ه
سأعتبر لقاء وارسو الذي انفض أمس مناسبة لتوضيح موقف من قضية الخيار بين أحد التحالفين مع إيران أو مع إسرائيل وهو موقف كثيرا ما عيب علي.
وسأبدأ بتحديد مبدأين لا يمكن من دونهما المفاضلة بين الأحلاف وتحديد الحاجة إليها أصلا:
- هل اعتبار العرب مجبرين على الخيار بينهـمـا مبرر أم هو لضيق أفق القيادات العربية والجهل بشروط المفاضلة بين الحلفاء ودواعي الحاجة إليها؟
- هل تبادل التهم بخيانة الأمة بين المتحالفين مع إيران والمتحالفين مع إسرائيل فيه مصيب ومخطي أم إن الصفين كليهما مخطئان ومن ثم فعملهما ضار بالأمة؟
فكلا الصفين يعتمدان نفس التعليل. وأقصد بوحدة التعليل، التعليل المعلن لأن التعليل الخفي هو الذي ألجأهم لهذا الخيار. وحتى يكون موقفي صريحا لئلا يظن بي أخفي تعليلي في ترتيب الاعداء: عندي أنه لو كنت مضطرا للخيار بين إسرائيل وإيران لكان معياري أولا الجواب عن سؤال مقدم: أيهما أخطر وأعدى لاستئناف دور الأمة وليس لحزبي أو لقُطري.
فلا فرق عندي بين الفلسطيني الذي يعلل موقفه في قضيته القطرية بكون إيران تساعده أو الإماراتي الذي يعلل موقفه بكون إسرائيل تساعده في قضيته القطرية لأن الموقفين كلاهما يهتم بالعاجل وينسى الآجل الذي سيلغي فائدة العاجل مباشرة بعد أن الحليف غايته من المساعدة التي تجعلني أداة في مشروعه.
ومعنى ذلك أن تقديم الفلسطيني والإماراتي مصلحتهما العاجلة على المصلحة الآجلة للأمة تجعلهما مجرد أداة في مشروع إيران وإسرائيل وليس في مشروع جامع للعرب بل وليس حتى للمشروع القُطري الذي سرعان ما يترك لمصيره بمجرد أن يحقق الحليف المزعوم هدفه من استعماله لمن توهم المساعدة.
ولأوضح: لن تستفيد فلسطين من مساعدة إيران المزعومة إلا في حدود حاجة إيران لورقة المقاومة الخادمة لمشروعها. ولن تستفيد الإمارات من مساعدة إسرائيل المزعومة إلا في حدود حاجتها لورقة العرب الخادمين لمشروعها. لكن ليس هدف إيران تحرير فلسطين وليس هدف إسرائيل جعل العرب يصبحون ذوي سيادة.
وإذن فالتعليل لاختيار الحليف واحد في الحالتين وهو في الحقيقة استراتيجية العدو وانتهازية المتحالف العربي. وإذن فلا يمكن المفاضلة بينهما وخاصة على أساس الاخلاص لمشروع الأمة أو على أساس خلقي أو حتى على أساس استراتيجي هادف لربح حرب حقيقية. كلاهما في الحقيقة يفعل ذلك لتجنب السؤالين الجوهريين: - ما علة اضطراري للخيار بينهما
- وأيهما أنسب لمشروعي إن كنت مضطرا؟
الجواب عن السؤال الأول يبين أن المثالين الحاكم في الإمارات والمقاوم في فلسطين يدعي الاضطرار ولا يبين علته الحقيقية وليس المعلنة. فلو كان الفلسطيني حقا يبحث عما يساعده في علاج قضيته الاساسية لعلم أن وحدة الحركة الفلسطينية أهم ألف مرة من وهم السند الإيراني بالمنطق والتاريخ.
وابدأ بالتاريخ: لا نعلم في التاريخ حركة مقاومة ربحت الحرب عسكريا. الشعوب التي تقاوم محتل واستعمار تربح الحرب بالمطاولة والصمود الروحي والمعنوي وليس بالمساواة في السلاح مع العدو. والدليل أكبر مقاومتين حديثتين الفياتنامية والجزائرية. كلتاهما لم تهزم العدو عسكريا بل هي هزمته روحيا بوحدة شعبها وصبره أولا ثم بما أحدثته بالمطاولة من يأس شعب العدو في بلاده.
والأهم من ذلك هو أن المساعدة التي أتتهما لم تكن من عدو يريد احتلال الروح وليس الارض وحدها. وبهذا كما سأبين تعتبر إيران أعدى من إسرائيل ليس لأن هذه صديق بل لأنها لا تستطيع أن تحتل الروح مهما طال احتلالها للأرض: ويكفي مثالا على الدعوى الأولى ما حدث في العراق ويحدث في سوريا واليمن.
مهما بقيت إسرائيل في فلسطين فلن يصبح الفلسطينيون يهودا. لكن قد يصبحون شيعة كما حصل في إيران أولا وهي قد كانت سنة وكما نراه يحصل في العراق وفي سوريا وفي اليمن. إسرائيل تريد الأرض وستخرج منها ككل استعمار وإيران تريد الروح قبل الأرض لأنها إذا احتلتها ضمنت أن يصبح المحتل مدافعا عن احتلال محتله له.
وتلك هي خطة دهاقنة واضعي استراتيجية الانتقام من العرب بما غزوهم به أعني بالإسلام بعد تحريفه وتأسيس نظرية الوساطة الروحية في التربية (الكنسية) والوصاية المادية في الحكم (الحكم بالحق الإلهي المزعوم للأيمة من آل البيت والقصد آل بيت الأكاسرة) ثم بمليشيات منهم بداية من خراسان وتحطيم الدولة الأموية إلى اليوم. لكن العرب بسبب البداوة غرقوا في الإخلاد إلى الأرض ونسوا قيم الإسلام وشروط العزة بعد أن صاروا كالخنازير يتمرغون في قاذوراتهم.
كل مليشيات إيران العربية -الحشد وحزب الله إلخ.. عرب في الأصل لكنهم حمير وعبيد لاستراتيجية إيران الساعية لاسترداد امبراطورية فارس بصريح خطابها الحالي ناهيك عن الخفي من مشروعها. فيكون الفلسطيني بدعوى مقاومة إسرائيل من حيث لا يدري هو مجرد ورقة في يد إيران.
وفي المقابل الإماراتي هو في نفس الوضعية فهو لا يدافع عن عروبة الإمارات ولا عن سيادتها بل على بقاء نظام عميل يحتمي ليس ضد إيران بل ضد عدو ثالث لم يعد يخفيه: إرادة شعبه للتحرر من الاستبداد والفساد أو ما يسميه هو الإسلام السياسي لأن شعبه بدأ يشعر بأن هويته العربية الإسلامية في خطر.
الخيار عنده ليس علته خطر إيران إذ هو أكثر الأنظمة العربية تعاملا معها بل خطر الإسلام السياسي السني بالذات. ولما كانت إيران نفسها تعتبر الإسلام السياسي السني بالذات عدوها الأول بات واضحا أن من يطلب السند من إيران يعادي تحرر الأمة أو ما يسمونه ثورة الربيع مثل من يطلبه من إسرائيل.
وهنا يتدخل المنطق: فلا يمكن أن يدعي من يتكلم باسم المقاومة ضد إسرائيل أن يكون حليفا لمن يحارب تحرر الشعوب العربية والإسلامية من الأنظمة التي تحميها إيران وأن يدعي من يتكلم باسم مقاومة إيران أن يكون حليفا لمن يحارب تحرر الشعوب العربية والإسلامية لخوفه منه أكثر حتى من إيران.
فيتبين منطقيا أن من يحالف إيران عدو لتحرر شعبه في المدى القريب والبعيد ومن يحالف إسرائيل عدو لشعبه في المدى القريب والبعيد وأنهما في الحقيقة لا يؤمنون لا بتحرير الشعوب ولا خاصة بمشروع يتجاوز وضعية المحميات العربية الحالية إلى استعادة دور الامة وسيادتها في التاريخ الكوني.
وهكذا نكتشف العلة الحقيقية لما يسمونه الاضطرار للحلف مع أي منهما: عدم الإيمان بأن للعرب الحق في المشروع المستقل الذي يجمع العدوان الإسرائيل والإيراني على منعه بكل الوسائل ومن هذه الوسائل هذه الانظمة سواء الحاكم منها أو المعارض الذي يدعي المقاومة. فهي أدوات لمنع المشروع. ولأوجز في الختام: - فالمبدأ الأول هو معيار ترتيب الأعداء ليس بالعواطف ولا بالتحكم بل بمدى قابلية الاقتلاع في وقت منظور. من يحتل الارض مهما طال احتلاله يمكن قلعه. من يحتل الروح إذا نجح لن يزول. إذن إيران أعدى من إسرائيل لأنها لا تستطيع احتلال الروح وتكتفي باحتلال الأرض ويمكن قلعها كاستعمار مادي.
لكن إيران تحتل الروح بخرافة آل البيت وإذا احتلت الروحي استحال الاسترجاع لأن المحتلة روحه يصبح مدافعا عن احتلالها من قبل محتلها وتصبح الأرض تابعة لمحتل الروح. وهذه هي حال العراق وسوريا وبداية ما قد يتم في اليمن. ومن يدري فلعل جل الخليج في هذه الوضعية لان التقية معلومة الأثر. - والمبدأ الثاني هو أن أي جماعة لا تكونه مضطرة للتحالف بذه الشروط إلا إذا فقدت المشروع الذاتي فتتحول إلى أدوات في مشروع من تتوهمه حليفا وهو عدو أكثر من العدو الذي تتصور نفسها تحميها منه وهو أقل خطرا من العدو الذي تحالفت معه. حماس فضلت وهم “مقاومة” دون وحدة الشعب وهو خطأ استراتيجي.
والإمارات فضلت وهم حماية إسرائيل دون إرادة شعبها. لذلك فهي لم تحالف إسرائيل خوفا من إيران لأنها أقرب العرب إليها بل خوفا من شعبها لأنها تخاف الإسلام السياسي. وإيران وإسرائيل كلتاهما تحارب تحرر الشعوب العربية كما يرمز إلى ذلك حربهما على الربيع فإن كلا الحلفين خطأ استراتيجي بين.
ومما يزيده بينونة ترك تركيا وحدها وهي ربما الحليف الحقيقي لمنع سايكس بيكو جديدة ستفتت ما بقي من شبه دول عربية لتحولها إلى ما يشبه الوضع الراهن في فلسطين وفي الخليج وفي سوريا وفي العراق وفي المغرب أي معازل لقبائل وطوائف وأعراق من جنس ما حصل للهنود الحمر: ذلك ما أخشاه.
فتركيا هي الوحيدة المدركة لهذه الخطة الاستعمارية التي تعتبر إيران وإسرائيل أداتيها المفضلة وذلك لأنها كانت الضحية الكبرى لسايكس بيكو الأولى. لكن هذين هما بدورهما أداتان لقوتين تسعيان إلى اقتسام الاقليم في استعدادهما لنظام العالم الجديد وخاصة لعمالقته من حضارة الشرق الاقصى أعني الهند والصين خاصة.
فسايكس بيكو الأولى أسقطت الخلافة. لكن الأتراك حافظوا على دولة ذات ثقل بفضل مقاومة شارك فيها كل المسلمين وكانوا كلهم يفخرون بها ولولاها استرد الغرب كل أرض بيزنطة ولصدق كلام هيجل فأخرجوها من أوروبا كليا. واليوم يريدون تفتيت هذه الارض بإيهام الأكراد كما فعلوا مع العرب في المرة الأولى. والعرب اليوم عون لهذا المشروع الخطير.
والشيء الثابت أن الغرب الحالي -وخاصة أمريكا التي هي مغول الغرب-لا يخشاهما بل يخشى ما قد يفشلان في تحقيق ما ينتظره منهما لتمكينه من تفتيت دار الإسلام تفتيتا نهائيا يحول دون عودة المسلمين لدورهم التاريخي. وقد اختارهما بالذات لأن لهما كليهما ثأر مع الإسلام لأنه قضى على قوة الفرس المادية وعلى قوة اليهود الروحية منذ أن حرر الإنسانية من سلطانيهما.
وأخيرا فإن كلامي هذه لم أخفه عن كبار قيادات حماس. ذلك أن إيران لا تحالف أحدا بل هي تستغل الجميع ولا تدري أنها هي بدورها مستغلة في هذا المشروع مثلها مثل يهود إسرائيل: كلا الشعبين يتوهمان أنهما شديدا الخبث والذكاء. لكنهما في الحقيقة هما بدورهما لا يقلان غباوة عن العرب: هما مجرد ذراعين لقوى تستعملهما وتوهمهما بأنهما قوتان عظميان.
كذلك استعمل الصليبيون ومغول الغرب ماضيا والاستعماريون مغول الشرق حاليا الفرس واليهود في كل تاريخ حربهما ضد الإسلام. ولا أظن أحدا يجهل ذلك. لذلك فمن يتوهمهما قوتين عظميين سواء منهما أو من غيرهما يجهل أنهما لا يمثلان إلا أداتين في يد قوى الغرب والشرق على الأقل منذ بداية تاريخ الإسلام إلى اليوم.
ما يخشاه من خطط لسايكس بيكو الماضية ولسايكس بيكو الحالية التي يسعون لانجازها هو عودة الإسلام التي يتوقعونها والتي يستعدون لها باستعمالهما مثلما يستعملون داعش وكل الحركات التي تدعي الجهاد دون استراتيجية واعية بما يحول دون أن يصبحوا بلا وعي أدوات لتحقيق أهداف العدو بوهم محاربته.