الأعاجم، كيف نفهم دورهم العلمي في الاسلام؟ – الفصل الثاني

**** الأعاجم كيف نفهم دورهم العلمي في الاسلام؟ الفصل الثاني

لذلك فابن خلدون لم ينف دور العرب، بل تكلم على النسب بين المشاركين في العلم لما أصبح صناعة. فهم كانوا متفردين به لما كان سنا لرؤية جديدة بالمقابل مع ما كان ساريا في ثلاثة أنظمة سابقة: النظام القبلي العربي والفارسي والبيزنطي على الاقل في ما أصبح مركز دولة الإسلام ولايزال إلى الآن. وهذا هو الفرع الأول من تفسير مقولة ابن خلدون: المقابلة بين مرحلتي علوم الملة لما كانت سنن ممارسة لا تمايز فيها بين النظر والعمل، ثم لما أصبحت صناعة نظرية مختلفة عن الممارسة العملية سواء تعلق الامر بعلوم الملة الغائية أو بعلومها الأداتية. العربية نفسها صارت صناعة تتعلم في المدرسة. وينسى الكثير من المتكلمين في راي ابن خلدون ما قاله في الشعر. فقد تخلى عن تعاطيه أشراف القوم لما أصبح صناعة للتكدي. علوم الملة صارت أيضا صناعة وسلم للارتقاء الاجتماعي. وطبيعي في هذه الحالة أن يتواصل ما كان موجودا قبل الإسلام بمعنى أن مراكز الحضارة هي التي ستسيطر. فلما انتقلت عاصمة الخلافة إلى الشام صار السلطان الثقافي يغلب عليه تراث الغساسنة البيزنطي الذي طبق على السنن الجديدة ولما انتقلت إلى العراق انتقلت الغلبة إلى تراث المناذرة الذي طبق على السنن الجديدة. ويخطئ كثيرا من يصدق نسبة حركة ترجمة التراث العلمي اليوناني إلى الدولة العباسية. فهو بدأ مع الدولة الأموية، وطبعا نما في الدولة العباسية لأن التراث اليوناني كان قد عم التراثين البيزنطي والفارسي بل والشرق كله منذ الغزو المقدوني، ومن ثم فالتقاليد التربوية التي كانت سائدة تواصلت ومنها استمدت دولة الإسلام “صناعات” العلوم وتطبيقاتها وضمت إليها ما صُنع من علوم الملة. وما أريد شرحه الآن هو ما يمكن أن يعتبر خطأ حتى في عبارة ابن خلدون. فالانتقال من “الاعاجم” إلى الفرس فيه الكثير من ظلم الكثير من شعوب الإقليم. فمن يسمى فرسا سكان إيران حتى حاليا يخطئ خطأ فادحا. فالفرس كعرق في إيران الآن، أقلية حاكمة وليس هي أقوام الدولة. وكذلك في الماضي. فالفرس بعض قليل من الأعاجم الذين هم غير العرب. دولة الاسلام ليست مؤلفة من الفرس والعرب، بل من العرب وكل الشعوب التي تعرف بالأعاجم أي بمن ليس عربي اللسان. وفيه الترك والكرد والأمازيغ والهنود على تعددهم وغيرهم من الشعوب التي ليست عربية وليست فارسية. فعندنا في المغرب، جل العلماء لم يكونوا عربا بل كانوا أمازيغ وهم طبعا ليسوا فرسا. وهؤلاء الأمازيغ مثلهم مثل كل من ساهم في تراث الامة العلمي، لم يكونوا قائلين بالرؤية العرقية التي اعيب على من يسقط رؤى الحاضر على الماضي. لا أحد من كبار العلماء كان يعرف نفسه بعرقه بل يعرفها بإسلامه. وهم جميعا إذا ما استثنينا بعض العنصريين من الفرس، مثل السهروردي المقتول، يذكر وسيطا بين العرب واليونان في العلوم العقلية، لأن فارس حتى بمعناها العرقي وليس بمعنى سكان الامبراطورية الفارسية لم يكن لها من يذكره تاريخ الفلسفة والعلم العقلي قبل من برز منها في عصر الإسلام. واقصى ما يذكره السهروردي خرافات غنوصية، وأقصى ما يذكره ابن المقفع قصص رمزي ادبي وليس علوما فلسفية ولا عقلية، بل إن التراث العلمي المتقدم على الإسلام إما يوناني أو ما قبل اليوناني مثل علوم بابل ومصر القديمتين قبل اليونان وقد اكتشفت في عصرنا لما قرئت كتابتهما. فإذا فهمنا ضمير “الأعاجم” ولم نخلط بينه وبين “الفرس” الذين هم بعض الأعاجم وليسوا كلهم ولا حتى أكثرهم تأثيرا في تاريخ الفكر الإسلامي وعلومه، أمكن أن نقول إن توزيع تراث الإسلام العلمي، وخاصة في علوم الملة، يجعل كل الأعراق التي دخلت الإسلام قد ساهمت فيه بأقدار متقاربة. ويبقى للعرب مع هذا السهم المماثل لغيرهم في العلوم بعد أن أصحبت صناعات فضل التأسيس الذي يتفردون به ليس لعلة عرقية بل لأن الثورة الإسلامية حدثت عندهم وبلغتهم، فكان أساساها المضمونيان من القرآن والسنة القولية واساساها الأدايتان من اللغة والسنن الفعلية التي سنها الرسول والراشدون. والغريب الذي ربما أغفل ابن خلدون ذكره هو أن نفس القانون سار في العلوم التي تسمى فلسفية وعقلية. فالمؤسسون أو إن صح التعبير الزارعون للسنن اليونانية في الحضارة الإسلامية عرب وليس أعاجم. فابن قرة الجد والحفيد عرب أقحاح لكنهما أكبر الرياضيين بعد اليونان، بل تجاوزاهم مضمونا ومنهجا. وأول فلاسفة الإسلام عربي قح إنه الكندي، بل هو من الاسر الحاكمة والنبيلة بمفهوم ذلك العصر. لكن الاهم من ذلك كله هو أن أول من استعمل منهجا رياضيا علميا لتأسيس لسانيات العرب عرب قح وهو الخليل ابن احمد الذي أسس لحساب التواليف ليكتب أول معجم للسان العربي حاصله وممكنه مستعمله ومتروكه. وهو أول من استعمل القوانين الرياضية الموسيقية لضبط بحور الشعر العربي ميزا بين قانونين في ابداعيه: مواضع الحروف وتواليفها للمعجم، ومواضع المدد الزمانية وتواليفها للشعر، ما يعني أن الرجل لم يكن عالما في الرياضيات المجردة والمطبقة اليونانية، بل وكذلك مبدعا فيهما أولا وفي تطبيقهما ثانيا. لكن الأهم من ذلك كله، هو أن دولة الإسلام لأنها تؤمن بالأنوار -وقد سمى هيجل الإسلام التنوير الشرقي لهذه العلة، ولعلة أعمق، هي محاولة تحقيق القيم بالفعل من خلال جعلها اساس سياسة الدنيا بفرعيها سياسة التربية وسياسة الحكم-والا لما أبقت ثورتها السنن الحميدة من الأنظمة السابقة. ويوجد فضل ثاني خفي، أعاد للعلماء المنزلة التي تجعلهم ثاني رتبة في الجماعة بعد رتبة الانتساب إلى العصبية الحاكمة، وفيها شيء من العودة إلى النظام القديم في مصر وبابل، بمعنى أن العلماء وإن كانوا في درجة ثانية من الرتب الاجتماعية، ليسوا عبيدا، بل هم سادة ولهم سلطان روحي. وبهذا المعنى صار العلم سلم ارتقاء في التراتب الاجتماعي. ذلك أن الدولة القديمة لا تكفي فيها الشوكة لتحقيق الاستقرار السياسي -وفي الحقيقة ذلك قانون كوني لا يمكن تأسيس أي استقرار على الشوكة وحدها-بل لا بد من الشرعية. وهذه مصدرها العلماء (وسطاء) وتلك الأمراء (أوصياء). لكن القرآن ثار على هذا الدور لأن الشرعية فيه لا تستمد من أي صنعة سواء كانت نظرية (العلوم) أو علمية (الحرف) لأنه ضد الوساطة الروحية (المعلم مذكر وليس وسيطا وأولهم الرسول لما علم) وضد الوصاية المادية (الحاكم نائب أصحاب الأمر أو الجماعة ليس صاحب الامر وأولهم الرسول لما حكم). لكن هذه السنن التي وضعها القرآن ليجعل المعرفة فرض عين ولا يجعل الاختصاص فيها بوصفه جزءا من تقسيم العمل في الجماعة فرض كفاية سلما اجتماعيا، أفضل من أي عمل آخر نظريا كان أو علميا تحتاج إليه الجماعة، بل هو واجب لا يغير من المنزلة المتساوية لكل البشر بمقتضى الاستخلاف. ولولا هذا المبدأ الذي عمل ولو بغير وعي لأصبح العلماء طبقة منغلقة كما في الأديان التي لها اكليروس وليس وظيفة مفتوحة للجميع، بحيث إنه لا يوجد مختص في الوظائف الدينية، بل هي مشتركة للجميع فكل مسلم إمام محتمل وكل إنسان فقيه محتمل ولا معنى لوراثة المرجعية أو لآل البيت أو للشعب المختار. تحويل الصناعات العلمية إلى سلم اجتماعي ساعد كثيرا في تغليب دور الموالي عليها، لكن الموالي ليسوا الفرس، ومن أكبر الأكاذيب اعتبار من كان تحت النظام الفارسي سابقا فارسيا: فلا الفارابي ولا البيروني ولا علماء الحديث فرس، بل كانوا في بلاد عرفت قبل الإسلام بكونها تابعة للنظام الفارسي.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي