الأشعرية – دلالة العلاقة بين وصف الآراء وتأسيس علم الكلام الدفاعي 1 من 6

تنبيه مدير الصفحة:

هذه ورقة قدمها أستاذنا أبو يعرب في ندوة أحباء الأزهر وخريجيه الندوة التي عقدت في القاهرة قبيل الثورة وشارك فيها بوصفه من المدافعين عن المؤسسات الواصلة بين الماضي والمستقبل نعرضها في ستة أقسام: المقدمة والفصل الأول والثاني كلاهما على قسمين ثم الخاتمة.
وللورقة علاقة بما يجري اليوم لأنها تعالج علل الأمراض التي تجعل الأمة اليوم نهبة للفوضى الروحية وللعجز المادي ما ييسر على أعدائها الجرأة عليها والعدوان على مقومات وجودها المادي والروحي.
ولعل الدراسة نشرت في أعمال الندوة فيكون الاطلاع عليها دون تنجيم ممكنا. لكن الجمع بين الأقسام سيحصل عند تمام نشر الحلقات.

تمهيد: الإشكالية:

رغم أن المناسبة تخص الأشعري فإن قصدي في هذه المحاولة ليس حصر الكلام في تراثه الكلامي عرضا أو تقويما. فليس من هدفي الكلام على الماضي من حيث ما مضى منه بل عليه من حيث ما يستعاد منه نكوصا بفكر المسلمين يلغي ما حصل من تجاوز لللاهوت العقلاني Rational theology إلى الفكر النقدي في مجالي الكلام والفلسفة تجاوزه الذي حصل في تاريخنا الفكري خاصة وفي تاريخ الفكر الإنساني عامة.
هدفي من هذه المحاولة بيان ما تتضمنه محاولات بعث الجدل الكلامي في العقائد من عقم إذا كان أصحابها لا يقصدون بالأشعرية فكر صاحب المقالات الذي قطع مع الاعتزال والكلام بل يسعون إلى إحياء معارك الكلام والميتافيزيقا الوسيطين أعني الأشعرية المتأخرة فيعود بعضهم إلى الاعتزال باسم التحديث العقلاني وبعضهم الآخر إلى السلفية باسم التأصيل النقلاني. وهي جميعا عودات لا تحيي الحي من فكرنا بل تستعيد ما مات منه فتعود من ثم بالأمة إلى صراعاتها القديمة التي تحول دونها ودورها الحقيقي في الحضارة الإنسانية انطلاقا مما بلغت إليه من تجاوز في نضوجها النظري والعملي لهذه المسائل الزائفة.
وقد اخترت أن أوجز البحث في هذه المسألة العويصة بحصرها في الكلام الأشعري بوجهيه المتقدم والمتأخر رامزا إلى أولهما بالوصف -وصف الآراء المذهبية- وإلى الثاني بالكلام الدفاعي وما يتراءى من صراع بين الأشعرية والحنبلية. فرمز البداية ورمز الغاية أعني وصف الآراء Doxography والصراع بين الفرق يؤكد على المرض الذي حول السنة التي صارت ذات كلام إلى فرقة من بين الفرق بدلا من أن تبقى الأرضية المشتركة التي تتفرع عنها الفرق والمذاهب قربا وابتعادا من مقومات العقيدة السنية كما حددتها المرجعيتان.
فكما يفيد العنوان هدفي هو فهم طبيعة النقلة من الوصف الموضوعي للآراء التي تقول بها فرق أهل القبلة إلى الكلام المعبر عن السنة وكأنها فرقة من بين الفرق: ذلك هو ما أعرف به عمل الأشعري جاعلا من الحدين رمزا لبعدي فكره المناوس بين الحنبلية والاعتزال*1.
والغاية هي بيان ما حصل من غفلة عن طبيعة الثورة البطيئة التي تكونت بالتدريج وبالتساوق مع تكون الفكر العربي الإسلامي من خلال الجواب عن السؤال الجوهري التالي: كيف تم النكوص إلى الموقف الميتافيزيقي الغفل في مجالي المعرفة العقلية والذوقية النكوص الذي يطلق أصحابه بمقتضاه قدرات العقل والذوق فيحيدان عن الموقف النقدي في المجالين ومن ثم يوليان عن فهم قوله جل وعلا: “سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق”*2. عودة منهم إلى الكلام في ما ليس هو من المعلوم في نظر العقل والنقل على حد سواء.
إن خطوة الأشعري التي قطعت مع الاعتزال رغم جرأة صاحبها بقي فيها ما يجعل الفكر الأشعري عامة محكوما عليه بأن ينحصر دوره في المناوسة بين موقف المتكلمين وموقف المحدثين دون أن يتجاوز دوره تأجيج الصراع بين الموقفين إلى حد تحقيق غاية القصد الأشعري عندما يصل الموقفان إلى غاية التناقض بين العقل والنقل*3: تحرير العقل من غلوائه في الماورئيات وتوجيهه إلى مجال المعرفة العلمية في المجالين النظري والعملي قصدت حسم العلاقة بين العقل والإيمان في النظر وبين القانون والأخلاق في العمل. وأول الحسمين حصل عند شيخ الإسلام ابن تيمية وثانيهما عند علامة الإسلام ابن خلدون كما نبين في هذه المحاولة.
ذلك أن الخطوة الأشعرية تضمنت دينامية أدت حتما إلى هذين الحلين اللذين حصلا فعلا في تاريخ فكرنا قبل أن يحصل ما يناظرهما في الفكر الغربي بقرون. ومن ثم فيمكن استقراء القول إنهما من جوهر الفكر الإنساني عامة لكونهما ينتجان عن خصائص العلاقة بين الفكرين الديني والفلسفي. وهذه الدينامية ينتج عنها حتما خلخلة الكلام الأشعري بمقتضى انتسابه إلى حدي المناوسة. لذلك انقسمت قوس تلويناته وتلاوينه انقساما جعلها تذهب من أقصى فكر المحدثين إلى أقصى فكر المتكلمين.
كما ينتج عن هذه الدينامية حتما تكثف حدي المناوسة أعني مدرسة الحديث ومدرسة الكلام بمناسبة صراعهما تكثفا يحقق فيهما ثورة فكرية عميقة نحاول وصفها بالاستناد إلى هذا اللقاء الذي حصل في القرن الثامن الهجري الرابع عشر الميلادي بين ثورتي النقد للفلسفة النظرية في بدايتهما (ابن تيمية) وللفلسفة العملية في غايتهما (ابن خلدون) رغم عدم علم صاحبيها بهذه العلاقة التي لم يكن بالوسع أن تكون تامة الوعي بأبعادها وتامة الشفيف في عصرها.
والمعلوم أن السؤال الذي نحاول الجواب عنه قد مهد له رائدا نقد الفكر الإسلامي والإنساني هذان ومحققا شروط بعض محفزات الإبداع الذي أسسه ما دعا إليه القرآن والسنة من الإصلاح والتجديد الدائمين: كيف يمكن أن ننقل الفكر الإسلامي المؤسس لعلوم الملة من طور علم الكلام إلى طور كلام العلم بنقلة تحرره من ما بعد الطبيعة وما بعد التاريخ السلبيين الضمنيين اللذين يحولان دونه وتحقيق هذه النقلة فيبقيانه في الموقف الدفاعي الذي لن يمكنه من الإبداع المستقل؟ ذلك هو طموحنا آملين أن يوفقنا الله لما يرضاه للأمة في لحظة استئنافها السعي إلى تحقيق رسالتها الكونية.
اكتمال دورة الكلام وعودة الفكر السني إلى شكل الكلام الأول: الدفاع النقدي الذي من جنس النقد الفلسفي والهدف هو بيان حدود الاستعمال الشرعي للعقل في المجال الديني ومن ثم إعادة العقل إلى مهمته الأساسية أعني علوم الدنيا التي هي مطية الآخرة وهو ما يلتقي فيه فرعا السنة كما التقيا من قبل من خلال عودة الأشعري إلى الحل الحنبلي بعد تبينه عجز الحل الاعتزالي للمسألة العملية (قضية الاصلح والتحسين والتقبيح العقليين). وفي هذا اللقاء يحصل أهم مقومات الثورة المعرفية التي تجعل الوظيفة العقدية (الإقناع بتصور ما للحقيقة) تابعة للوظيفة العلمية (طلب الحقيقة لذاتها).*4

الهوامش و الملاحظات:

  1. التعليق على جملة دانيال جيماري محقق المجرد ومقدمه في كلامه على علاقة الأشعري بابن حنبل: “هكذا يستعيد الأشعري بصورة نهائية هويته الحقيقية: هويته لا بوصفه تلميذا امعة لابن حنبل وإنما باعتباره متكلما حقيقيا من متكلمي عصره وتلميذا خليقا بشيخه أبي علي الجبائي متكلما كشيخه يقطع برأي نفسه في المسائل المختلفة ويخوص ببراعة شيخه في جميع لطائف دقيق الكلام هويته كرجل استحق بجدارة أن يطلق اسمه على كل المدرسة التي انتسبت إليه” ص. 5 (مجرد الأشعري لابن فورك تحقيق دانيال جيماريه المكتبة الشرقية بيروت 1986).
  2. ذلك أن التبين في الآفاق ليس هو إلا ما يحصل من بيان بفضل علمها أي علم العالم الطبيعي والتبين في الأنفس هو ما لا يحصل إلا بفضل عمل الأنفس أي علم العالم التاريخي لذلك كان عمل الأول التمييز بين شروط العلم الطبيعي ومنهجه والميتافيزيقا فكان مدار كلامه العلمي حول المنطق وما بعده الذي يؤسسه وكان عمل الثاني التمييز بين شروط العلم التاريخي ومنهجه والميتاتاريخ فكان مدار كلامه العلمي حول التاريخ وما بعده الذي يؤسسه
  3. .فعندما يصبح الكلام فلسفيا خالصا ويصبح الحديث نقليا خالصا يوضع مشكل المنهج العقلي أو المنطق وما بعده والمنهج النقلي أو التاريخ وما بعده فتحصل الثورة العلمية التي تحققت فعلا بعد حصول الظاهرتين: ظاهرة تحول الكلام إلى فلسفة وتحول الحديث إلى تاريخ.
  4. ولأن العكس هو الذي حصل في جامعاتنا التقليدية كانت النتيجة الانحطاط العلمي النظري والتطبيقي وقد تبعه الفشل العقدي لأن الإقناع بتصور معين للحقيقة لا يكون ممكنا إلا إذا بان للعيان أن هذا التصور قد كان مثمرا إثمارا بينا في حياة أصحابه.

الخطة:

التمهيد: المسألة الأولى: أمراض العلوم الأربعة في الحضارة العربية الإسلامية الحالية. المسألة الثانية: في تكوينية هذه الأمراض وكيف كان مسعى الأشعري محاولة للتخلص منها. الخاتمة.

الأشعرية – دلالة العلاقة بين وصف الآراء وتأسيس علم الكلام الدفاعي 1 من 6 – أبو يعرب المرزوقي

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي