الاتفاق النووي، دلالة عقده وتوقيت فسخه

من يريد أن يضحك فليقرأ المعلقين من الطبالين الذين يعتبرون قرار ترومب ليلة أمس كان الدافع إليه حنكة مراهقي الخليج ممن يتصورون أمريكا تحدد سياساتها في ضوء رؤاهم الصبيانية. لكن الأمر له دلالة عميقة. فماهي؟ وكيف يمكن أن نفهم القرار الذي كان لا بد أن يحصل بترومب أو بغيره؟ سيقال: كيف عرفت؟ ألست تدعي علما لا تسنده أدنى قرينة؟ والجواب مضاعف: أولا لو كانت الاتفاقية حول النووي نهائية حقا لكان الرئيس الذي عقدها قد عرضها لتكون رسمية بموافقة الكونجرس. وهو ما لم يحصل. ومن ثم فالعلة هي انتظار شيء ما وربح الوقت حتى يحصل. فما هو؟ اعتقد أن ما كانوا ينتظرونه ويربحون الوقت من أجله قبل الغاء الاتفاقية حتى لو كانت هيلاري هي التي نجحت وصل. ما حصل في هذه الفترة التي لم يكونوا يتوقعونها تحصل بهذه السرعة: 1. لم يتوقعوا سقوط داعش بهذه السرعة. 2. لم يتوقعوا أن تتهور إيران بسرعة تجعل العرب يحالفون إسرائيل. ثم هم: 3. لم يتوقعوا أن بوتين سيغرق في سوريا بهذه السرعة والغباء 4. لم يتوقعوا فشل محاولات إيقاف مد ثورة الشباب بعد الانقلاب عليها لما فيها من مخيف أعني عودة الشعوب للفاعلية التاريخية. 5. كانوا يتوقعون حدوثه دون تعيين متى. وإذن فمدة الاتفاقية كانت ربح الوقت في انتظار مثل هذه الأحداث. السنوات العشر التي تعلقت بها الاتفاق هي المدة التي كانوا يتصورون أنها كافية ليحصل ما حصل الآن ومن ثم فالأحداث تسارعت بصورة جعلت الإلغاء يصبح حتميا وهو كان سيحصل حتما قبل نهاية السنوات العشر لأن الغرب لا يمكن أن يسمح لأحد في الاقليم غير إسرائيل بحيازة السلاح النووي. فالاتفاق لا يحول دون ذلك بل هو يؤجله. وإذن فالتأجيل ربح للوقت واستعداد لمنعه ولو بالقوة ليس على إيران وحدها بل وكذلك على تركيا والعرب ولعلهم يفكرون في نزع سلاح باكستان ولا أستبعد مباشرته بعد الفراغ من كوريا الشمالية وإيران. وهذه ليست تكهنات فالهجوم التلميحي على باكستان بدأ بعد. فلأحلل هذه العلل الخمس التي سرعت بإلغاء الاتفاقية. وأقول إلغاء وليس خروج أمريكا منه. فالباقون فيه لا حول لهم ولا قوة ومن ثم فهم يحاولون حماية ماء الوجه عندما يعلنون أنهم سيحافظون عليه مع إيران والجميع يعلم أنهم لن يستطيعوا مد إيران بما تحتاجه للخروج من أزمتها الخانقة لاقتصادها. وسأبدأ بآخرة العلل وهي مما يعجب منه الحداثيون العرب الذين لم يتجاوز فهمهم للعلم وهم الاطلاق. فهم لا يفهمون كيف يمكن لأمريكا ألا تكون قادرة على تحديد متى يحصل ما يتوقعون حصوله ويحددون له أجلا تقريبيا لأنهم يعلمون أن العلم محدود بسبب ما لا يتناهى من العرضيات التي لا تقبل التوقع. فأقل الناس قولا بإطلاقية المعرفة الإنسانية هم العلماء بحق. ذلك أن العلم مهما بلغ من الدقة فهو يبقى محددا بكونه كما قال ابن تيمية مؤلفا من بعدين: 1. علم برهاني مطلق الدقة لأن موضوعه من صنع العالم أو مقدر ذهني. 2. النموذج الذي يستعمل لعلم الموضوع الخارجي ولا متناهي المقومات. فلا تحصل المطابقة أبدا بين النموذج الرياضي الذي هو من المقدرات الذهنية والموضوع الخارجي الذي هو من المعطيات التجريبية. كل ما في الأمر أن الأول يعطينا خطاطة تقريبية هي ما بفضله نوجه خطانا في التعامل معه بقدر متزايد في الدقة كلما تعمقت تجربتنا به وتراكمت المعطيات التجريبية. ولذلك لا توجد استراتيجية ليست فيها فرضيات تعتبر بدائل أحدها من الأخرى: الفرضية أ ثم إذا فشلت تكون لدينا الفرضية ب ثم إذا فشلت الفرضية ج وهكذا بحسب تعقيد المشكل الذي نعالجه. ولا يوجد شيء أكثر تعقيد من المشاكل السياسية عامة والمشاكل السياسية الدولة خاصة: إذن “متى” هو العلة الأولى. استراتيجيو أمريكا لا يدعون العلم المطلق مثل أنصاف العلماء من الحداثيين العرب وحكامهم لا يتعاملون مع الظاهرات تعامل أي جاهل يعتبر أن العنف الاعمى كفيل بحل كل المشاكل بدل التعامل مع الأشياء بمعرفة طبائعها ليس خوفا بل لأن ذلك مبدأ اقتصادي: تقليل الكلفة لتحقيق نفس الغاية بأيسر علاج. وإذن فتحديد مهلة عشر سنوات تقدير معقول قبل الاضطرار إلى إزالة الاتفاقية إذا لم يحصل ما كان متوقعا الحصول وكان علة الانتظار في التعامل الصارم مع إيران. وهنا أذكر بما قلته: مشكل إيران الأساسي هو وهم قادتها أنهم دهاة وأذكياء متصورين ان قادة العالم من جنس قادة العرب غفلة ولا مبالاة. وقد ذكرت عديد المرات أن قادة إيران لا يقلون غباء وغفلة عن قادتنا: تصوروا تخويف الغرب على إسرائيل وغزو قلوب العامة بالتركيز على تحرير فلسطين يمكن أن يحققا مشروعهم المضاعف: ضمان بقاء النظام القروسطي ونسوا أن علة وجوده هي علة وجود القاعدة. كلاهما مدين لحر الغرب على السوفيات. والركن الثاني من المشروع الإيراني الذي سعوا إليه هو استرداد امبراطورية فارس. ولم. وهذا مناف للركن الأول. لكن الركنين مهمان لإسرائيل والغرب. لم يخوفوا الغرب على اسرائيل لعلم الجميع أن البروباغندا الإيرانية لا تختلف عن عنتريات عبد الناصر. كلام. وخسروا قلوب العامة بالركن الثاني. وكان الرابح من الحماقتين الإيرانيتين -رغم وهم الجميع بأن قادتها دهاة وأذكياء-هو الغرب وإسرائيل. ذلك أن اسرائيل استفادت من الركن الثاني لأن وهم استرداد امبراطورية فارس أخاف العرب ووهم تخويف الغرب من إسرائيل استفادت منه إسرائيل لتصبح قوة الاقليم الاولى ويلجأ إليها حكام العرب. فتكون إيران بركني مشروعها قد حققت امبراطورية داود وليس امبراطورية كسرى. ونحن نعلم أن إيوان كسرى لن يعود كما أخبر خات الرسل. وكان الفضل في ذلك شباب الثورة: فهو الذي غير خارطة الاقليم بما فرضه على الثورة المضادة وعلى ما يسمى بالممانعة من الذهاب إلى غاية حمقهما. فلولا ثورة الشباب وصمودهم أمام همجية النظام العلوي لاكتفت إيران بما حققته في العراق والتخفي بنسبة تهديم العراق إلى أمريكا. لكن صمود الشباب اضطرها للتدخل بقوة عمياء أغفلتها عن الآثار التي كان الغرب يحتاج إليها فيجعل وقد ساعدته بالطائفية الصريحة والمفاخرة باحتلال العواصم العربية. فأنجزت ما كان منتظرا منها: 1. الجند الارضي في الحرب على داعش التي تخيفهم فكرتها لا وجودها الذي صار أداة تشويه الفكرة (الخلافة والاسلام) وقبلت أمريكا أن تحمي ميليشياتها الشيعية جويا في القضاء على داعش 2. جعل كل الحكام العرب يصلون إلى درجة من الخوف والجبن فلا يستحون من التطبيع الصريح وما حدث لإيران حدث لروسيا. كان ينبغي توريط روسيا لمساعدة إيران حتى تستكمل المهمة المنتظرة منها والتي وصفت حيننا هذا. والغرب يعلم أن روسيا ليست قوة عظمى. وكنت أحاول اقناع بعض الأغبياء من القوميين العرب بأن روسيا ليست الاتحاد السوفياتي وأن عنتريات بوتين لا تخيف إلا الأميين. فالدولة التي تستمد ثروتها من الطبيعة وليس من الإبداع والتي دخلها القومي الخام لا يتجاوز بالكثير ميزانية الدفاع الامريكية فضلا عن باقي دول العرب لا يمكن أن يعد قوة عظمى حتى لو كان يملك بقايا الخردة السوفياتية. وكان لا بد من أثبات ذلك عيانا: قوة روسيا العمياء في سوريا دليل ضعف. فهي دليل على العجز في الحسم وليست دليلا على الحنكة السياسية فضلا عن القوة المادية. وبذلك فتدخله في سوريا دون التصدي الغربي له كان الهدف منه الدليل المادي على ضعف روسيا وليس على قوتها حتى يعلم الجميع أن الغرب هو الان السيد الوحيد في العالم. لكن أهم مشكل لروسيا هو إسرائيل. ذلك أن روسيا كان يمكن أن تستمد من الضعف قوة لو كان بوسعها أن تحالف بحق وبصورة تامة أهل الاقليم ممن لجأ إليها (إيران ثم تركيا) لو كانت قادرة على معاداة إسرائيل. وهذا مستحيل لعلل تاريخية ولعلل منظورية. تاريخيا نعلم دور السوفيات في وجود إسرائيل ومنظوريا نعلم دور المافية في روسيا. فلو عادى بوتين إسرائيل لأسقطته بسرعة من الحكم إذ الحل والربط في بقائه على رأس روسيا هو المافية الروسية التي لا يمكن أن تقول لا لإسرائيل. ومن ثم فلا يمكن لإيران ولا لتركيا أن تطمئنا للسند الروسي ومن يطمئن له إما مغفل أو جاهل بالتاريخ. وما أظنهما بهذه الصفات. تلك هي العلل التي سرعت الحسم بخصوص الاتفاقية النووية. أمريكا وإسرائيل أصبحا غنيين عن دور إيران ومطمئنين لدور بوتين ومن ثم فينبغي إرجاعهما إلى حجمهما الطبيعي. فالاتفاقية النووية فيها خمسة أطراف مع إيران. هذا الظاهر. لكن الطرف المحدد واحد وهو أمريكا: قرار البارحة حاسم. وتبقى كلمة في المتوقع من سلوك إيراني. بخلاف ما يتوهم الكثير فإن القرار سيكون بيد من يتصوره أول الرافضين للقرار أعني الحرس الثوري وفيلق القدس و”زورو” إيران. ذلك ان العقوبات التي قد تؤدي إلى افلاس إيران نهائيا لن يتحملها هؤلاء لذلك فهم بين حلين كلاهما وكلاهم لا يحتمل. فإما حماقة الصمود بالتعويض من خلال مزيد الحرمان للشعب الإيراني فيشمله الربيع العربي وتكون ثورة عارمة تقضي على الحرس والنظام أو الاستسلام للضغوط الأمريكية بشرط وحيد أن يحصلوا على ضمانة بقاء النظام والتنازل عن كل ما تطلبه أمريكا وإسرائيل ولا دخل لحكام العرب في ذلك فكلامهم كذب. وأرجح أن يبدأوا بالحل الاول لتجريبه على الأقل خلال مدة التفاوض على اتفاق جديد وقد يحركوا ميليشياتهم في أماكن تأثيرهم للضغط في التفاوض عليها. لكن في النهاية لن يجدي ذلك نفعا. ومهما شككت في ذكاء القيادات فهم ليسوا بالحمق للدخول في حرب ستعيد إيران إلى القرون الوسطى. فشتان بين العنتريات والحرب الفعلية. فمن قضى على هتلر واليابان والسوفيات لن يعجزه بلد مثل إيران توهم البعض أن عنتريات نجاد تختلف كثيرا عن عنتريات عبد الناصر. رأينا المآل. سر القوة هو معرفة قوة الذات بدقة والعمل بمقتضاها لتنميتها وليس المباهاة بالأكاذيب: فهي أصل التهلكة.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي