المبادر.

والحصيلة أن العرب قياداتهم ونخبهم المنحازين إلى الصفين اللذين لا يرون معهما بديلا أصبحوا قيادات الندم على تضييع الفرص لأنهم لا يفهمون الأحداث إلا بعد حصولها ولا يتوقعون ما يمكن من بناء استراتيجية بعيدة المدى تكون قبلية لا بعدية وهي التي تهدي أفعالهم فتخرجهم من ردود الأفعال.

وثيقة النص المحمول ورابط تحميلها

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي