لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله
الأزمة
ما الذي يجعل محاصري قطر يخسرون المعركة رغم عدم التناسب في القوة المادية؟
فلا حصارهم أثمر ولا سندهم الدبلوماسي الذي اعتمدوا عليه أفاد.
لماذا؟
لو اكتفينا بالتعليل الظاهر لكان تهورهم الناتج عن الغباء وحذر قطر الناتج عن الذكاء كافيين لتفسير خسرانهم المعركة بجبهتيها المادية والرمزية. فالحصار فشل ماديا، وكان الخاسر ماديا أصحابه لا قطر: فإذا كانت غزة مع قلة ذات اليد قد صمدت أكثر من عقد، فكيف بقطر التي لا تنقصها الوسائل.
والحصار فشل رمزيا: فما جاء في لائحة الإملاءات من الغباء والبلادة ما جعل من المستحيل أن يتركوا لمن وعدهم بالمساندة القدرة على عمل شيء يفيدهم.
والنتيجة أني-دون نفي دور الاستعداد القطري للطوارئ وذكاء الدبلوماسية القطرية-اعتقد أنهم فقأوا أعينهم بأنفسهم في وجهي المعركة المادي والرمزي.
ومع ذلك فأنا واثق من أن الرهان الأكبر يحول دونهم والتسليم بالهزيمة والقبول بحل خليجي حتى بضغط أمريكي رسمي. وهذا هو ما أريد الكلام فيه اليوم.
أزمة الخليج ستطول وستطور كثيرا ولن يوقفها إلا الموجة الثانية من الثورة في مصر. فكل أعداء سيادة أهل الاقليم يعتبرونها شرطا لتحقيق الصفقة.
وما استبقته تركيا بالدخول في المعترك كان سيحصل حتى لو لم تفعل: ذلك أنه من دون تحييد قطر وتركيا ومقاومة الربيع وفلسطين لا يمكن عقد الصفقة.
وما يفرحني أنه بخلاف الظاهر، فقد انقلب منطق الأحداث: هم الذين صاروا يردون الفعل والثورة وفلسطين ومسانداهما قطر وتركيا هم الفاعلون ولهم السبق.
فجمع الرابوع بين مآزقه الداخلية ومحاولة “رمرمتها” ضمن التنازلات لحل مآزق الإقليم على حساب ثورة الأمة وقضيتها ضاعف تخبطهم فأعماهم وأصمهم.
وأقصد خاصة الأكبرين حجما: السعودية ومصر. كلتاهما في وحل المآزق الداخلية. والاصغر حجما: مجرد توابع للهاربين إلى حل التبعية ظرفيا وبنيويا.
فظرفيا تتصور الإمارات أن مصر وإسرائيل يمكن أن يقضيا على ما تخاف منه: ثورة الشباب العربي. وتبعية المنامة بنيوية: وهم الثراء الإماراتي منعدم.
وما يجعله الكبيران في المعادلة هو ما بينته سخافة السيسي: المفاخرة بكبر الحجم وعدد السكان. بهذا المنطق فأقوى أمم الأرض النمل والجراد.
ألا يستحي من يفاخر قطر بعدد سكان مصر وكلفة غذائهم أنه جعل مصر تابعة لإسرائيل وجعلها دولة شحاذة حتى في مفاخرته: تغذيتهم بمائة مليار دولار؟
وما أخافه على بلد الحرمين هو أن إسرائيل وأداتها الخليجية يريدون تنصيب سيسي جديد بتأييد من عدوي الأمة الأبرزين: الليبراليون وأصحاب التقية.
ومرة أخرى سيقال لي: وما دخلك أنت؟ ومن تعييهم الحجة المعتادة فلا يجدون أدنى دليل يفسرون به تدخلي المأجور يدعون أني حططت من منزلة الفلسفة.
وحتى أطمئنهم فموقفي هو عين موقف من يعتبرونه ألد أعدائهم: رأيي في ضرورة الجمع بين النظر والعمل والفكر والعقد هو رأي شيخ الإسلام ابن تيمية.
وكل المطبلين لسخافات الرابوع المأزوم لا علاقة لهم بقيم القرآن ولا بقيم الحداثة: فمن لا يغضب للحرية والكرامة ليس مسلما ولا حديثا ولا إنسانا.
وكل الذين يتصورون أن الفلسفة تنحط عندما تنزل لقضايا الحرية والكرامة والحقوق لم يفهم جوهرها وطبيعة علاقتها الوطيدة بالدين فهو عين هذه القيم.
وكم يضحكني الأميون الذين يسمون أنفسهم ليبراليين ويحالفون الاستبداد والفساد وظلم العباد وبيع البلاد طلبا لما لا تلهث من أجله إلا الكلاب.
فما الذي يجعل رابوع الأغبياء لا ييأس وسيواصل العناد ويرفض الحل الودي مع قطر(مباشرة) وتركيا (بصورة غير مباشرة): الخوف من موجة الربيع الثانية.
فمحاولة تنفيذ الصفقة قبل تحييد قطر وتركيا كدولتين والربيع وفلسطين كشعبين مستحيل وهم يعتبرون الصفقة سفينة النجاة لأنظمتهم. وإسرائيل تمنيهم.
ولست أشك لحظة واحدة أن حكيم الكويت ليس غافلا عن ذلك. لهذا رأيت في سحنته شبه يأس من تحقيق انجاز قريب رغم كل التأييد الدولي الظاهر لمحاولاته.
كما أني شبه واثق من أن ما يبدو من سند دولي ليس صادقا لأن أصحابه ينتظرون من قطر وتركيا الحد الذي يعتبرونه كافيا للغرض: القبول بالصفقة.
فقيادات الغرب ليست بغباء قيادات الرابوع: يعلمون أن شباب الربيع وشباب فلسطين لا يشكون في صدق قيادة قطر وتركيا وقد يقبلون بما يقبلون به.
وأفضل طريقة لتحقيق ذلك هي موقف “الإنصاف الكاذب”. لا أصدق أن ألمانيا تقف مع قطر وفي نفس الوقت تحاول محاصرة تركيا بالصدفة. ولي بالغرب بعض علم.
فألمانيا حليف دائم لإيران (لعلة عرقية) ولإسرائيل (لعلة تاريخية) وهي من ثم مجرد أداة في هذه الأزمة: لا أصدق أبدا أن تحركها للإنصاف والخلق.
المطلوب صفقة بأجماع عربي (تهدئة أزمة الخليج) واجماع إسلامي (الضغط على تركيا التي لم يحضر رئيسها مسرحية ترومب في الحرمين): تلك هي خطة الغرب.
ترومب إما لغبائه أو للمناورة يبدو مغردا خارج السرب: في الحالة الأولى لا يهم وفي الحالة الثانية الأمر يؤكد فهمي لدلالة المواقف الغربية.
ولهذه العلة فإني اعتقد أن قادة قطر وتركيا على بينة من الأمر وأنهما يجاريان ظاهر اللعبة ويستعدان لباطنها وقد جاء مكر الله الخير ليساعدهما.
مكر الله الخير هو ما يجري الآن في القدس. آمل أن تكون الانتفاضة الحاسمة التي ستقلب كل الموازين لأنها ستفسد صفقة الهوان وتسترد كرامة الإنسان.
ومكر الله الخير أن الغبي السيسي تجاوز كل الحدود فبدأ سياسة تهجير السكان من الجزر التي ينوي بيعها. فهذه هي القشة التي ستقضم ظهر البعير.
ذلك الشعب المصري إذا مرر هذه فهو لم يعد جديرا بالحياة بل يكون قد قبل بالعبودية نهائيا ومن ثم فينبغي إخراجه من حساب أي تحليل لسياسة الإقليم.
ذلك أن النخب المصرية إذا بقيت مقدمة حربها على الاخوان على الحرب من أجل كرامة الإنسان: هل هي من جنس زيدان الخوان منتحل الفكر ومزيف التاريخ؟
وحتى لا أطيل: أزمة الخليج رأس جيل الجليد. الأزمة الحقيقية هي شروط الصفقة. لا بد من”سيسة” الأنظمة العربية وحفترتها حتى تل أبيب عاصمة الإقليم.
ولا بد لتحقيق ذلك من إزالة عائقين: كلاهما مضاعف. بعدا المقاومة أي شباب الربيع وشباب فلسطين وبعدا المساندة أي قيادة قطر وقيادة تركيا.
فشلوا في الانقلاب على قيادة تركيا بفضل شعبها. وفشلوا في الانقلاب على قيادة قطر بفضل شعبها. فصارت العلاقة بأربعة شعوب: في السند وفي المقاومة.
وما لم يتوقعه الأعداء هو أن بقية الشعوب بما في ذلك شعوب الرابوع العميل ليست راضية على عمالتهم بل هي ثائرة بقلبها عامة وبلسانها لخاصتها.
تلك هي علة تفاؤلي الذي يلومني عليه الكثير من الأصدقاء والطلبة. الربيع وفلسطين محركان تاريخيين يحيي الماضي ويستأنف المستقبل. والنصر صبر ساعة.
الآن اعتبر الوصل بين سطح الأزمة وأعماقها قد تم بمنطق قابل للإدراك دون ما تتهم به تحليلاتي عادة من التعقيد والغموض. ولله الحمد والمنة.
الكتيب