**** الأعاجم كيف نفهم دورهم العلمي في الاسلام؟ الفصل الأول
سألت الأخت الفاضلة سحر الباحثة في الإنسانيات عن موقف ابن خلدون من مسألة دور الأعاجم في علوم الملة. وحق لها أن تسأل، فإسقاط الحاضر على الماضي يجعل هذه القضية شائكة لأن العامل الاثني وحتى العرقي أصبح معتبرا في هذه المسائل ولم يكن له وجود في عهد ازدهار الحضارة الإسلامية. ويكفي أن يتصور أحد تفكك الولايات المتحدة الأمريكية فانقسمت إلى دويلات تدعي الأساس الاثني مثل الدولة القومية بالمعنى الاوروبي الحديث، فيصبح كل واحد يعرف نفسه بالعرق والاثنية وليس بالانتساب إلى حضارة واحدة هي حضارة الولايات المتحدة عندما كانت هي الهوية المشتركة. وإذ طرحت القضية ونسب الأمر إلى ابن خلدون، وهو سلطة علمية لا يشك أحد في أحكامه على الاقل ما تعلق منها بحضارتنا، فلا بد من فهم الأمر وحسمه بصورة ترجع الأمور إلى دلالتها عند أصحابها وحتى عند ابن خلدون لئلا يقول ما لم يقل. ثم إن الاخت السائلة ليست ممن يهتم بتوافه الامور. فلأحاول شرح المضمرات قبل الجواب الدقيق على جوهر الإشكال في المسألة. والمضمر الأول هو القصد من مفهومات تمر دون انتباه المعلقين وهي بينة الدلالة عند ابن خلدون: 1. علوم الملة 2. “لما أصبحت صنعة” 3. العجم 4. حصر الكلام في الفرس 5. العرب بالمعنى العرقي والعرب بالمعنى العمراني. عندما نبرز المضمر في هذا المخمس، سنتحرر من أمرين كلاهما أبعد ما يكون عن فكر ابن خلدون في قولته الشهيرة التي أدت إلى هذا الإشكال: 1. فهو لا يقول بالتفسير العنصري فيعتبر الفرس عرقيا أقدر من غيرهم في العلوم عامة ومن العرب خاصة. 2. وهو ينطلق من تقسيم العمل وعلاقته بالرتب الاجتماعية. ولنبدأ بالضمير الاول: علوم الملة هي العلوم التي مرجعيتها الأولى القرآن والسنة إما في ذاتهما أو في سلوك الأجيال الأولى من المسلمين، وخاصة من الصحابة الذين عاشوا مع الرسول عيانا وتربوا على يديه مباشرة، أو على يدي من تربى على يديه مباشرة وهو معنى الأجيال الثلاثة الأولى. في هذه الحالة، علوم الملة ليست مدونات نظرية تصف سلوكا خلقيا وقانونيا وتعبديا وسياسيا، بل هي عين السلوك نفسه مع ما يصحبه من تعليل مباشر يقوله السالك إذا سئل عن علة سلوكه. وهذا هو المعنى العميق لمفهوم “التراديسيون” أو السنن التي تكون فيها الممارسة متضمنة لأساس شرعيتها. وهذا الضمير يفهمك معنى الضمير الثاني “لما أصبحت صنعة”. علوم الملة الغائية وحتى علوم الآلة انتقلت من الممارسة ذات الشرعية الكامنة فيها إلى الممارسة التي انفصل عنها تعليلها النظري وصارت تتعلم به وليست ممارسة وكأنها سليقة. فنحن اليوم مثلا لا نتكلم لغة القرآن بل نتعلمها بخلاف الصحابة. ضربت مثال اللغة. فيمكن أن تجد عالما غير عربي في العربية. لكنه يستمد علمه من ناطق بالعربية أصلي كما فعل من جمعوا العربية لتقنينها وجعلها قابلة للتعلم، ليس بالممارسة فحسب -لغة القوم- بل بالنظر في قوانينها التي استخرجها العلماء من ممارسة الناطقين بها سليقة. إذن لعلوم الملة مرحلتان. وقد يكون أفضل مثال هنا هو علاقة سيبويه بالخليل. فالمشهور أن سيبويه هو مؤسس النحو العربي بالكتاب. لكن المؤسس الحقيقي وهذه المرة بالمعنيين- الممارسة والنظرية-هو الخليل ابن أحمد. والدليل أن سيبويه، وهو من تلاميذه، كان كثير اللحن رغم علمه بالقوانين التي وضعها الخليل ممارسة وتنظيرا. ولأضرب مثالا أخر فيه الكثير من سوء الفهم عند أدعياء التفلسف في علوم الملة. فلو قارنت فقه مالك بفقه أبي حنيفة لقالوا شتان بين الثرى والثريا أي بين الفقيه العقلاني -أبو حنيفة-الفقيه التقليدي الذي لا يكتفي بالعقل بل يدخل السنن والممارسة أو “التراديسيون” في الفقه والتشريع. فيمدحون السيء معرفيا، ويذمون الحسن معرفيا. تصور أحدا وقف أمام قاض يحاكمه برأيه، هل يفضله عن قاض يحاكمه بنص القانون الساري لحظة الحكم؟ أبو حنيفة يسيء فهم الفقه، ومالك يفهم القصد بالفقه. فحتى في القانون الوضعي لا يمكن لقاض أن يؤسس أحكامه على رايه من دون أساس قانوني سابق. نقص الاعتماد على الحديث والغفلة عن التقاليد في الجماعة ليس دليل عقلانية، بل دليل عدم فهم طبيعة القانون والشرائع في الجماعات البشرية. الرأي موقف ذاتي للقاضي، لو تركنا الأمر لآراء القضاة لما وجد مفهوم العدل أي المساواة أمام معايير صيغت بصورة تقبلها الجماعة نظاما للتعامل فيما بينها. ولذلك، لما سأل الرسول قاضيه بم سيقضي، أجاب بالقرآن ثم بالحديث إن لم يجد ثم برأيه إن لم يجد. ومعنى ذلك، أن مفهوم الفقه، وخاصة في استعماله القضائي -وهو قضائي حتى في الافتاء لأنه يقضي بين المرء ونفسه-لا يكون مجرد رأي شخصي، بل استنادا إلى معايير “موضوعية” بمعنى “ما بين ذاتية”. ابن خلدون تكلم على علوم الملة في المرحلة الثانية، أي بعد أن تأسست على معايير واضعوها هم العرب خاصة أو من تعرب باكرا من الأقوام الاخرى. لكن حتى في المراحل الاخيرة فإن المؤسسين الكبار لكل علوم الملة كانوا عربا أقحاحا. ذكرت اللغة والفراهيدي. ويمكن أن أذكر الشافعي في أصول الفقه. ولست بحاجة للتذكير بأن أصل كل علوم الملة هو التفسير، وأول المفسرين الكبار بعد الرسول -في جل حديثه-من كان منذ نعومة أظفاره يسمى حبر الأمة والإسلام عبد الله بن عباس. فهو المؤسس الحقيقي لعلوم الملة الغائية الخمسة: التفسير وعنه تصدر دلالاته الفقهية والصوفية والكلامية والفلسفية. وما كان ذلك يكون ممكنا لو لم يتوفر شرطان: 1. الأول علوم الأداة أي اللغة والتاريخ، خاصة كانت حاضرة لديه لأنها من السنن الممارسة -التراديسيون-لكأنها سليقة. 2. والثاني علوم الغاية والسياسة خاصة لأنه كان معايشا للممارسة الرسولية والراشدية من بعده. النظر ليس بعد صنعة بل هو متطابق مع العمل. وأختم بمثال أخير، هو أهم ما يعنيني من الحجاج الذي دنسه حقد من كان يريد تهديم دولة الإسلام ودوره في منع ذلك بما تقتضيه السياسة في عصره. ففضله علينا في المحافظة على نطق القرآن نطقا سليما صرفا ونحوا هو الحجاج الذي وضع نظرية التنقيط والشكل، والذي مكن من الجمع بين الممارسة والنظر. وأخيرا، فابن خلدون يميز بين الامرين حتى في الجمع بين الوظيفة عندما تكون رتبة في عصبية، وعندما تصبح مجرد رتبة في مهنة. فهو يتكلم على سخافة المؤدبين الذين يتصورون أن منزلة الحجاج جاءت من كونه مؤدبا وليس من كونه من عصبة الحكم. ومثله أسد ابن الفرات: فهو مؤدب لكنه قائد فتح صقلية. والنتيجة أن ابن خلدون لا يتكلم على المرحلة التأسيسية التي كانت علوم الملة كلها وقبل أن تصبح صنعة من إبداع العرب أنفسهم. وأول المبدعين هو الرسول نفسه. فهو الذي مارس القضاء والقيادة السياسية والقيادة العسكرية والتعبد، واضع “السنن” التي صارت بالتنظير معين العلوم من حيث هي صناعات. وعندما حصل ذلك، صارت العلوم حرفا لا تليق بأصحاب الرتبة الأولى في تقسيم العمل. وليس ذلك خاصا بالمسلمين وحدهم. لم يكن أهل العصبية الحاكمة النبلاء في الشرق ولا في الغرب في القديم والوسيط ممن يعنون بالصناعات سواء كانت تابعة للنظر أو للعمل: كان الحكم والفروسية فوق الجميع. وتسمى في أوربا “نبلاء السيف” في مقابل “ببلاء الروب (العمامة عندنا)”، وفوقهما الحكام بالحق الإلهي في الثقافتين السياسية والمعرفية في العصور القديمة من الفراعنة إلى نهاية العصور الوسيطة، بل وحتى إلى الآن فليس العلماء هم من بيدهم المراتب الأرفع. فرتبة الكوارجي اجتماعيا أرفع من “نوبل”. فلم يكن للموالي سلم آخر للارتقاء في السلم الاجتماعي غير علوم الملة بعد أن أصبحت صناعات، لأن كبار العلماء فيها لهم رتبة متقدمة حتى على الشعراء والادباء وحتى على علماء الطبيعة، لأن الأسر الحاكمة كانت تستمد الشوكة من العصبية والشرعية من علماء الدين، ومن هنا حظوتهم.