ه
سبق أن كتبت نصا في ما يسمونه فكر البليهي حول الحضارة الغربية. ولا أريد أن أعود للكتابة حوله رغم أن المناسبة هـي ما رأيته من كلام حول طبعة كتاب يتكلم فيه على الحداثة الأوروبية بوصفها ثمرة ابعاد الدين وتحرير الفكر منه. ولما كان ليس الوحيد الذي يرى ذلك بل إن هذا الرأي صار شعار المرحلة كلها عند أدعياء الفكر الحداثي فسأحاول بيان أن ذلك خرافة وجهل.
فأما كونها جهلا فلأن أصحابها يخلطون بين تحرير الدين من تحريف التوظيف ا لكنسي له والتحرر من الدين. فما حدث في اللوثرية (ثقافة الجرمان) وفي الجنسينية (ثقافة اللاتين) تحرر من سلطان الكنيسة وليس من الدين. وكان الإصلاحان كما هو بيّن من المكان والزمان بتأثر إسلامي واضح لأن الأول مصدره اللقاء مع الأتراك والأكراد والثاني مع العرب والأمازيغ.
ففي اللوثرية كان الإصلاح متعلقا بإصلاح شامل هدفه التحرر من فساد الكنيسة كسلطة روحية تؤسس للحكم بالحق الإلهي سلطة سياسية. وكان الحاكم حينها يورد لو كان متحررا من سلطة البابا لما هو معلوم من التنافس بينهما على حكم أوروبا المسيحية وقيادة ردها على الاتراك خاصة.
وفي الجنسينية كان الإصلاح متعلقا بأخلاق الفرد وبنحو ما بالزهد والإخلاص لله دون أن يتعلق بسلطان الكنيسة والحكم بالحق الإلهي. وهي ظاهرة ورثها الفكر الاسباني من الثقافة الإسلامية فكان الإنسان في اسبانيا يضيق بسلطان الكاثوليكية على الضمائر.
والإصلاحان هما أصل الحداثة الدينية التي هي اقتراب من رؤية الإسلام للديني في علاقة بالفرد وبالجماعة المتحررين من سلطان الكنيسة الروحي ومن سلطان الحكم بالحكم الإلهي. ومعنى ذلك أن كل القائلين بالخرافة التي يرددها البليهي دليل جهل بطبيعة ما حصل في أوروبا خلطا بين التحرر من الكنيسة والتحرر من الدين. ما حصل ثورة على الكنيسة وليس على الدين. وهو إن صح التعبير إحياء للدين ودوره في ضمائر الأفراد (الجنسينية) وفي نظام الجماعة (البروتسنتينية) لا حربا عليه كما يدعي الجاهلون بأن هذه العملية الإصلاحية من أهم مطالب القرآن الكريم بل هي ركنا رؤيته الكونية وأن الإصلاحين الغربيين بقيا دون ثورته بكثير. وهذا الجهل المضاعف بطبيعة الإصلاح في المسيحية وبطبيعة الثورة الإسلامية (إصلاح التحريف بمنطق التصديق والهيمنة ومنه إلغاء الكنسية سلطة روحية وإلغاء الحكم بالحق الإلهي) كان يمكن أن يقبل لو صدر عن مفكر شيعي. وكنت أفهم لو تكلموا على تحرير الدين من الاستبداد السياسي وخاصة في اللحظة الراهنة لا العكس.
ولذلك فـ”المفكر” السني عندما يقول مثل هذا الكلام فهو في الحقيقة يريد أن يضفي الشرعية على ما يعتبره الإسلام السني غير شرعي حتى وإن قبله بمنطق الضرورة التي تبيح المحظور. فالقبول بـ”التغلب” يعني نفي الشرعية واللجوء إلى الضرورة التي تبيح المحظور كما يحدث في حالات الطوارئ واستعمال القوانين الاستثنائية. والقبول بسلطة العلماء إذا تجاوزت المشورة المعرفية وتحولت إلى سلطة روحية ليست إلا من علامات انحطاط نظام التعليم كما بين ابن خلدون في كلامه على فساد معاني الإنسانية بسبب التربية والحكم العنيفين.
ولذلك نلاحظ أن كل الذين يتكلمون على الفصل بين الديني والسياسي يخلطون بينه وبين الفصل بين سلطتين وهم لا يقصدون الإصلاح الديني بمعنى التحرر من هذين السلطتين بل يقصدون منع الفكر الديني من نفي شرعية الاستبداد وبصورة أدق من اعتبار التغلب أمر واقعا وليس شرعيا. وهذا هو الموقف السني الذي يحاربه كل المستبدين وخاصة أدعياء العلمانية والليبرالية: يريدون تهديم خط الدفاع الأخير.
حسن: هات الآن ننظر في ما حدث في أوروبا بعد الإصلاح في سلطان الكنيسة الروحي وفي الحكم بالحق الإلهي أي ما ثار عليه الفكر الأوروبي في بداية الحداثة وما هو قريب مما يأمر به القرآن هل كان ذلك ثورة على الدين أم على توظيفه في هذين المستويين؟ فكيف نفهم أن كبار فلاسفة أوروبا كلهم دون استثناء مؤمنون وليسوا ملحدين؟
سأكتفي بالأكبر منهم أي من يعتبرون مؤسسين للحداثة الفلسفية والعلمية والسياسية والاجتماعية الاقتصادية والثقافية. هل يعلم البليهي وكل “حداثيي العرب” من أرباع المثقفين وخاصة ممن يعدون النقد الديني وجلهم من خريجي تكوين أدبي متخلف يزعم تدريس الحضارة جملة دون تحديد “قطوس في شكارة بالتونسي” كيف يمكن أن يكون ديكارت مؤسس الفلسفة الحديثة ولايبنتس مؤسس المنطق الحديث والتحليل الرياضي ونيوتن مؤسس الفيزياء الحديثة وباسكال مؤسس الهندسة الحديثة كيف يكونوا كلهم مؤمنين حقا وخريجي مدارس دينية؟
وهل يعلمون أن المادية والعلمانية اليعقوبية والماركسية من العناصر الهامشية في الفكر الأوروبي الحديث حتى بعد النكوص الذي كانت فلسفة هيجل أصلا له وهي لم تؤثر إلا بما أفسد القيم المشتركة التي يمثلها كبار المفكرين الذين ذكرت إلا بتوظيفها الإيديولوجي التبسيطي لفرض الاستبداد الماركسي واليعقوبي لتخريب العالم الثالث بدءا بروسيا إذ لم نسمع عن بلد غربي متقدم صار ماركسيا أو يعقوبيا؟
لو كان من يتكلم على هذه المسائل من مستوى ديكارت ولايبنتس ونيوتن وباسكال لسمعت لهم ولاعتبرتهم أهلا للكلام على إشكالية دور الدين في الحداثة. أما الأميون الذين يخلطون بين إصلاح المؤسسات الدينية والحرب على الدين فهم نكبة هذه الأمة التي صار فيها من لا يكاد يفقه شيئا “فيلسوف” حضارة.
لم أر احدا من بين من يدعون النقد الديني من له أدنى مستوى يخول له الكلام في هذه المسائل كلاما يستحق ان يستمع اليه حتى عند الاقتصار على المعرفة التاريخية بتطور الفكر الديني في الغرب ناهيك عن الفكر الفلسفي. فترديد الشعارات ليس فكرا. والفلسفة الحديثة ليس الماركسية أو اليعقوبية الفرنسية دليل أمية ليس في الأديان فـحسب بل وكذلك في الفلسفة. والكلام في الإسلام بحاجة للاختصاصين أي في فلسفة الدين وفلسفة الفلسفة ومعهما علاقتهما بفلسفة التاريخ.
هل يعلمون أن كل مفكري الغرب إلى الآن ما يزالون خريجي مدارس دينية ومن أسر دينية بمن فيهم من يظن أكثرهم كفرا بالمسيحية مثل نيتشه؟ ما بال الحمقى يخلطون بين الأشياء إلى الحد الذي يجعل من يتهجأ العربية يزعم الكلام في الدين والفلسفة ولا يعلم أن المسألة الدينية حاضرة عند ذكرت من فلاسفة كبار؟
هل يعلمون أن الخلاف العقدي بين مدرسة ديكارت ومدرسة نيوتن من جهة ومدرسة لايبنتس من جهة ثانية في المسألة الطبيعية كانت من جنس الجدل الدائر في علم الكلام الإسلامي حول الخلق المستمر والحضور الدائم للإرادة والتدخل الإلهي أم هي من جنس الساعة التي تواصل العمل بعد أن توضع قوانينها من البداية (لايبنتس)؟ ما يعني أن ديكارت ونيوتن كانا أقرب إلى الرؤية الأشعرية.
لا أحد بين قبل القرآن في آل عمران أن الفساد الأساسي في التاريخ الإنسانـي مصدره الحلف بين محرفي الدين ومحرفي السياسة لأن هذه بحاجة لمن يضفي عليها الشرعية إذ إن الشوكة مهما قويت يمكن أن تصارعها شوكة ثانية فتحتاج إلى القلم مع السيف. لذلك ألغى القرآن الكنسية والحكم بالحق الإلهي وهو ما حاولت أوروبا تطبيقه فحدت من سلطان الكنيسة وعوضت الحق الإلهي في الحكم بالحق الشعبي تماما كما تفرض ذلك الآية 38 من الشورى.
ولهذه العلة وحدها اعتبرت إعادة الكنسية والحكم بالحق الإلهي في التشيع خروجا مطلقا عن حقيقة القرآن الدينية فضلا عن حقيقة المنزلة الإنسانية التي تجعل العلاقة بين الإنسان وربه علاقة مباشرة وفرض كفاية ليس فيها وساطة مثل علاقته بشأنه العام فيكون حاكم نفسه لأنه مكلف (الشورى 38).
والسنة حصل فيها تحريف جزئي بخلاف التشيع. فهم يعتبرون حكم المتغلب غير شرعي بل هو عندهم مجرد أمر واقع بمقتضى مبدأ الضرورة التي تبيح المحظور لأن الحكم الشرعي هو ما يأتي عن طريق البيعة الحرة وبشرط أن يكون الحاكم خادما للجماعة بمبدأي النساء 58 أي الأمانة والعدل.
وقد ربط القرآن الحلف اللعين بين رجال الدين ورجال السياسة -وليس بين الدين والسياسة لأن الفصل بينهما مستحيل للترابط بين الوزعين الذاتي والأجنبي بلغة ابن خلدون-بمآله المؤسس للكنسية والحكم بالحق الإلهي: تأليه أصلهما أي المسيح فبرأه (آل عمران 79) أو من يقوم بمثل دوره (الإمام الشيعي).
والتبرئة كانت مبررة بأنه لا يوجد بشر يؤتيه الله الكتاب (الرسالة) والحكم (العقل) والنبوة (الاصطفاء لتلقي الحقيقة) أن يدعو الناس لعبادته بدلا من عبادة الله. ثم بين ما كلف بما عليه التذكير به: الربانية أي بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون آيات الله في الآفاق وفي الأنفس. والإسلام بهذا المعنى ثورة مضاعفة:
- نفي الوساطة بين المؤمن وربه لأن الوساطة سلطة روحية وهي الوظيفة التي ما أن توجد حتى تفسد وتصبح سلطانا على الضمائر فتوظف مباشرة لتكون سلطة إضفاء الشرعية على من الحكام فيصبحون أوصياء.
- نفي الوصاية على المؤمنين في إدارة شأنهم لأن الحساب يوم الدين على الأعمال والحكم منها فرض عين لأن الأمر أمر الجماعة المستجيبة لربها (الشورى 38).
والغاشية 21-22 كافية لدلالة على أن الإسلام يرفض الوساطة على الرسول من حيث هو مذكر ومرب (أخلاق) والوصاية من حيث هو حاكم وقائد (سياسة): فإذا كان الرسول «مجرد» مذكر وإذا لم يكن عليهم بـ”مسيطر” فكيف يصبح من يدعون وراثته وارثين لما يملك ولا يطمع في أن يملك لأن الله قال له «إنما أنت» مذكر «و”لست عليهم بمسيطر».
فإذا كان الإسلام هو ما وصفت فالأمر لا يتعلق بإصلاحه هو بل بتخليصه من تحريفه الذي نتج عن إعادة ما منعه أي وساطة الكنسية سلطة روحية وصاية الحكم سلطة زمانية. فيكون كل دعي يتكلم على تحرر أوروبا من الدين يعني المطالبة بتحرير المسلمين-السنة-من خط الدفاع الأخير الذي يجعل الاستبداد والفساد الروحي والزماني لا يبقيان كما هنا الآن مجرد أمر واقع على المسلمين التحرر منه بل يصبحان أمرا واجبا عليهم القبول به كما تريد الجامية باسم تحريف الدين والعلمانية باسم تحريف العقل كما نرى ذلك يحدث عند كاريكاتور التأصيل وكاريكاتور التحديث من يدعون التفكير الديني والسياسي والقيس على أوروبا.