الأشعرية دلالة العلاقة بين وصف الآراء و تأسيس علم الكلام الدفاعي

تمهيد: الإشكالية:

رغم أن المناسبة تخص الأشعري فإن قصدي في هذه المحاولة ليس حصر الكلام في تراثه الكلامي عرضا أو تقويما. فليس من هدفي الكلام على الماضي من حيث ما مضى منه بل عليه من حيث ما يستعاد منه نكوصا بفكر المسلمين يلغي ما حصل من تجاوز لللاهوت العقلاني Rational theology إلى الفكر النقدي في مجالي الكلام والفلسفة تجاوزه الذي حصل في تاريخنا الفكري خاصة وفي تاريخ الفكر الإنساني عامة.
هدفي من هذه المحاولة بيان ما تتضمنه محاولات بعث الجدل الكلامي في العقائد من عقم إذا كان أصحابها لا يقصدون بالأشعرية فكر صاحب المقالات الذي قطع مع الاعتزال والكلام بل يسعون إلى إحياء معارك الكلام والميتافيزيقا الوسيطين أعني الأشعرية المتأخرة فيعود بعضهم إلى الاعتزال باسم التحديث العقلاني وبعضهم الآخر إلى السلفية باسم التأصيل النقلاني. وهي جميعا عودات لا تحيي الحي من فكرنا بل تستعيد ما مات منه فتعود من ثم بالأمة إلى صراعاتها القديمة التي تحول دونها ودورها الحقيقي في الحضارة الإنسانية انطلاقا مما بلغت إليه من تجاوز في نضوجها النظري والعملي لهذه المسائل الزائفة.
وقد اخترت أن أوجز البحث في هذه المسألة العويصة بحصرها في الكلام الأشعري بوجهيه المتقدم والمتأخر رامزا إلى أولهما بالوصف وصف الآراء المذهبية وإلى الثاني بالكلام الدفاعي وما يتراءى من صراع بين الأشعرية والحنبلية. فرمز البداية ورمز الغاية أعني وصف الآراء Doxography والصراع بين الفرق يؤكد على المرض الذي حول السنة التي صارت ذات كلام إلى فرقة من بين الفرق بدلا من أن تبقى الأرضية المشتركة التي تتفرع عنها الفرق والمذاهب قربا وابتعادا من مقومات العقيدة السنية كما حددتها المرجعيتان.
فكما يفيد العنوان هدفي هو فهم طبيعة النقلة من الوصف الموضوعي للآراء التي تقول بها فرق أهل القبلة إلى الكلام المعبر عن السنة وكأنها فرقة من بين الفرق: ذلك هو ما أعرف به عمل الأشعري جاعلا من الحدين رمزا لبعدي فكره المناوس بين الحنبلية والاعتزال1. والغاية هي بيان ما حصل من غفلة عن طبيعة الثورة البطيئة التي تكونت بالتدريج وبالتساوق مع تكون الفكر العربي الإسلامي من خلال الجواب عن السؤال الجوهري التالي: كيف تم النكوص إلى الموقف الميتافيزيقي الغفل في مجالي المعرفة العقلية والذوقية النكوص الذي يطلق أصحابه بمقتضاه قدرات العقل والذوق فيحيدان عن الموقف النقدي في المجالين ومن ثم يوليان عن فهم قوله جل وعلا: “سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق”2 عودة منهم إلى الكلام في ما ليس هو من المعلوم في نظر العقل والنقل على حد سواء.
إن خطوة الأشعري التي قطعت مع الاعتزال رغم جرأة صاحبها بقي فيها ما يجعل الفكر الأشعري عامة محكوما عليه بأن ينحصر دوره في المناوسة بين موقف المتكلمين وموقف المحدثين دون أن يتجاوز دوره تأجيج الصراع بين الموقفين إلى حد تحقيق غاية القصد الأشعري عندما يصل الموقفان إلى غاية التناقض بين العقل والنقل3: تحرير العقل من غلوائه في الماورئيات وتوجيهه إلى مجال المعرفة العلمية في المجالين النظري والعملي قصدت حسم العلاقة بين العقل والإيمان في النظر وبين القانون والأخلاق في العمل. وأول الحسمين حصل عند شيخ الإسلام ابن تيمية وثانيهما عند علامة الإسلام ابن خلدون كما نبين في هذه المحاولة.
ذلك أن الخطوة الأشعرية تضمنت دينامية أدت حتما إلى هذين الحلين اللذين حصلا فعلا في تاريخ فكرنا قبل أن يحصل ما يناظرهما في الفكر الغربي بقرون. ومن ثم فيمكن استقراء القول إنهما من جوهر الفكر الإنساني عامة لكونهما ينتجان عن خصائص العلاقة بين الفكرين الديني والفلسفي:
وهذه الدينامية ينتج عنها حتما خلخلة الكلام الأشعري بمقتضى انتسابه إلى حدي المناوسة. لذلك انقسمت قوس تلويناته وتلاوينه انقساما جعلها تذهب من أقصى فكر المحدثين إلى أقصى فكر المتكلمين.
كما ينتج عن هذه الدينامية حتما تكثف حدي المناوسة أعني مدرسة الحديث ومدرسة الكلام بمناسبة صراعهما تكثفا يحقق فيهما ثورة فكرية عميقة نحاول وصفها بالاستناد إلى هذا اللقاء الذي حصل في القرن الثامن الهجري الرابع عشر الميلادي بين ثورتي النقد للفلسفة النظرية في بدايتهما (ابن تيمية) وللفلسفة العملية في غايتهما (ابن خلدون) رغم عدم علم صاحبيها بهذه العلاقة التي لم يكن بالوسع أن تكون تامة الوعي بأبعادها والشفيف في عصرها.
والمعلوم أن السؤال الذي نحاول الجواب عنه قد مهد له رائدا نقد الفكر الإسلامي والإنساني هذان ومحققا شروط بعض محفزات الإبداع الذي أسسه ما دعا إليه القرآن والسنة من الإصلاح والتجديد الدائمين: كيف يمكن أن ننقل الفكر الإسلامي المؤسس لعلوم الملة من طور علم الكلام إلى طور كلام العلم بنقلة تحرره من ما بعد الطبيعة وما بعد التاريخ السلبيين الضمنيين اللذين يحولان دونه وتحقيق هذه النقلة فيبقيانه في الموقف الدفاعي الذي لن يمكنه من الإبداع المستقل؟ ذلك هو طموحنا آملين أن يوفقنا الله لما يرضاه للأمة في لحظة استئنافها السعي إلى تحقيق رسالتها الكونية.
اكتمال دورة الكلام وعودة الفكر السني إلى شكل الكلام الأول: الدفاع النقدي الذي من جنس النقد الفلسفي والهدف هو بيان حدود الاستعمال الشرعي للعقل في المجال الديني ومن ثم إعادة العقل إلى مهمته الأساسية أعني علوم الدنيا التي هي مطية الآخرة وهو ما يلتقي فيه فرعا السنة كما التقيا من قبل من خلال عودة الأشعري إلى الحل الحنبلي بعد تبينه عجز الحل الاعتزالي للمسألة العملية (قضية الاصلح والتحسين والتقبيح العقليين). وفي هذا اللقاء يحصل أهم مقومات الثورة المعرفية التي تجعل الوظيفة العقدية (الإقناع بتصور ما للحقيقة) تابعة للوظيفة العلمية (طلب الحقيقة لذاتها)4.
الخطة:
التمهيد:
المسألة الأولى: أمراض العلوم الأربعة في الحضارة العربية الإسلامية الحالية.
المسألة الثانية: في تكوينية هذه الأمراض وكيف كان مسعى الأشعري محاولة للتخلص منها.
الخاتمة.

المسألة الأولى: أمراض الفكر في الحضارة الإسلامية وصلتها بقضايا الكلام

من تقاليد المدارس التي تتمادى في الوجود لأحقاب مديدة ألا يقتصر فكرها على التاريخ لماضيها بل هي تتجدد شكلا ومضمونا مع الحفاظ على ما يبرر بقاءها على الوفاء لاسمها الذي يطلق عليها. فهل كلامنا على الأشعرية أو أي مدرسة فكرية من مدارسنا له هذه الدلالة أم هو مضغ لتاريخ ميت لا يجعل الحاضر مبعث السؤال المعرفي بل يكتفي باجترار أفكار فاقدة لجذوة الفكر الحي. ألا يكون بعث الماضي من دون هذا الشرط بعثا لأمراض الماضي لا استمدادا لعناصر القوة والإيحاء؟
وبصورة عامة هل الناطقون باسم الفكر الإسلامي في عصرنا سواء كانوا ممن يدعي الكلام باسم أصول الدين أو باسم أصول الفقه أو باسم التجربة الصوفية أو باسم المعرفة الفلسفية بمعاني هذه الفنون الأربعة كما مورست في العصر الوسيط أو ممن يتكلم باسم هذه الفنون جميعاً يميزون بين التاريخ لمعارف لم يعد لها وجود، وممارسة علمية حية بحياة علاجها لمشاكل العمران الإنساني الحي ؟
ليست هذه الفنون بالمرفوضة لذاتها حتى لو ظنها أصحابها علوماً حية وليست تاريخاً لعلوم ماتت بل هي ترفض بسبب تحويلهم إياها إلى كلام باسم الإسلام ينطقون به نطق السلطة الروحية التي أعادت الكنسية إليه ولا يكتفون بالكلام على تجاربهم الخاصة. لو لم يجعلوا تجاربهم الخاصة بدائل من المرجعية بدائل تلغي ممارسة المسلمين الحية للعلاقة المباشرة بها وتزيل كل محاولة للتجربة الروحية التي هي عين التدين، والتعبد والحرية الخلقية، لما كان للمرء حاجة للكلام معهم في شأنها.
فهم يختلقون صيغاً عقدية يقدمونها بديلا من النص الديني أو على الأقل شرطا في فهمه. فيلغون بذلك شروط الحياة الروحية الفطرية التي تقتضي الصلة المباشرة بالمرجعية ذاتها لتكون جزءاً من الحياة المباشرة في الممارسات اليومية للمسلم. لذلك فإن هذه الصيغ قد جعلت المسلمين يحيون الأخلاق والقيم بالوكالة أعني بتوسط صائغي العقائد والشرائع والطرق والفلسفات. فكان ذلك وأداً دائماً لثمرة التدين الأساسية في حياة المسلمين: لم يعد الإسلام بمرجعيتيه جوهر كيانهم الروحي والوجودي في لحظات تطورهم التاريخية المختلفة بإطلاق عما يمكن أن تكون هذه العلوم الميتة قد كانت مناسبة له، وكافية لعلاجه في البعض منها5. وإذن فما ترفض هذه الفنون لأجله هو أنها صارت فنوناً غير ذات موضوع ومن ثم فهي موضوع تاريخ لممارسة توقفت صلتها بالحياة بل هي ليست حتى تاريخاً بالمعنى العلمي لكلمة التاريخ6.
إن التاريخ لصيغ العقائد وأصولها الكلامية، والتاريخ للفقه وأصوله، والتاريخ للطرق الصوفية وأصولها، والتاريخ للفلسفة الوسيطة وأصولها، من الاختصاصات الأكاديمية التي لا تخلو منها جامعة في العالم المتحضر. لكنه تاريخ لممارسات انتهت وحان لمجتمعاتنا أن تمارس البدائل منها ممارسة حية. ومنها يمكن أن تعود الحياة إلى ما انقطع من تاريخنا الحي حتى يجبر الكسر بين عصرين يفصل بينهما كسر وهوة سحيقة : فأولهما سرعان ما طوته ظلمات الانحطاط (ثورة الصدر). والثاني منهما لم يبدأ بعد (ثورة الاستئناف) لما يتسم به الانحطاط من قوة ممانعة.
ورغم التواصل بين هذه الفنون الأربعة والتكامل بين زوجيها النظريين(الكلام والفلسفة) ثم بين زوجيها العمليين (الفقه والتصوف) فإننا سنكتفي بالفنين النظريين أعني بـما يدور عليه الكلام هنا لأن الفنين العمليين عالجناهما في غير موضع. سنتكلم على الزوج النظري أعني الفلسفة والكلام بعد تحليل دقيق لتجاوزهما الخلدوني (لعل قصيري النظر يدركون أن الدليل الذي يطالبون به لا يكون بمجرد الشاهد بل بعرض النظرية التي تضفي عليه المعنى الذي قصده صاحبه).
فكل الأدواء الصادرة عنهما قبل الثورة النقدية التيمية و الخلدونية نعلمها منذ أن دحض ابن خلدون الميتافيزيقا من حيث مطلوباتها المشتركة مع الكلام:”أما ما كان منها من الموجودات التي وراء الحس وهي الروحانيات ويسمونه العلم الإلهي وعلم ما بعد الطبيعة فإن ذواتها مجهولة رأساً ولا يمكن التوصل إليها ولا البرهان عليها لأن تجريد المعقولات من الموجودات الخارجية الشخصية إنما هو ممكن فيما هو مُدْرَكٌ لنا. ونحن لا ندرك الذوات الروحانية حتى نجرد منها ماهيات أخرى بحجاب الحس بيننا وبينها فلا يتأتى لنا برهان عليها ولا مدرك لنا في إثبات وجودها على الجملة إلا ما نجده بين جنبينا من أمر النفس الإنسانية وأحوال مداركها وخصوصا في الرؤيا التي هي وجدانية لكل أحد. وما وراء ذلك من حقيقتها وصفاتها فأمر غامض لا سبيل إلى الوقوف عليه”7.
وهذا هو الكلام السلبي8 عند ابن خلدون وابن تيمية وأبي حامد عودة منهم جميعاً إلى الموقف السلفي ولكن على أسس نظرية علمية وليس بمجرد الرفض الفطري المستند إلى بادئ الرأي أعني الكلام الذي يبين امتناع الكلام. وهو من ثم فلسفة نقدية وليس فلسفة ميتافيزيقية ولا علم كلام ميتافيزيقي9 .
وحتى لا يطول الكلام في المسألة سأكتفي بما حصل عند أحد هؤلاء العلماء عندما كان القصد التحرر من علم الكلام وليس الكلام في ما لا يمكن الكلام فيه بعلم. فلو اقتصر الكلام على ما يسمى الدفاع عن العقيدة ضد أعدائها لما سمى علماً بل لكان مجرد كلام دفاعي ضد مهاجم بنفس السلاح. فلا مهاجم العقيدة بقائل قولاً علمياً ولا الراد عليه كذلك: كلاهما يعرض إيديولوجيته ويرد على ضديدتها. وأقصى ما يصل إليه الكلام عندئذ هو الفعل السلبي للرد على نفي الإيمان بالعقل أي إنه تحييد للعقل بالعقل في مجال الإيمان وهو على مزاياه النسبية لا يعد علماً. فلا ينبغي له أن يدعي أنه علم بل هو جدل نقدي إذا لم يتجاوز هذا الموقف. ولا بأس منه لأنه يحد من عاهة المتكلمين في العقائد ببيان امتناع الكلام فيها كما يبين النص الذي أوردناه أعلاه. وهو ما لم يتجاوزه الفكر النقدي إلى الآن خاصة بعد أن تبين أن ابن خلدون مثله مثل ابن تيمية يشترط في المعرفة العلمية لعالم الشهادة الاحتكام إلى المحسوسية الممكنة أو التجربة الممكنة10 فينفي من ثم بصورة جذرية معرفة عالم الغيب لانعدام هذا المعيار المحتكم إليه.
الخلاف هو حول الكلام الموجب: أي الكلام الذي يسميه المتكلمون علم أصول العقيدة بمعنى إثبات وجود الله وخلود النفس وخلق العالم إلى غير ذلك من المسائل بالعقل. فهذا ما لو قال به أحد لانتهى إلى نفي الحاجة إلى النبوة ولقال أمرا لا يمكنه الوفاء به. والكلام الموجب الذي يدعي المتكلمون أنه شرط تصحيح العقائد أعني صوغها بالمنطق الصناعي وهو ما اعتبره عقائد ما أتى الله بها من سلطان بل هي أوثان سماها المتكلمون وآباؤهم الفلاسفة الدغمائيون لأنه يؤدي إلى نظارات يصنعها البعض ويريد أن يُلْبِسْهَا لغيره حتى يرى المعتقدات بعينيه. وذلك هو معنى السلطة الكنسية مصدر كل الوسائط بين الضمائر والمعبود الأوحد. وهو أمر فضلاً عن امتناعه عقلاً ضار خُلقياً11: لأنه يجعل سرائر البشر بيد البعض منهم فيصبح البعض للبعض أرباباً. ولما كان الله قد قال “ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون” (آل عمران 80)” فحري بنا أن نستنتج بأنه ينهانا عن اتخاذ أوثان العلماء أي صيغهم للعقائد أرباباً لئلا نكفر!

المسألة الثانية: دور علم الكلام في تكوينية هذه الأمراض الفكرية

1-القراءة الخلدونية لمسار الفكر الكلامي السني وبيان الابتعاد المتدرج عن قصد الأشعري الأول والكلام المحمود والعودة إلى الكلام المذموم.

استعمل ابن خلدون معيارين ليجيب عن هذا السؤال. لكنه لم يستنتج منه ما يحدد صلة هذا التطور بما حصل في فكره هو ذاته من خروج عن علم الكلام والفلسفة والفقه والتصوف أعني الفنين النظريين والفنين العمليين فأصبح عمله دالا على نشأة جديدة للفكر الإسلامي نشأة وُئدت لسوء الحظ. فعدنا إلى هذه الفنون وما يتولد عنها من حروب أهلية لعل أهم مظاهرها الحرب الطائفية داخل السنة ذاتها بين فرقتيها الأشعرية والسلفية وخارجها بينها وبين التشيع ثم مع العالم كله:

المعيار الأول في القراءة الخلدونية

فأما المعيار الأول فقد استمده ابن خلدون من تأمل المنهج أو طبيعة العلاقة بين الدليل والمدلول في الفكر الكلامي. وقد قسم ابن خلدون بمقتضاه علم الكلام إلى مرحلتين رئيستين وصف الأولى بـكلام المتقدمين والثانية بـكلام المتأخرين:
ففي المرحلة الأولى كان الكلام يبدو وكأنه فكر متفلسف بأسلوب مختلف عن أسلوب الفلسفة المشائية خاصة (حتى وإن تضمن شيئا من مبادئ الرواقية في نظريتي الوجود والمعرفة وبعض قضايا الكلام المسيحي المتقدم عليه وكل ذلك ليس هذا محل الكلام فيه)12.
وفي المرحلة الثانية بدأ التدرج في عملية اندماج الكلام في الفلسفة المشائية التي سيطرت على الفكر العربي الإسلامي وخاصة بشكلها السينوي في صيغة الشفاء بفضل تلخيص الغزالي في مقاصد الفلاسفة.
وهذا المعيار حقق هذه القسمة الأولى إلى مرحلتين هو معيار الأرغانون المستعمل أو المنطق (الرمز هو الغزالي)13. فبعد القول بالتعاكس بين الدليل والمدلول (قبل الغزالي وخاصة عند الباقلاني) جاء التخلي عن هذا المبدأ وبات الدليل متخلصا من هذا الترابط مع المدلول بمعنى أن القضايا التي يراد البرهان بها ليست بالضرورة من طبيعة القضايا التي يراد البرهان عليها. فالثانية هي المعتقد والغاية والأولى هي الأداة التي يمكن استبدالها عند اكتشاف ما هو أفضل منها. لم تبق الأدلة جزءا من المعتقد14. وذلك هو الأمر الذي يسر دخول المنطق الأرسطي في كل العلوم الإسلامية بما في ذلك أصول الفقه وأنهى الكلام في نظرية المعرفة الرواقية ليعوضها بنظرية الوجود ونظرية المعرفة القريبتين من الفلسفة المشائية15.

المعيار الثاني في القراءة الخلدونية

وأما المعيار الثاني فأنتج قسمة ثانية هي الأهم في تكوينية علم الكلام ومساره التاريخي لأنها أشمل من القسمة الأولى لجمعها بين المضمون والمنهج إذ هي تخص علاقته بمسائل الفلسفة ومناهجها رفضا للفلسفة قبل الغزالي ثم قبولا لها من بعده. وهو معيار متعلق بطبيعة المسائل في الفنين الكلامي والفلسفي وهذا المعيار مضاعف:
فإذا استعملناه لتقسيم المرحلة المتقدمة على التخلي عن القول بـالتعاكس بين الدليل والمدلول كان ذا صلة بعلاقة فكر السنة علاقته السلبية مع الفلسفة لكون السنة كانت ترفض المنطق والفلسفة جملة وتفصيلا. فيكون الكلام عندئذ منقسما إلى :
كلام سني غير متفلسف بالمعنى الذي كان سائدا وإن كان ذا نهج علمي حقيقي يقدم التجربة (الوجدانية في الغيبيات والحسية في المشاهدات) والتاريخ (العادي أو الديني) على محض التأمل الفكري (أو بعبارة أصح إلى رفض الكلام لأنه لا يكون إلا متفلسفا بمعنى الشكل الذي كانت عليه الفلسفة: الشكل الكلامي).
وكلام غير سني متفلسف بالمعنى السائد أي بمعنى الفكر الفلسفي غير النقدي القائل بشفافية الوجود وقدرة العقل على إدراكه على ما هو عليه16 (رمز رفضه والقطع معه هو قطيعة الأشعري مع الاعتزال كما تشير إلى ذلك حادثة حمار الشيخ الذي وقف في العقبة)17.
وإذا استعملنا هذا المعيار الثاني في المرحلة الموالية لهذا التخلي كان ذا صلة بعلاقة التماهي التام بين الكلام والفلسفة إيجابا بعد تبرئة المنطق وجعله شرطا في علوم الملة (الرمز هو الغزالي) من خلال التخلي عن مبدأ التعاكس بين الدليل والمدلول (الرمز هو الرازي).
لكن المعيار يبقى مع ذلك واحدا لأن معناه الأول هو عينه معناه الثاني ولا تختلف التسمية لأن ما يسمى كلاما غير سني قبل القطيعة المنهجية بين المتقدمين والمتأخرين هو عينه ما يسمى بالكلام الفلسفي. فيكون المعيار الثاني أوسع من المعيار الأول وهو شامل له لأن المنهج هو بدوره فلسفي. فيكون الحاصل من ذلك خمس مراحل الأربع هي ما ذكرنا بمقتضى مفعول المعيارين:
1-ما بين نشأة الكلام وقطيعة الأشعري
2-ما بين قطيعة الأشعري وكلام الغزالي
3-ما بين كلام الغزالي وكلام الرازي
4-ما بين كلام الرازي وصاحبي الصوغ الصريح للثورة النقدية أعني ابن تيمية وابن خلدون : أولهما من منطلق البحث في منهجية العلوم العقلية وما بعدها (المنطق والميتافيزيقا) والثاني من منطلق البحث في منهجية العلوم النقلية وما بعدها (التاريخ والميتاتاريخ).
5-والمرحلة الأخيرة هي الموقف الجامع بين مرحلة ما قبل نشأة علم الكلام ومرحلة ما بعد موته بعد أن تجاوزه فكر المسلمين فانتقل إلى كلام العلم في ما يقبل العلم والتخلي عما سواه ليكون الدين مستندا إلى المعرفة النصية والتاريخية والفلسفة مستندة إلى المعرفة التجريبية والرياضية.
“فمرحلة ما قبل نشأة الكلام ومرحلة ما بعد موته بتجاوزه النقدي” أصبحتا أمرا واحدا رغم التقابل بين مرحلة البداية ومرحلة الغاية من حيث الحيز الزماني والجنس الخطابي: وهو ما سأطلق عليه اسم السلفية المحدثة التي يمثلها اللقاء الأصيل بين ابن تيمية وابن خلدون بعد تغيير منزلة المعرفة الفلسفية والمعرفة التاريخية من منطلق المسألة النظرية (ابن تيمية: منزلة المنطق وما بعده) ومن منطلق المسألة العلمية (ابن خلدون: منزلة التاريخ وما بعده)18. لكن التحديدين الثوريين عند كلا الرجلين أمر واحد بالمعنيين المحققين للتطابق بينهما أعني جوهر دلالة الكلام المحدد للاستعمال المشروع للعقل تحديدا يقبل التعريف بعبارة الصديق: “العجز عن الإدراك إدراك” في شكل عقيدة أساسها فهم النهي القرآني البين ثم في شكل عقيدة مؤسسة إضافة إلى النهي القرآني على فهم حقيقة العلم كيف تكون وتبين حدود العقل ما هي:
1-فمن يقرأ القرآن يدرك أن الآية السابعة من آل عمران قد بينت صراحة أن تأويل المتشابه (بمعنى التأويل الملغي لمفهوم الغيب: وهو جوهر علم الكلام وليس التأويل بمعنى التفسير أي الشرح اللغوي) فضلا عن امتناعه الفعلي دليل على مرض نفسي (زيغ القلوب) ومرض اجتماعي (الفتنة) كما تبين بقية الآية التي جعلت الرسوخ في العلم هو التسليم بأن المتشابه موضوع إيمان وليس موضوع علم ومن ثم جعلت العلم العقلي مقصورا على عالم الشهادة19: ” …والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب”.
2-ومن يفهم النقد التيمي والخلدوني يدرك أنهما قد تحررا من ذهنية متكلمي العصر الوسيط وفلاسفته القائلين بالعلم المطلق القادر على علم ما لا يقبل الشهود ومن ثم النافين للغيب لزوما20. الكلام بدافع علاج هذين المرضين العلاج العلمي الحاسم لأنهما اكتشفا علله ولم يقتصرا على الفهم العامي للهداية القرآنية التي سيتضاعف تأثيرها المنتظر بعد فهم علل المرضين النفسي والاجتماعي اللذين أشارت لهما الآية السابعة من آل عمران. ومن يعارض هذا التشخيص العلمي لابن تيمية وابن خلدون لا يعارضه علميا بل بمجرد التشبث بما تجاوزه العقل الإنساني أعني اللاهوت والميتافيزيقا المطبقين على ما لا يدرك من الوجود أعني غيبه.

2-كيف يمكن استكمال القراءة لتحقيق النقلة من علم الكلام إلى ما يمكن أن نسميه كلام العلم في الشأنين الدنيوي والأخروي على حد سواء (أعني بعدي الدين السوي).

وبين أن الاندماج لم ينجح في المرحلة الأولى لعلة قيمية بفضل رفض فضلاء الأمة للكلام. لكن العلة المعرفية التي حالت دون الاندماج تعينت في العوائق المنهجية أعني ما حال دون إدخال المنهج الفلسفي عامة والمنطق بأسسه المشائية خاصة في علوم الملة لأن محاولة الفارابي وإخوان الصفاء وابن حزم لم يكن لها التأثير الكافي. ولما حصل ذلك بيد شخصيات مؤثرة (بدءا بإمام الحرمين وختما بالغزالي) تم الاندماج فصار الكلام فلسفيا وصارت الفلسفة كلامية وهو ما يعتبره ابن خلدون قد بلغ الكمال مباشرة عند الرازي مع وعي بالفرق بين الفنين ثم اختلطت الأمور بعده حتى وإن كان التمييز الاسمي لا يزال موجودا في بعض المسائل.
وينبغي أن نضيف أمرا يبدو غير متصل بهذه الحركة لكنه من صميمها. فابن خلدون يبين في كتابه شفاء السائل أن صنفي وحدة الوجود الصوفية يعودان في الحقيقة إلى هذا المزيج الكلامي الفلسفي إذا نظرنا إلى ما يفصح عنه أصحابهما من النظريات والمبادئ رغم ما فيهما من فوضى وعدم اتساق (وقصده أساسا كتابات ابن عربي):”وحاصله (قول متصوفة وحدة الوجود بصنفيها : الوحدة المطلقة ووحدة المجالي) إذ خلص وهذب واتضح للفهم موضوعه ومسائله إنه ترتيب للوجود قريب من ترتيب الفلاسفة شبيه بآرائهم الكسبية وعلومهم من غير برهان يشهد له ولا دليل يقوم عليه”21.
ومجمل القول لئلا نطيل في أمر بين بذاته لولا مماحكة المتكالمين هو أن الكلام والفلسفة بلغا ذروة التطابق بالتبالع (كلاهما ابتلع الآخر) في القرن السابع ولعل أهم علاماته أن أكبر فيلسوف رياضي كان في نفس الوقت أكبر مؤلف بين فكري ابن سينا والرازي (نصير الدين الطوسي). فكلاهما أي الكلام والفلسفة ابتلع الثاني فجعله مادة له وهي حركة أسس لها رابوع القرن السادس رابوعه الذي غلق كل المنافذ ليقتل الفكر الحر والإبداع أعني:
1- الإمام الرازي (الذي أطلق السينوية في الكلام حتى زال الفرق بين الكلام والفلسفة إلا في السمعيات).
2-والسهروردي المقتول مشرقا (الذي أطلق الخرافة الصوفية المزعومة أفلاطونية في الفلسفة وظن أنه يمكن أن يكذب النبي والقرآن في القول بالختم).
3-وابن رشد (الذي أطلق التجريبية الغفلة المزعومة أرسطية في الفلسفة فصارت الفلسفة شرح نصوص أرسطو).
4-وابن عربي مغربا (الذي أدخل التأويل التحكمي في التصوف فصار التصوف تأويل القرآن بخرافات مستندة إلى الفلك البطليموسي وعلم الحروف المزعوم).
فنتج عن ذلك كلام خليط مربع الأبعاد أفلاطوني وأرسطي مزيفين (ابن رشد والسهروردي) وعقائد وتصوف سنيين مزيفين (الرازي وابن عربي). وتم الاندماج بصورة شبه مطلقة في القرن السابع حيث صار التصوف والكلام متفلسفين (من حيث المضمون في الأول ومن حيث الجهاز المنهجي في الثاني) وصارت الفلسفة والفقه متكلمين (من حيث المضمون في الأولى ومن حيث الجهاز المنهجي في الثاني).
وكل الذين يخرفون اليوم فيدعون المقابلة بين الفرق بالعودة إلى جزئيات المسائل لم يفهموا هذه الحركية التاريخية التي أدت إلى زوال الكلام الدغمائي في الفلسفة وزوال الفلسفة الدغمائية في الكلام إلى أن بات من الواجب تجاوزهما إلى ضرب جديد من الكلام الفلسفي النقدي الذي لم تتحدد طبيعته إلى الآن ومثاله الفكران النقديان لابن تيمية وابن خلدون عندنا وكل المدارس النقدية منذئذ إلى الآن في العالم.
لكن ذلك الخليط المربع سد كل الآفاق المعرفية والقيمية فلم يفلح الفكر النقدي في تحقيق التجاوز إلا لماما وبات المسلم خاضعا للجبروت التام حيث  :
تحالف المستبدون بفني العمل (الفقه والتصوف مع استبداد المجتمع المدني العامي على الأفراد).
وتحالف المستبدون بفني النظر (الكلام والفلسفة مع استبداد المجتمع المدني الخاصي على الأفراد).
ثم تحالف الجميع مع بالمستبدين بالحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية أعني الحاميات العسكرية (وأغلبها من شذاذ الآفاق والمجرمين والمرتزقة ويبدو أن الأمر لا يزال على ما كان عليه !) الحاميات التي استبدت بالحكم فغاص الشعب في الخرافة والجبرية واللامبالاة التاريخية.
فغاصت النخب في الاستهتار والموقف الكلبي وعم الانحطاط والعقم النظري والعملي في آن: وعادت الأمة إلى نظام الدولة الفرعونية حيث يؤدي “العلماء” دور هامان ويؤدي المرتزقة دور فرعون. وليس بالصدفة أن برر ابن عربي رمز فرعون في الحكم من حيث هو ظل الله لكأنه شاعر المعز إذ ينشد: ” فاحكم فأنت الواحد القهار!”. تلك هي الوضعية التي سلبت المسلمين كل حرية عقدية وفكرية وأزالت الفرق بين عالم الربوبية وقانون الضرورة الطبيعة وعالم الألوهية وقانون الحرية الخلقية إلى حد نفي كل إمكانية للفعل الحر عمليا ونظريا.
لذلك فلا عجب أن يحصل ما يحق لنا أن نطلق عليه اسم الإصلاح الديني والفلسفي في القرن الثامن: وهو إصلاح بدأ مع ابن تيمية بإصلاح العقائد لتحرير الإنسان من عقيدة الجبرية وسلطان الخرافة حتى يصبح الفعل الخلقي ممكنا وشرطه الحرية الفكرية والروحية وانتهي مع ابن خلدون بإصلاح الشرائع لتحرير الإنسان من شريعة الغصب وسلطان العنف حتى يصبح الفعل السياسي ممكنا وشرطه الحرية الاقتصادية والثقافية.
وقد كان ابن خلدون على وعي تام بأن هذا الموت البطيء للحيوية الفكرية والخلقية عند المسلمين قد صاحبه في ما “وراء العدوة” نظيره الضديد: انبعاث الحيوية الفكرية والخلقية في أمم الغرب التي بدأت تفتك المشعل من العرب والمسلمين الذين استناموا للأنساق الميتة التي وضعها الرابوع المشار إليه.
ولا بد هنامن الإشارة إلى دور العلماء والأمراء والمؤسسات التربوية الغربية وكيف أن كل الثورات الدينية والعلمية والفلسفة والخلقية في الغرب خرجت من رحمها. فجميع فلاسفة الغرب وجميع علمائه تخرجوا من المدارس الدينية من ديكارت إلى هيدجر ومن نيوتن ولايبنتس إلى كل علماء العصر الحالي لأن الجامعات الغربية أغلبها كانت مؤسسات تعليم دينية (مثل السوربون وأكسفورد أبرز الأمثلة وأين منهما في تكوين المبدعين وإنتاج المعرفة المقيدة مؤسستا الزيتونة ثم فرعها المتأخر عنها نشأة بقرنين أي الأزهر المؤسستان اللتان وجدتا قبلهما بقرون ؟!).
ثم تطورت مؤسسات التعليم الجامعة بين الديني والدنيوي ونمت وخاصة في فرنسا وانجلترا وإيطاليا وألمانيا بل وفي كل أوروبا ولا يزال للفكر الديني الدور الأساسي في الفكر الفلسفي والعلمي إيجابا وسلبا إذ لا فرق بين النسبة الموجبة والنسبة السالبة ما دامت تعين تحديدا إضافيا إلى الدين. فحتى معارضو الدين يبقى فكرهم دينيا ولو بالمعنى السلبي. كما أن هذه الثورات الفكرية والخلقية لم تبق في الأفكار وحدها بل هي طالت الحياة الجماعية من حيث صورتها السياسية والتربوية ومن حيث مادتها الاقتصادية والثقافية. فبدأ السعي الفعلي لتحقيق المثل الدينية والعقلية في التاريخ الفعلي ولم تبق مجرد قيم في الأذهان.
لكن الأمر عندنا آل إلى الموت ليس في الفكر والأخلاق وحدها بل في الوجود التاريخي الفعلي للجماعة بمؤسساتها السياسية والتربوية والاقتصادية والثقافية وخاصة بعد النبضة الأخيرة للانتفاضة النقدية التي يمكن اعتبارها جوهر ما يسميه القرآن الكريم بإصلاح التحريف نظريا والجاهلية عمليا وهو إصلاح لم يتوقف في الفكر النقدي العربي رغم أنه لم يصبح باديا للعيان إلا عند الغزالي الأول (أي قبل أن يتنكر لفكره النقدي ويتبنى خرافات إخوان الصفا في مضنوناته على غير أهلها) وعند ابن تيمية وابن خلدون:
1-فبعد محاولة ابن تيمية القيام بالإصلاح النظري فلسفيا (نقد ما بعد الطبيعة والمنهج المنطقي) والعقدي (نقد الكلام والتصوف) من أجل التنوير الخلقي والتحرير الثقافي من الاستبداد الروحي أو العنف الرمزي ممثلا بالخرافة (توظيف المعتقدات العامة مثل الكرامات والوسائل والمزارات والقبور وكل أصناف الدجل الصوفي) توقف الفكر العربي عن الإبداع النظري والعقدي وغرقت الأمة في عصر الانحطاط إلى يومنا هذا.
لم ينتج عن النقد التيمي ما كان مأمولا أعني نظرية المسؤولية والحرية الفكرية الفردية من خلال العودة إلى الاتصال المباشر بالمرجعين (القرآن والسنة) وبالعالمين الطبيعي والإنساني خاصة والحاجز الميتافيزيقي قد انفرط عقده بفضل هذا النقد. وعلينا أن نبحث عن العلة: وأظن أنها توجد في الموضوع ذاته أعني موضوع النقد وفي النقد نفسه أو بصورة أدق في منهجه الذي قدم جرعة من الدواء كان فيها شيء من الإفراط أدى إلى المساعدة على قتل المريض.
2-وبعد محاولة ابن خلدون القيام بالإصلاح العملي فلسفيا (نقد الميتاتاريخ والمنهج التاريخي) الشرعي (نقد الفقه والتصوف) من أجل التنوير الحقوقي والتحرير التربوي من الاستبداد أو العنف المادي ممثلا بالتجبر (توظيف القوة العامة لاغتصاب الحقوق والاعتداء على الأعراض والكرامة ) توقف الفكر العربي عن الإبداع العملي والشرعي وغرفت الأمة في الظلم والظلام إلى يومنا هذا. لم ينتج عن النقد الخلدوني ما كان مأمولا أعني نظرية الشرعية السياسية والعقد العقلي والديني في الحكم ونظرية حقوق الإنسان التي سماها ابن خلدون “معاني الإنسانية” خاصة والحاجز الميتاتاريخي قد انفرط عقده بفضل النقد الخلدوني.
وعلينا هنا كذلك أن نبحث عن العلة: وأظن أنها توجد كذلك في الموضوع ذاته أعني موضوع النقد وفي النقد نفسه أو بصورة أدق في منهجه الذي قدم جرعة من الدواء كان فيها شيء من الإفراط أدى إلى المساعدة على قتل المريض.

الخاتمة

لكن رأي ابن خلدون في تكوينية الكلام السني (ويقصد به الكلام الأشعري مستثنيا منه الكلام الحنبلي حتى في شكله المحدث الذي أشار إليه في فصل الكلام) رغم أهميته ليس مطابقا لحقيقة ما حصل. فهو يعتقد أن علم الكلام السني بدأ مع الأشعري ومقصورا على الأشعرية. لذلك فهو عنده قد انتهى لما ابتلعته الفلسفة مباشرة بعد الرازي. ومن ثم فهو يهمل ما تقدم على الأشعري وتواصل بمعزل عن الأشعرية من كلام السنة والجماعة بأسلوب مختلف عن الكلام المذموم. لذلك فإنه ينبغي لنا أن نفهم هذه النشأة المتـأخرة والوفاة المحققة لنوع من الكلام اعتبر ممثلا للسنة والجماعة في تنافس واضح مع ضرب آخر من الكلام لا يعتمد على اللاهوت المنطقي والعقلي بل هو يعتمد على ما يمكن تسميته باللاهوت التاريخي والنصي.
ذلك أن نظرية ابن خلدون في تكوينية الكلام السني مقصورة دلالتها على ضرب معين من الكلام هو الذي يؤرخ له في مقدمته بمعيارين كلاهما ذو صلة بعلاقة الدين بالفلسفة والنقل بالعقل أعني معيار العلاقة بين الدليل والمدلول ومعيار العلاقة بين مسائل الكلام ومسائل الفلسفة. فسواء تعلق الأمر بعلوم اللغة أو بالفقه أو بالعلم الطبيعي أو بالأخبار الواردة في القرآن فإن الموقف المعرفي السني منها جميعا يقبل الرد إلى مبدأ واحد: إذا تعارض الفرض العقلي والمعطى التجريبي يقدم الثاني على الأول ويعاد النظر في الفرض ليطابق المعطى إذا كان من عالم الشهادة ويعلق الحكم إذا كان من الغيب. ومعنى ذلك أن هذا المبدأ ذو درجتين:
أولاهما يمكن اعتبارها نزعة تجريبية في مجال عالم الشهادة هي تقدم التجربة على الفرض العقل.
والثانية يمكن اعتبارها نزعة لا أدرية عقلا إيمانية عقدا في مجال عالم الغيب حيث ينبغي للعقل أن يكتفي بالإمكان أو بعدم وجود الامتناع بحيث يصبح الخبر الغيبي من باب الممكن عقلا.
وهذا الوصف المعرفي ضروري لكي نفهم مآل النقد السني للكلام وأصوله وللفلسفة وأصولها وللفقه وأصوله وللتصوف وأصوله بصورة تجعل الموقف السني موقفا ناتجا عن بدائل من هذه الفنون وليس عن رفض للعقل المزعوم مقصورا عليها :
فالبديل من الكلام المزعوم عقليا هو الكلام التاريخي أو النصي المتمثل في تاريخ النص الديني وتفسير ما يرد فيه من تجارب روحية هي المقصود بالدين تربية وتجربة روحية.
والبديل من الفلسفة المزعومة عقلية هو العلم المستند إلى الفرضيات الخاضعة للمقارنة مع التجارب العلمية بحسب أدوات الإدراك المناسبة لعصرها.
والبديل من الفقه المزعوم مستندا إلى الرأي والعقل هو الفقه المستند إلى النص التشريعي لأن القضاء من دون نصوص تحكم من القضاة.
والبديل من التصوف المزعوم فلسفيا هو التصوف الذوقي الذي يصف التجربة الروحية من حيث هي امتحان وجودي للوعي بالمطلق من دون الخروج عن تعاليم القرآن والسنة.
وبذلك نفهم الموقف السلفي من الكلام وعلينا أن نفهم كيف تم الانتقال من وصف الآراء عند الأشعري إلى المفاضلة العقدية بين أصحابها وكيف انحرف العلم بالعقائد إلى الحرب العقدية بدل السلم العقدية التي جاء بها القرآن ؟ أليس ذلك قد حصل لأنه تحول إلى رجم بالغيب وادعاء لما لم يدعه الأنبياء عملا بمبدأ قياس الشاهد على الغائب ؟
لا شك أن المعارضين للكلام والفلسفة لم يكونوا واعين تمام الوعي بالعلة المعرفية لمعارضتهم لكون المسألة كان يغلب عليها بعدها العقدي بل كان أساس موقفهم وعيهم بالعلة القيمية أعني بمآلات الموقف الكلامي والفلسفي على قيم الدين وعلى النهج القرآني في تحديد علاقة عالم الشهادة بعالم الغيب تحديدا أساسه الوعي بأن علم الإنساني محدود وبأن الوجود أوسع من الإدراك أعني بالذات ما أدركه ابن خلدون عندما اعتبر كل المسألة مردها إلى عدم فهم الفلاسفة هذه القضية وظنهم أن الوجود والعقل متطابقان.
وفي الحقيقة فإنه يمكن القول إن الخطأ هو الظن بأن القول كل المعقول (إنسانيا) موجود متعاكسة بحيث يمكن القول إن كل الموجود معقول (إنسانيا). لكن لا شيء يثبت هذا التعاكس. فالقضية الطردية تجعل الوجود معيار المعقول وهذا أمر بدهي: كل تصور عقلي لا يطابق التجربة (التي هي عبارة الموجود) يمكن أن يعد غير عقلي أو وهمي. لكني لا يمكن أن أعكس فاعتبر الوجود منحصرا في المعقول جاعلا العقل الإنساني معيار الوجود فأقضي بأن كل ما ليس بمعقول لي ليس بموجود.
وبذلك تتبين طبيعة المقابلة بين الكلامين الميتافيزيقي الذي يدعي العقلانية والتاريخي المقصور على المعرفة بالمراجع والممارسة الدينية:
فهي ليست مقابلة بين العقل والنقل بل هي من جنس المقابلة بين العقلانية الدغمائية والعقلانية النقدية. فالسؤال يتعلق بمسألتين منهجيتين بدأ الصراح بأولاهما وانتهى بثانيتهما:
المسألة المنهجية الأولى هي مسألة قياس الغائب على الشاهد.
والمسألة المنهجية الثانية هي مسألة قانون التأويل.
وكلا المنهجين يفترض القول به نفي الحاجة إلى الدين: لأن قيس الغائب على الشاهد يعني أنه يرد إليه. وقانون التأويل يعني أن النقل يرد إلى العقل. ومن ثم فلا يوجد شيء يحوج إلى الوحي بل العقل وحده كاف.
ولعل فهم طبيعة العلاقة بين هذين الصنفين من الكلام والمآل الأخير لدور هذه العلاقة في التحول الجذري الذي حصل في الغاية قد يساعد على فهم الفلسفة النقدية النظرية والعملية التي تحققت فعلا في تاريخنا الفكري فكان رمزاها الأساسيان جامعين بين الأشعرية والحنبلية الأصليتين أعني ما سعى إليه الأشعري في قطيعته مع الاعتزال وعودته لابن حنبل: إنهما ابن تيمية للنظر وابن خلدون للعمل. وهما إذن مؤسسا السلفية المحدثة في القرن الثامن للهجرة الرابع عشر للميلاد.
فهما قد أبدعا في الغاية فلسفة نقدية إحداهما للعقل وأداته الأساسية والثانية للنقل وأداته الأساسية أعني المنطق وما بعده بالنسبة إلى ابن تيمية والتاريخ وما بعد بالنسبة إلى ابن خلدون. فاسسا فلسفة نقدية تكتشف أساسيهما ومن ثم تتجاوز الشكل الأول من علوم الملة الأربعة ببعدها النظري والعملي:
فأساس موقف الكلام هو المنطق وما بعده.
وأساس موقف الحديث هو التاريخ وما بعده.
لذلك كان السؤال في الغاية دائرا حول هذين الأساسين اللذين بالجمع بينهما يحصل التوحيد الحي بين فرعي السنة أعني الأشعرية والحنبلية في صفائهما الأول الذي هو جوهر الفكر السلفي السوي: المنطق وما بعده والتاريخ وما بعده. وليس ما بعد المنطق إلا ابستمولوجيا علم الطبيعة والعالم وأنطولوجيتهما أعني أصل كل فلسفة علمية وليس ما بعد التاريخ إلا إبستمولوجيا علم التاريخ والإنسان وأنطولوجيتهما أعني أصل كل دين عملي.
لكن قبل ذلك كان لا بد للكلام والفلسفة أن يبلع كل منهما وظيفة الآخر وللفقه والتصوف أن يبلع أحدهما وظيفة الآخر. ذلك أن من خصائص الجدل بين أي خصمين أن يستذيب الخصمان أحدهما الآخر في ذاته فيتطابعا بحيث في حالة العلاقة بين الكلام والفلسفة تتكلم الأولى ويتفسلف الثاني وبذلك يتم تجاوز الشكلين إلى تحديد متبادل ينتج عنه نوع جديد من الفكر هو ما حاولنا وصفه في هذه الورقة: الفلسفة النقدية والكلام النقدي. وقياسا على هذا الوجه النظري من الفكر الإنساني يمكن القول إنه قد حصل ما يجانسه في الوجه العملي منه أعني في التصوف والفقه إذ نتج عن التحديد المتبادل: التصوف النقدي والفقه النقدي22. وابن تيمية وابن خلدون كلاهما يمثل عمله الفكري هذه الأصناف الأربعة من النقد.
وبذلك يصبح بوسعنا أن نجيب عن السؤال الذي مهد له رائدا نقد الفكر الإسلامي والإنساني ومحققا شروط بعض محفزات الإبداع الذي أسسته ما دعا إليه القرآن والسنة من الإصلاح والتجديد الدائمين: كيف يمكن أن ننقل الفكر الإسلامي المؤسس لعلوم الملة من طور علم الكلام إلى طور كلام العلم بنقلة تحرره من ما بعد الطبيعة وما بعد التاريخ السلبيين الضمنيين اللذين يحولان دونه وتحقيق هذه النقلة فيبقيانه في الموقف الدفاعي الذي لن يمكنه من الإبداع المستقل؟ ذلك هو طموحنا وما حاولنا الإسهام فيه بالمستطاع لنا آملين أن يوفقنا الله لما يرضاه للأمة في لحظة استئنافها السعي إلى تحقيق رسالتها الكونية.

الملاحظات

1

التعليق على جملة دانيال جيماري محقق المجرد ومقدمه في كلامه على علاقة الأشعري بابن حنبل: “هكذا يستعيد الأشعري بصورة نهائية هويته الحقيقية: هويته لا بوصفه تلميذا امعا لابن حنبل وإنما باعتباره متكلما حقيقيا من متكلمي عصره وتلميذا خليقا بشيخه أبي علي الجبائي متكلما كشيخه يقطع برأي نفسه في المسائل المختلفة ويخوص ببراعة شيخه في جميع لطائف دقيق الكلام هويته كرجل استحق بجدارة أن يطلق اسمه على كل المدرسة التي انتسبت إليه” ص. 5 (مجرد الأشعري لابن فورك تحقيق دانيال جيماريه المكتبة الشرقية بيروت 1986).

2

ذلك أن التبين في الآفاق ليس هو إلا ما يحصل من بيان بفضل علمها أي علم العالم الطبيعي والتبين في الأنفس هو ما لا يحصل إلا بفضل عمل الأنفس أي علم العالم التاريخي لذلك كان عمل الأول التمييز بين شروط العلم الطبيعي ومنهجه والميتافيزيقا فكان مدار كلامه العلمي حول المنطق وما بعده الذي يؤسسه وكان عمل الثاني التمييز بين شروط العلم التاريخي ومنهجه والميتاتاريخ فكان مدار كلامه العلمي حول التاريخ وما بعده الذي يؤسسه.

3

فعندما يصبح الكلام فلسفيا خالصا ويصبح الحديث نقليا خالصا يوضع مشكل المنهج العقلي أو المنطق وما بعده والمنهج النقلي أو التاريخ وما بعده فتحصل الثورة العلمية التي تحققت فعلا بعد حصول الظاهرتين: ظاهرة تحول الكلام إلى فلسفة وتحول الحديث إلى تاريخ

4

ولأن العكس هو الذي حصل في جامعاتنا التقليدية كانت النتيجة الانحطاط العلمي النظري والتطبيقي وقد تبعه الفشل العقدي لأن الإقناع بتصور معين للحقيقة لا يكون ممكنا إلا إذا بان للعيان أن هذا التصور قد كان مثمرا إثمارا بينا في حياة أصحابه

5

وهو ما لا أسلمه إلا جدلاً بدليل تذمر الكبار من الكلام والفقه والتصوف والفلسفة في صيغها التي سادت. وليس معنى هذا أني أرفض النظر في المسائل الروحية! أو محاولات صوغ التجارب الروحية للأفراد!. فذلك أبعد شيء عن قصدي لأنه مفيد فضلاً عن كونه لا يمكن أن يزول حتى لو مُنع. فكلنا نحاول أن نبني نسقاً مما نتصوره نظاماً يفسر تصوراتنا في المسائل الوجودية. ما أرفضه هو أن يصبح ذلك مفروضاً من صاحب التجربة في تجربته الشخصية على غيره بحيث تصبح بعض الصيغ بدائل من الأمر المصوغ فتحول دون وجدانات الناس الآخرين في نفس الحق في التعبير عن التجربة الروحية باسم صيغ رسمية للعقائد والشرائع بدائل زائفة منها تقتل الفكر والذكر. وهذه الظاهرة ليست خاصة بالأديان. فحتى العلوم الدنيوية يحصل فيها ما هذا جنسه وبمجرد حصوله تموت: فبمجرد أن تصبح إحدى الصيغ هي العلم يموت العلم لأنه يتحول إلى تعليق وشرح لتلك الصيغ الرسمية ويصبح أصحاب تلك الصيغ بنصوصهم بدائل من موضوع التجربة والعلم نفسيهما فيموت مصدر الفكر الحي أعني العلاقة المباشرة مع موضوع الصيغ النظرية ومثله موضوع الصيغ العقدية والشرعية وكل أصناف التعبير الإنساني. وهكذا حصل في الفكر الفلسفي الذي بقي ما يناهز العشرين قرناً (من الرابع قبل الميلاد إلى السادس عشر بعده) يجتر الشروح والحواشي على فلسفة أرسطو وأفلاطون بدل البحث في ما كانت هاتان الفلسفتان محاولتين لصوغه. باتت الصيغتان بديلتين من الموضوع الذي لم يعد أحد يتكلم عليه أو يسعى للنفاذ إليه واكتفى العلماء بالشرح والتعليق والخلافات حول دلالة الكلمات لكأنها يمكن أن تكون ذات دلالة من دون ما جعلت رموزاً للدلالة عليه. ولذلك صار الفكر الفلسفي عقيماً إلى أن حدثت الثورة عليه في مجالين خارجين عنه : مجال العلوم التجريبية، ومجال الأعمال الروحية والدينية، التي عبرت عن تجارب حية. فحصل الإصلاح الديني والعلمي في الغرب وآل إلى الإصلاح الفلسفي. ولا شيء من ذلك حصل في مؤسساتنا الدينية والفكرية : وهو ما يعني أن سلطان كنائسنا المتنكرة صار أقوى من سلطان كنائسهم الصريحة !.

6

فتاريخ أي علم أو فن لا يكون علمياً إلا إذا تضمن منظورين للمسائل التي يؤرخ لها: منظور عصر المؤرخ ومنظور عصر الأمر المؤرخ له. فلا يمكن لي أن أتكلم في منطق القرون الوسطى الآن في القرن الحادي والعشرين من دون أن يكون لي علم به في عصره ومن دون أن يكون لي علم بالمنطق في عصري. التاريخ مشروط دائماً بهذين الوجهين سواء كان موضوعه العلم أو العمل. وإذا توفر هذان الشرطان يكون التاريخ هو بدوره علمياً ويمكن أن يسهم في جبر الكسر بين الماضي والحاضر. أما إذا تكلم المؤرخ اليوم في القرون الوسطى بفكر القرون الوسطى لا غير فهو ليس مؤرخاً بل مستعرض لمعلومات ميتة كبائع المآثر القديمة للسواح!.

7

ابن خلدون المقدمة الباب السادس فصل إبطال الفلسفة وفساد منتحلها دار ابن حزم بيروت 2003م ص:429.

8

الكلام السلبي أو الفلسفة من حيث هي موقف نقدي وظيفة فكرية لازمة لكل أعمال النظر الإنساني قبله وخلاله وبعده لأنه يمثل عين الرقيب الملازم لكل فعل واع يسعى صاحبه إلى تجنب الأخطاء التي تجعله ينسى أن الخيال العقلي يبدع بشرطين: أن يتجاوز الموجود من كل ما صنعه الإنسان دون أن يتجاوز شروط التجاوز أعني ما يجعله من جنس الفعل العقلي الواعي بمحددات التعقل المبدع وليس مجرد قفز في فراغ التخيل الوهمي: وذلك هو الأمر الذي يميز بين الخيال العلمي، والعلم الخيالي! إذ إن الخيال العلمي يبدع النظريات بشروط النظر الخاضع لشروط الامتحان الذاتي المنهجية والمعرفية والثاني مجرد سرحان في الممكن من حيث هو ممكن بإطلاق دون شروط الامتحان الذاتي المنهجية والمعرفية. وليس من شك في أن بعض القفزات في التخيل المطلق قد تكون مفيدة لكنها تستمد فائدتها مما استندت إليه من صلتها بالنوع الأول من التخيل لأن توهمات الجاهل بالعلوم ليست هي حتى من العلم الخيالي العالم بالعلم أولاً ومن الخيال العلمي في ذروته ثانياً بل هي لا تكون إلا نكوصا إلى الخيال البدائي كالذي يتخيله المتكلمون حول العرش أو حول الذات الإلهية أو حول أي موضوع من موضوعات العقائد. العلم الخيالي هو من جنس الميثولوجيا لكنه يكون مشاركاً في الإبداع إذا كان من عصر الخيال العلمي فلا ينكص إلى الميثولوجيا البدائية . فلكل عصر من عصور العقل الإنساني ميثولوجاه . مثال ذلك كلام شباب الغرب على غزو العالم في العلم الخيالي له معنى لصلته بالخيال العلمي في غزو الفضاء حقاً. وكلام أي مسلم عن بساط الريح ريح لأن المسلمين لا يبسطون شيئا اليوم غير الريح ! ولن يصبحوا مبدعين بالكلام عن ألف ليلة وليلة كخيال علمي. وكذلك الشأن في الكلام. فلم يعد فيه شيء من الكلام عن التجارب الصادقة للفكر الإنساني: وإذا أراد داعية أن يقنع أحداً بالعقيدة الإسلامية فإن أفضل طريقة ليست الحجاج بل هي أسلوب القرآن في ضرب الأمثال، ووصف الوضعيات الوجودية التي هي بذاتها معبرة عن أحوال النفس البشرية الكلية، والتي يفهمهما أي إنسان من حيث هو إنسان. أما الجدل فهو أبعد الطرق عن الإقناع لأنه يولد العناد والعزة بالإثم عند المجادل.

9

من جنس ما يقول به صانعو صيغ العقائد كالتي بدأ بها الشيخ درسه الموجه إلينا في هذا الرد المكذب للوعد الذي تصدره الوعد بتغيير أسلوب الحوار.

وهذا الشرط هو الذي يمكن من التمييز بين نوعين من الغائب. فالغائب القابل للشهادة يمكن أن يقاس على الشاهد وإن باحتراز لأن القيس ينبغي أن يبقي على الفارق وإلا لرد كل المجهول إلى المعلوم فلا تتقدم المعرفة. أما الغائب الذي لا يقبل المقايسة مع الشاهد أعني الغيب فإن قيسه على الشاهد هو مصدر كل المآسي الناتجة عن علم الكلام وتحويل الفرق إلى احزاب تتصارع بدعوى العلم في ما لا يعلم ولا يحتاج فيه إلى العلم بالمعنى الوضعي المزعوم: كل ما يتعلق بالغيبيات من الغيب المحجوب مثل ذات الله وصفاته وكيفيات الحساب والبعث إلخ… من الأخبار النبوية التي لا يمكن لعلمنا أن يتجاوز المعرفة التاريخية بكونها فعلا مما جاء به النبي ثم التصديق بذلك إن آمنا بنبوته أو التكذيب إن كنا لا نؤمن بنبوته

 

وذلك لأنه يؤسس لممارسات تتنافى مع ما قدم القرآن بدائلها ليحررنا منها بوصفها عين ثمرات التحريف والجاهلية التي خصصت لها سورة آل عمران جل آياتها. فالقرآن الكريم قد حدد شرط شروط التحرر من سلطان الكنائس والسلط الروحية القاضية في أمور العقائد والمؤسسة لبدعة تأليه الإنسان في شخص المسيح عليه السلام وفي عبادة الأحبار والملائكة ومن ثم تحويل البشر بعضهم للبعض أرباباً حررنا منها عندما وضع مبدأ حرية المعتقد المبني على نظرية ثورية في طبيعة العقد الديني من حيث هو فطرة ذات وجهين يجمعان بين وحدته في الواجب (الإسلام هو الدين الواحد عند الله) وتعدده في الواقع (كل الأديان التي يعترف بها القرآن وقد حصرها في الخمسة الأخرى التي جاءت في الآية 17 من الحج أعني اليهودية والمسيحية والصابئية والمجوسية والشرك). وهذا المبدأ من مؤيداته التي لا تكاد تخلو منها سورة من سور القرآن الكريم الإشارة إلى أن الله لو أراد أن يكون البشر أمة واحدة على دين واحد لفعل. ومن ثمراته دعوة النبي إلى عدم الغلو في فرض العقيدة الإسلامية في الواقع بل الدعوة إليها بوصفها حقيقة الدين في الواجب.

ذلك أن الله أراد التعدد قصداً ! وهو يعتبره من شروط التنافس في الخيرات على الأقل في الوجه الشرعي من الدين (المائدة 48). أما المبدأ الثاني الذي أسس عليه هذه الممارسات فهو نظرية في معرفة حال الاعتقاد عند الإنسان معرفة مقصورة حقيقتها المطلقة على الله دون سواه دون أن ينافي ذلك المعرفة الخارجية بالعلامات الكافية التي يحتاج إليها تنظيم الحياة الجماعية (وهي موضوع التعريفات الفقهية لا التعريفات العقدية): لأن السرائر علمها من الغيب. ولعل أهم نتائج هذين المبدأين التحذير مما قد ينفيهما أعني الدائين المذكورين في الآية السابعة من آل عمران. والمهم في حالتنا هذه هو المبدأ الثاني أعني العلم بحقيقة المعتقد في قلوب المؤمنين لأن المبدأ الأول قل أن تجد من ينكره صراحة رغم كون نكران هذا المبدأ يودي إلى نكران ذلك المبدأ. وهذا المبدأ الثاني حددته الآية 125 من النحل: “ادع إلى سبيل ربد بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن. إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين“. والمخاطب هو رسول الله وفيها تعليل لتحديد نوع الدعوة المطلوبة منه: فهو لا يمكن أن يغلو في التنقيب على القلوب لأن الله هو الأعلم بالضلالة وبالهداية من الرسول ومن باب أولى من أي متكلم يتجرأ على التكفير والتفسيق والمقاتلة زعماً منه أنه يعرف حقيقة المعتقد في ذاته ليحاسب بمقتضى علمه الناس الذين يحكم بضلالتهم لحكمه بهداية نفسه. وهو قد يكون أضل عباد الله دون أن يدري ! لذلك فلست أدري من أين أتى التعصب الأعمى الذي ولد فرق الكلام رغم أن النبي الكريم نبه إلى خطر الانقسام بسبب العقائد واعتبر تعدد الفرق لن يبقي النجاة إلا لواحدة منها. وطبعاً فلا يعني ذلك أن الأغلبية لن تكون من الناجين بل العكس هو الصحيح: فكل فرقة لا تتجاوز القائلين بها من واضعيها. ذلك أن الله رؤوف رحيم ورحمته تسع كل من لم يشرك به ولم يشرك على علم مزعوم به إلا تكلم في المتشابه رغم النهي الصريح لأن صيغ المتكلمين العقدية أوثان بينة للعيان. أما من يقلدهم فقل أن يفهم من هذه الأوثان شيئاً ! والذنب الوحيد هو أنه تخلى عن الذكر الشخصي والتفكر والتدبر فحرم من العقد الصادق الذي هو عين هذا التفكر والتدبر لا ما يتصوره المتكلمون ثمرات الفكر الواجبة أعني صيغهم المضحكة. والصيغ الكلامية للعقائد هي عين التشبيه غير الواعي بذاته بخلاف التمثيل العامي الذي لا يصحبه وهم النفاذ إلى حقيقة الغيب بل القصور المعترف بذاته ومن ثم فهو يعود إلى الفقر إلى الله والاعتماد على ما خاطب به القرآن الفطرة أو النور الطبيعي مع شرط ليس كمثله شيء. لذلك فلهم على الأقل– الذي هو الأكثر الممكن للإنسان– أعني إيمان الفطرة المكتفية بأساسيات الإسلام لأن ما عداها من أوهام المتكلمة ولا معنى لها عند العقل السليم فضلا عنها عند الله: وهذا الإيمان الفطري ثابت لا يتزحزح بخلاف عقائد المتكلمين التي هي لا تقل عدم ثبات ووثاقة عن التصورات الذهنية والعبارات اللغوية التي تصوغها

العلاقة بالرواقية واضحة في كلام المتقدمين حتى من السنة (كما في نظرية الجوهر الفرد والخلاء إلخ..) والعلاقة بالكلام المسيحي واضحة خاصة في الكلام الاعتزالي كما في مسألة أفعال العباد أو الجبر والاختيار أو كلمة الله إلخ….

ابن خلدون المقدمة الباب السادس فصل المنطق:” (…) والمتأخرون من لدن الغزالي لما أنكروا انعكاس الأدلة ولم يلزم عندهم من بطلان الدليل بطلان مدلوله وصح عندهم رأي أهل المنطق في التركيب العقلي ووجود الماهيات الطبيعية وكلياتها في الخارج قضوا بأن المنطق غير مناف للعقائد الإيمانية وإن كان منافيا لبعض أدلتها بل قد يستدلون على إبطال كثير من تلك المقدمات الكلامية كنفي الجوهر الفرد والخلاء وبقاء الأعراض وغيرها. ويستبدلون من أدلة المتكلمين على العقائد بأدلة أخرى يصححونها بالنظر والقياس العقلي ولم يقدح ذلك عندهم في العقائد السنية بوجه. وهذا رأي الإمام والغزالي وتابعهما لهذا العهد..” نشرة دار ابن حزم بيروت 2003 ص. 391.

وبين أن في ذلك تحريرا للفكر من الترابط بين المطلوب وأداة الوصول إليه. فيصبح الفكر بوسعه أن يبدع الكثير من البدائل لتحقيق نفس المطلوب. لكن ما حصل لم يكن هذا المأمول بل صار مجرد عذر للانتقال من موقف رفض الحجاج الكلامي عامة واستعمال المنطق في العقائد خاصة إلى جعله شرطا فيها. وطبعا لم يكن السلف بمنجاة من استعمال المنطق بإطلاق بل كان المنطق الذي يستعمله من مارس بعض كلام لا يلزمهم بنظرية في الوجود متنافية مع مبادئ الإسلام. فحساب القضايا الذي كان الغالب على كلام الأوائل لم يكن يلزم مستعمله بما تلزمه به نظرية الحد والبرهان الأرسطية من اعتبار الحد عبارة الماهية المؤلفة من جنس وفصل واعتبار البرهان مطابقة بين قوانين المنطق وقوانين الوجود. فكان بوسع المتكلم أن يأخذ القضايا القرآنية نفسها مقدما فيجعل عقيدة قرآنية تاليا فلا يقع الخروج من نفس الخطاب ومن ثم فالدليل والمدلول كلاهما من نفس الجنس وهما معتقدان: لكن أحدهما أكثر مباشرة من الآخر لا غير. لكن المتكلمين القدامى خطوا خطوة أخرى فأخذوا عبارات من الفلسفة الرواقية وجعلوها مقدما (مثل الجزء الذي لا يتجزأ والعرض الذي لا يقوم بذاته ولا يبقى زمانين ومثل الملازم للحادث حادث) لينتهوا إلى توالي عقدية. ثم طبقوا عليها نفس المبدأ الذي كان يستعمله السلف جاعلين إياها جزءا من العقيدة. وهذا الخطأ الأول يسر التخلص من الصلة بين الدليل والمدلول: فهما في هذه الحالة ليسا من نفس الجنس.عند السلف كان الدليل من القرآن والمدلول منه كذلك. وكلاهما إذن من العقيدة. أما في كلام المتقدمين فالدليل ليس من القرآن والمدلول منه. فيكون من الواجب الفصل. وهو ماحدث في كلام المحدثين. ومنذئذ صار دخول الميتافيزيقا الأرسطية شرطا في دخول المنطق المستند إليها

من أهم العلامات الجامعة بين البعدين الوجودي والمعرفي هو الانتقال من تصور الجوهر جوهرا فردا (كلام المتقدمين) إلى تصوره مؤلفا من صورة ومادة بمعنى الهيلومورفية الأرسطية (كلام المتأخرين). فمن هنا يأتي التركيب في الحد وفي المحدود والتمييز بين الصورة الجوهرية والأعراض في حين أن كل عناصر الصورة كانت أعراضا في التصور الأول للجوهر. ومنه يأتي كذلك نظرية المعرفة التي تيسر استعمال منطق الحدود المسورة في مرحلة الكلام الثانية بدل منطق حساب القضايا في مرحلته الأولى. ولولا هذين التحولين لامتنع استعمال المنطق الأرسطي في علم الكلام خاصة وفي علوم الملة عامة.

وبذلك يتبين بخلاف السائد في قراءة تاريخ فكرنا: الموقف النقدي كان أكثر وعيا بطبيعة الفكر العقلاني من الموقف الدغمائي للكلام والفلسفة والفقه والتصوف في صورها التي كانت سائدة بحيث إن البدائل السنية التي وصفنا في الهامش السابق رغم كونها كانت موقف الأقلية في مجال الفكر والتأليف فإنها هي الممثلة حقا لقيم القرآن وتعاليمه وهي التي ينبغي أن تعد الأصل الذي يمكن أن يستأنف علم الأمة الحضاري نظرا وعملا من منطلقه.

وطبعا فحمار الشيخ ليس فيه تحقير للجبائي الأب. فالأشعري على خلق ولا يتكلم على شيخه بسوء أدب بل الحمار هنا هو العقل الذي لم يجد حلا لمعضلة الأخوة الثلاثة بمبدئه الأساسي أعني عدم التناقض. فالعقل حمار في المسائل الماورائية بما لم يفهم أنها ليست من مجاله وهو يصبح عين العقل بمجرد أنه يفهم قول الصديق إن العجز عن الإدراك إدراك (لحدود الإدراك): وبصورة أوضح فلكأن الأشعري قال ما قاله الصديق بعبارة سلبية أي إن من لم يدرك أن العجز عن الإدراك إدراك لحدود الإدراك حمار. فرحم الله الشيخ الذي حاول أن يخرج السنة من الحمارية ليعود بها إلى السنة بما ترمز إليه هذه العبارة لولا ما طرأ من تحريف على فكره من بعده بدءا بمنهج قيس الغائب على الشاهد وختما بقانون التأويل. وأظن أن البعض يتوق من جديد للاستحمار

ويمكن القول إن ذلك هو القصد العميق لقطيعة أبي الحسن مع الاعتزال بعد أن أدرك حدود المعرفة العقلية وقصور مبدأ عدم التناقض رمزا إلى ذلك بمثال الأخوة الثلاثة. فهو قد أدرك الفرق النوعي بني مجالي المعرفة الإنسانية مجال التجربة الوجدانية التي لا يكون العلم بها إلا نصيا تاريخيا ومجال التجربة الحسية التي لا يكون العلم بها إلا تجريبا رياضيا. لكنه لم يعبر عن ذلك بالوضوح التام فكان ما بقي في علاجه من اعتزال بتوسط منهج قياس الغائب على الشاهد دون فصل واضح بين الغائب بمعنى ممكن الشهود والغائب بمعنى الغيب ممتنع الشهود فكان مآل الأشعرية العودة إلى الاعتزال في النهاية بل إلى ما هو أسوأ.

وإذا حاولنا ترجمة ذلك بعبارة نظرية المعرفة كان القصد حصر المعرفة العقلية في ما يقبل الحس الممكن أو الشاهد الممكن تمييزا بين معنيين للغائب أعني الغائب المعرفي وهو الشاهد الممكن والغائب الغيبي وهو ممتنع الشهود لكونه محجوبا حتى على الأنبياء.

ذلك أنك إذا قست الغائب على الشاهد دون التمييز بين الغائبين المعرفي والغيبي ثم أردفت ذلك بقانون التأويل مرجعا كل ما يتعارض ما يعلمه العقل بهذا المنهج بالتأويل ردا للنقل إلى العقل فإنك تنفي الغيب حتما وتدعي أنه قابل للعلم العقلي هذا فضلا عن كون التأ ويل بهذا المعنى المطلق يعني أنك مثل فلاسفة العصر الوسيط تعتبر الوحي عبارة شعبية عن الحقيقة الفلسفية بل هو إيديولوجيا عملية دون العلم العقلي منزلة دون شجاعة التصريح بذلك.

ابن خلدون شفاء السائل ملحق بـ“دراسة تحليلية للعلاقة بين السلطان الروحي والسلطان السياسي” لأبي يعرب المرزوقي الدار العربية للكتاب تونس 1991 ص

ولعل أفضل مثال الخصومة بين الفقهاء والمتصوفة والتي بلغت حد التراشق بالنعال في منتصف القرن الثامن وكانت موضوع مراسلة علمية بين الشاطبي وعلماء فاس وكان علاج ابن خلدون الفلسفي للمسألة موضوع كتابه شفاء السائل الذي علقنا عليه في كتاب العلاقة بين السلطانين الزماني والروحاني.


الأشعرية دلالة العلاقة بين وصف الآراء و تأسيس علم الكلام الدفاعي – أبو يعرب المرزوقي

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي