لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفلهالأبيسيوقراطيا دين العجل وشروط تحرير الانسان منه
التطابق بين المعنى التأملي الذي لم يعد مجرد معنى ذهني بل صار ذا قيام ذاتي له والمعنى الوجودي الذي لم يعد معنى عيني يعني أن الذاتي صار موضوعيا والموضوعي ذاتيا وهو المعنى العميق لمفهوم الجدل الهيجلي الذي لم يفهمه الماركسيون فتوهموا قبل الهيجلية وكأن معانيه التأملية تصورات ذهنية. ولو صح لي أن أصف فكرهم بالاصطلاح الهيجلي لقلت إنهم يخلطون بين الحصوي (تصورات الحصاة) والنهوي (معاني النهى) ولم يفهموا معنى الحركة في القضية المنطقية التأملية خلطا بينها وبين القضية الحملية الحصوية (الاستريائية بلغة هيجل): فعنده الموضوع هو عين محمولاته مثل الطاقة هي عين فاعليتها. وإذن فالقضية النهوية أو التأملية قضية يكون فيها الاتجاهان من الموضوع إلى المحمول ومن المحمول إلى الموضع متطابقين تماما كتطابق الطاقة وفاعليتها أو الحياة وفاعليتها ومنه ثم فالجدل يتأسس على التلازم أو التطابق بين فرعي القضية من الموضوع إلى المحمول ومن المحمول إلى الموضوع. وبلغة منطقية رياضية يمكن القول إن العلاقة بين الموضوع والمحمول هي التماهي لا يوجد في أحدهما إلا ما يوجد في الثاني بعبارة التلازم كلاهما لازم وملزوم بمعن If and only if فلا يبقى بالاصطلاح الفلسفي معنى للتمييز الكنطي بين الشيء في ذاته وظهوره: الموضوع هو ظهوره أو محمولاته حصرا. وبلغة العلة والمعلول لا يوجد في الثاني إلى ما في الاول ولا يوج في الاول إلى ما في الثاني وهو معنى “كاوزا سوي” أي إن الجدل يقتضي حتما القول بوحدة الوجود التي كانت جوهرانية موضوعية خاضعة لقانون لضرورة الطبيعية عند سبينوزا وصارت لا جوهرانية ذاتية خاضعة لقانون الحرية التاريخية. لكأننا انتقلنا من وحدة الوجود إلى وحدة الشهود بالمصطلح الصوفي وتجاوزنا ثنائية العالمين الدنيوي والأخروي وهو ما يعلنه هيجل صراحة لما ينفي أن يكون لهذا الوجه من الوجود وجها آخر يكون ذاك الوجه أي أنه لا معنى للأخرى وراء الأولى بالمعنى الديني للكلمتين. وهو معنى مثالي وليس ماديا عنده. وبصورة أدق لا معنى للمقابلة مثالي مادي فيه لأن المعنى النهوي ليس تصورا ذهنيا وذاتيا والمعنى الوجودي ليس تصورا عينيا وموضوعيا بل هما وحدة من طبيعة غير ذهنية وغير خارجية بل هي الوحد فيهما وحدة جدلية هي التي سميتها ثمرة للقفزة نحو اللامتناهي في عمليتين ذهنية وعينية تتطابقان في الغاية. ولا بد هنا من اشارة عسيرة القبول في المصطلح الفلسفي العربي الحديث: فاستعمال مفهوم والحاجة إلى أفهوم عند مترجمي كنط كلها ناتجة عن فقدان دلالة التصور بمعناه الفلسفي. ذلك أن التصور بمعناه الفلسفي له وجهان هما المفهوم والماصدق. والأول معنى عقلي والثاني معنى وجودي. لكن المحدثين من متفلسفينا صاروا يتعلمون مفهوم وكأنه هو التصور بالمعنى الفلسفي التقليدي وأصبحوا بحاجة إلى مصطلح جديد لأداء هذا المعنى. كنط واصل استعمال كلمة تصور لكن المترجمين العرب تصوروه مثل المحدثين العرب نسي دلالة التصور فوضعوا في ترجمة نقد العقل “أفهوم” وهي مواضعة عديمة المعنى. ظنوا أن تصور تعني Vorstellung التي يمكن ترجمتها باستمثال وليس بتصور لأن ستالونج تعني وضع وفور تعني أمام فتكون حضور المثال أو المثول. وليست التصور الذي هو Conceptus وفيه دلالة قوية من جنس التصوير الالهي ومنها مثلا حمل المرأة أو تكون الجنين في بطنها. أي إن التصور-كما في واهب الصور عند ابن سينا-يعني فعلا مبدعا للمعنى الذي بكون يكون الشيء المتصور ذا صورة هي موضوع الإدراك العقلي ومن ثم فجملة المعاني التي في التصور هي المفهوم وجملة الأشياء التي في التصور هي الماصدق. والأول عقلي والثاني وجودي. طبعا كل هذه المعاني ضاعت بسبب عدم فهم مصطلح تصور -وواهب الصور عند ابن سينا-وتوهم أنها تقابل فورشتالونج. المهم أن هيجل يتجاوز حتى البجرف الكنطي ليصل إلى التمييز بينه في مستوى الحصاة وبينه في مستوى النهى أو بين المعنى الاستريائي والمعنى التأملي لفعل بجرايفن. أما مصطلح أفهوم فقد علقت عليها سابقا ولا أريد العودة إليها. فهي ثمرة ضياع هذه المعاني وربما تجاهل الاصطلاح الفلسفي العربي القديم او جهله الذي يؤدي إلى الفوضى الاصطلاحية عند المحدثين. ولأعد الآن إلى بحثي في المعاني إذ لا مشاحة في الاصطلاح. وحدة الذاتي والموضوعي هدف الجدل الهيجلي ما قلناه في مسألة الجدل ومعناه الهيجلي كاف ولنعد إلى المسألتين اللتين تتعلقان بالماركسية: المادة والإنسان والجدل والتاريخ. والاولى ميتافيزيقية خالصة والثانية إيديولوجية خالصة لأنها توهم بالعلمية وهي لا علاقة لها بالعلم ولا يمكن تفسير التاريخ بها رغم ما يبدو مؤيدا لها. فلا أحد يمكنه أن ينفي الصراع بين الطبقات في الجماعة ولا صراع الحضارات بين الطبقات ولا حتى صراع الخلايا في الكيان العضوي. وهذا هو ما يبدو مؤيدا للمنطق الجدلي وخرافة التاز الاننتيتاز والسنتاز وهي تبسيطات هيجلية مثل الوجد للغير والوجود بالذات والوجود للذات وكل التبسيط الميتافيزيقي. ذلك أن هذه المعاني البسيطة تعود إلى مستويات المطابقة الدنيا فهي من جنس توهم العامي أن الوجود مطابق لما يدركه بحواسه وتوهم الفيلسوف أن الوجود مطابق لما يدركه بعقلة وتوهم المتصوف أن الوجود مطابق لما يدركه بكشفه وفلسفة هيجل وتطبيقها الماركسي خاصة لم يتجاوزا سذاجة هذه المستويات. وأقصد بالساذجة ما قصده ابن خلدون برد الوجود إلى الإدراك وما يرد به ابن تيمية على هذا الرد بالقول إن كل تصور وراءه تصور إلى غير غاية بمعنى أن الإحاطة بالوجود مستحيلة لأن “غير غاية” تنفي القفزة في استنفاد الفضل بين الوجود والإدراك والتي هي أساس كل ميتافيزيقا طبيعية أو تاريخية. فالمعنى النهوي والواقع الوجودي لا يتصوران متطابقين بالمعنى الجدلي الهيجلي بحيث يكون الذاتي موضوعيا والموضوعي ذاتيا إلا بفضل هذه القفزة الوهمية التي يتصور أصحابها أن وحدتهما ستحصل في الغاية ومن ثم فلا بأس من القول بها تمديدا لما نراه من شبه تقارب إلى حد الإيهام بالتلاقي بينهما. إن مسألة تكوينية الإنسان من المادة تطورا ذاتيا لها بمنطق الجدل من الفرضيات التي لا يقبلها العقل إلا في إطار القول بوحدة الوجود الطبعانية التي تعتبر الطبيعة الطابعة Natura naturans علة ذاتها محايثة للتطبيعة المطبوعة Natura naturata بمفهوم الوجود الذي هو علة ذاته Causa sui. فيكون هذا القول في الحقيقة مبنيا على قولين أحدهما هو نظرية البذور الموجودة من البداية وليس التطور إلا مسار الظهور وليس مسار الحقيقة فلا يكون التطور إلى ما يطرأ في الظهور وليس في هوية الشيء ومن ثم فلا تغير حقيقي والثاني هو نظرية المادة الأولى الأرسطية التي هي بالقوة كل الموجود. وإذن فهي ليست نظريات جديدة فضلا عن ان تكون علمية بل هي نكوص إلى أفكار ميثولوجية بتوسط الافكار الصوفية سواء فهمت طبعانيا (سبينوزا) أو تاريخيا (هيجل) الذي أعلن صراحة أنه يريد أن يصلح وحدة الوجود الطبعانية ليصالح بين ثابت الموضوع اللاواعي والضرورة إلى متحرك الذات الواعية والحرية. وإذن فهيجل فضل رؤية هيراقليطس على رؤية بارميندس. فالسيلان والتغير والصراع كلها مفهومات وحدة وجود طبعانية هرقليطية. وإذن فنحن أمام فلسفة مستندة إلى ميثولوجيا هرقلطيية. وهبنا قبلنا بأن الاديان المنزلة هي بدروها ميثولوجيا فالمفاضلة ليست بين علم وخرافة بين خرافتين. لكن حينها يمكن التمييز بين الأديان عامة وبين دين يطلب الديني في الأديان بتحريرها من التحريف الذي يجعلها خرافة ايديولوجية توظف في دين العجل وذلك بحذف الوساطة والوصاية اللذين نقلان الإنسان من الاجتهاد والجهاد الى دعوى العلم المطلق لدى الوسطاء والعمل المطلق لدى الاوصياء. فلا يكون الإسلام دينا من بين الأديان بل هو محرر الديني من علل مثلجته بالمطابقة النظرية والعقدية لتأسيس الوساطة وبالمطابقة العملية والشرعية لتأسيس الوصاية والتأسيسان ينقلان الاجتهاد النظري والعقدي والجهاد العملي والشرعي من نفي المطابقة التي توهم حصر الوجود في الإدراك نظريا وعمليا. لذلك فالإسلام لم يدع أنه دين جديد بل هو يعرف نفسه بكونه التذكير الاخير بالديني من حيث هو فطرة كونية في الإنسان من حيث هو إنسان. ولا يقول على الإنسان وعلاقته المباشرة بالله في نقده لتحريف هذا الديني وفي علاقته غير المباشرة به بتوسط الطبيعة التاريخ غير كونه مستعمرا ومستخلفا. ثم يضيف إلى أنه قد جهز بما يمكنه من الاستعمار (قدرة النظر والعمل) والاستخلاف (قدرة التمييز بين القيم) في الارض وهما قدرتان مشروطتان في الحرية التي هي اساس قدرته على الخيار بين هذه الفطرة وبين ما ينافيها أعني دعوى العلم المطلق عند الوسطاء والعمل المطلق عند الأوصياء نفيا للحريتين. فتكون ثورة الإسلام هي تحرير الإنسان من الوسطاء وهو معنى الحرية الروحية (علاقة بين الإنسان وربه) ومن الأوصياء وهو معنى الحرية السياسية (علاقة الإنسان بأمره وسياسته بنفسه) فيكون الإسلام بذلك قد اكتشف سر الوهم الميتافيزيقي في النظر والعقد وفي العمل والشرع: اساس دين العجل. دين العجل هو ما به يمكن للوسيط أن يربي الإنسان الخاضع للاستعباد الروحي وما به يمكن للوصي أن يخضعه للاستعباد المادي: ذلك أن دين العجل يرمز ببعديه إلى أداة السلطان الرمزي بخواره وأداة السلطان المادي بمادته: فالعملة والكلمة هما أداتا الاستعباد الروحي والسياسي إذا أصبحا غاية لا وسيلة. فتفهم حينئذ علة اعتبار الاسلام العدو من قبل أصحاب الثيوقراطيا والفتنة الكبرى وأصحاب الانثروبوقراطيا والفتنة الصغرى لأن بنيتهما العميقة التي تخفيها بنيتهما السطحية بدعوى تمثيل الله وتمثيل الإنسان هي عين دين العجل بمعدنه وخواره. والإسلام بتحرير الديني هو ثورة الحريتين من سلطانهما.