لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفلهالأبيسيوقراطيا دين العجل وشروط تحرير الانسان منه
لست غافلا على أن الكاريكاتورين التأصيلي والتحديثي في عصر الفتنة الصغرى (العلمانية ضد الإسلام) وما يجانسهما في عصر الفتنة الكبرى (الباطنية ضد الاسلام) كلاهما يدين بدين العجل ولهما سلطة وساطة روحية وسلطة وصاية سياسية وقد تحالفا الآن يعتبران هذه الأركيولوجيا لغوا لا معنى له. ولست غافلا كذلك على انهم في حديثهم لأنفسهم يعلمون أن هذا أخطر عليهم من كل محاولات التصدي لهم بمجرد العداء العاطفي كما حصل سابقا في معركة الباطنية والسنة نظريا وعقديا (الكلام والفلسفة) وعمليا وشرعيا (الفقه والتصوف) ويتكرر الآن بعد أن تحالفت الثيوقراطيا والانثروبوقراطيا ضد الإسلام. مجرد فضح بنيتهم الواحدة التي ترجع إلى دين العجل أو الابيسيوقراطيا تعيد الإشكالية إلى حقيقتها التي هي الحلف على ثورتي الإسلام أو تحرير الإنسانية من الوساطة (السلطة الروحية) والوصاية (السلطة السياسية) اللتين تتنكران باسم الله وباسم الإنسان ضد حرية الإنسان الروحية وحريته السياسية. ذلك أن مثلجة مفهوم الله ومفهوم الإنسان يعني تداول الحلين للتمانع بينهما: فيكون الله الممثلج عند الوسطاء والأوصياء والإنسان الممثلج عندهما للتغطية على سلطان بعدي العجل أي مادته (رمز الفعل او العملة) وخواره (فعل الرمز أو الكلمة) يجعلان المال والإيديولوجيا أساسي الاستبداد والفساد. وهذه هي جينيالوجيا التحريف التي يشخص بها القرآن علل الاستبداد والفساد (انظر خاصة آل عمران) الذي يجعل البشر لا يتحررون من دين العجل إلا بدين الله الذي هو الديني في الاديان كلها والذي مهمة الرسالة الاخيرة هي التذكير به والتحذير من نقيضه وهي رسالة كونية تجعل العلاج بالاجتهاد والجهاد. والعلاج بالاجتهاد والجهاد له دلالتان: الأولى هي جعل حماية الحريتين مسؤولية فردية وفرض عين والثانية هي وصل هذه الحماية بجهازي القدرة الإنسانية أي النظر والعقد لحل مشكلات العلاقة بالطبيعة وما وراءها والعلاقة بالتاريخ وما وراءه اجتهاد وجهادا نسبيين لا يدعيان الإطلاق في أي منهما. والاجتهاد والجهاد بهذا المعنى هما أداتا الإنسان لتحقيق الاستعمار في الأرض والاستخلاف فرضي عين لكل إنسان مع مسؤولية الوسيلة وليس النتيجة بمعنى أن الإنسان يكفيه أن يكون صادقا في طلب الحقيقة وفي العمل بها (التواصيان بالحق وبالصبر) ولا يتحمل مسؤولية النتيجة: واجب الوسيلة لا النتيجة. ومن ذلك أن المجتهد في النظر والعقد مثاب بأجر حتى إذا لم يصب وبأجرين إذا أصاب ونفس الحكم على الجهاد في العمل والشرع. وهذه الفلسفة النظرية والعملية هي التي تمكن الإنسان من تحقيق شروط الاستعمار في الأرض (علاقة بالطبيعة) والاستخلاف فيها (علاقة بالتاريخ) دون وهم الأطلاق علة الصراع. وإذن فالمنطق الجدلي المبني على الصراع (النفي ونفي النفي) سره الإطلاق الذي بيناه في الفصول السابقة في الإطلاق في النظر والعقد وفي العمل والشرع بدلا من الاجتهاد في الاولين والجهاد في الثانيين فرضين عينين على الفرد والجماعة: الإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق والتواصي بالصبر. وصلنا الآن إلى المسألة الثانية في كلامنا على الماركسية. فبعد الكلام في وهم استخراج الإنسان من المادة نمر إلى وهم استخراج التاريخ من هذا الاستخراج بمعنى أن التاريخ الإنسان في عمقه محكوم بالصراع المادي صراع الطبقات وصراع الحضارات لأن ظاهره يبدو مؤيدا لذلك: المادية الجدلية. والدحض هنا أيسر بكثير منه في المسألة الأولى المتعلقة باستنتاج الإنسان من المادة. لأن هذه ميتافيزيقية ولا ينطبق عليها معيار الدحض العلمي. ولما كانوا هم الذين يزعمون أن النظرية الماركسية في التاريخ علمية فدحضها ينبغي أن يكون علميا: وهو مضاعف. دحض الحديث والحدث أي المفهوم والماصدق. فمفهوم المادة في هذه النظرية المزعومة علمية له بعدان: الاقتصاد والبنية التحتية. وما صدق هذا المفهوم هو ما صدق الاقتصاد في الأعيان والوجود الخارجي وما صدق البنية التحتية في الأعيان والوجود الخارجي. وسأبدأ بالاقتصاد ثم أثني بالبنية التحتية دون أن أنسى ما يقابلهما. فما يقابل الاقتصاد إلى اعتبرناه ماديا يعني الثقافي أو الرمزي الذي ليس بمادي. وما يقابل البنية التحتية يعني البنية الفوقية وهي علاقات الانتاج وثمراته مقابل وسائل الانتاج ثمراتها. وهذه المعاني كلها كما سنرى معان إذا أخذت حرفيا فقدت أساس المنهج الماركسي لأنها تفقد الطابع الجدلي. ولما كنت لا أقول بالجدل فسأتجنب الكلام في الامر رغم أنه كان بوسعي أن اتسلم من أجل الحجاج الجدلي المنهج الجدلي وأن أبين لهم أن اعتبار الاقتصاد والبنية التحتية ممثلين للمادة حصرا فيه نفي للطابع الجدلي لمفهوم المادة التي اعتبرتموها بتطورها قد أنتجت الإنسان والحضارة. لكن لا بأس. سأكتفي بمناقشة مادية الاقتصاد ومادية البنية التحتية لأثبت أنها ليست مادية إلا بمنطق مستويات الإدراك التي تظن ما في الأذهان مطابقا لما في الاعيان (1-العامي والحس 2-والفيلسوف والعقل 3-والمتصوف والكشف 4-والجامع بينها ثلاثتها 5-واصلها جميعا القول بقفزة المطابقة الغائية في المعرفة.) فهل الاقتصاد مادي؟ أولا مفهوماه الاولان أو القيمة الاستعمالية والقيمة التبادلية تجعل الثانية التي هي جوهره ليست من طبيعة مادية بل هي بالجوهر من طبيعة رمزية وثقافية. فما الذي يجعل لوحة لبيكاسو تساوي قيمتها ما يمكن أن يغذي مدينة كاملة من الجوعى؟ لم كان الرمزي أسمى من المادي؟ هذا من حيث مخرج فعل الاقتصاد. فلننظر الآن في مدخله. هل العملية الاقتصادية التي تنتج الثروة موضوع الصراع الطبقي مادية؟ أم هي فكرة يبدعها عقل تتحول إلى عمل بتوسط بيد عامل لا يمكن أن يكون فاعلا بقوة مادية فحسب بل بينه وبين عمله ثلاث مراحل كلها رمزية لا مادية. فالفكرة يلزمها مستثمر يجعلها مستجيبة لحاجة لدى المستهلك الذي سيطلب المنتج والمستثمر لا بد له من ممول لا يضع ثمرة عمله دون فكر يحدد العلاقة بين العرض والطلب حتى يغامر بماله أو يخلق الطلب بفعل ثقافي يجعل منتجا مطلوبا دون حاجة سابقة فيخلقها بضاعة أو خدمة كانتا مجرد فكرة. وحتى أساس الفعل الاقتصادي بهذه الابعاد الخمسة فإنه ليس مؤسسا على مفهوم الندرة الطبيعية بل على مفهوم الندرة الاصطناعية بطريقتين معلومتين هما احتكار الموجود المطلوب واحتكار المنشود الذي لم يكن مطلوبا وصار مطلوبا بفعل خلق الحاجة من عدم وخاصة في مجال فنون الذوق والكيف والأكل والجنس. فإذا تكلمنا على وسائل الانتاج وجدنا أنها نوعان المادي فيها تابع لغير المادي. فالآلات التي تنتج الثروة كلها تطبيق تقني لنظريات علمية والاختراعات سواء لآلات الإنتاج أو لطرقه كلها نظريات علمية وليست شيئا ماديا إلا إذا كان القصد قيمها بالعملة. لكن العملة هي بدورها رمز تبادل لا مادة. فيتبين أن البنية التحتية أو القاعدة التي يزعمونها مادية ليس فيها من المادي شيء بل هي كلها محدثات رمزية هي شارطة للإنتاج الذي يوصف بكونه ماديا لأنه أولا يسد حاجات بعضها مادي وأهمها رمزي وثانيا لأنه يقيم بالعملة التي هي أيضا رمز تبادل وليست مادة: وهي ورقية وكتابية ومادتها تحكمية. ولا أحتاج لبيان لا مادية البنية الفوقية فهم أنفسهم لا يعتبرونها مادية. ومن ثم فحقيقة الماركسية أنها تكذب عندما تدعي الجدلية لأنها لو كانت بحق جدلية لبقية هيجلية لا تقابل بين الماضي واللامادي بل هي تعتبر الموضوع ذاتيا والذات وموضوعية في التطابق بين العقل والواقع التأميليين. فرغنا من الكلام في التصورات مفهوميا وما صدقيا ولنمر الآن إلى الأحداث التاريخية بعد الأحاديث النظرية. يمكن تاريخيا أن نقبل بالنظرية الماركسية لو بقي العمل يدويا والتبادل مقايضة في بداية تاريخ الإنتاج الإنساني قد نقبل بهذه الرؤية التي تشبه رؤية العامي للعلاقة بين الذهني والعيني. فالعامي يعتقد أن ما في إدراكه الحسي هو صورة تعكس ما في الوجود الخارجي. ولما كان الوجود الخارجي بالنسبة إليه ماديا فيمكنه إن يعتبره بنية تحتية وأن يعتبر ما في ذهنه بنية فوقية أو أن يعتبر الوجود الخارجي أصلا والوجود في الذهن صورة شمسية منه، هذا هو مستوى الرؤية الماركسية. ولذلك فلا يمكن لعاقل له قدر ولو ضئيل من فهم المعاني أن يقبل بها إلا إذا كان من مستوى الرؤية البداية لنظرية المعرفة عند العامة. ولذلك كذلك فإن كل حداثيي العرب المتمركسين هم في الحقيقة عامة حتى ولو كانوا حاصلين على الدكتوراه في الفكر الماركسي ناهيك عن خريحي الآداب الذين يدعونها. فعندما يصبح خريجوا الآداب في باريس (أركون) أو في تونس (الشرفي) أو في مصر (حامد أبوزيد) فلاسفة بمجرد ترديد ما يفيد أنهم لا يفهمون الهيجلية بوصها ثورة ميتافيزيقية غيرت مفهوم المنطق ومفهوم القضية وتجاوزت مفهوم الحصاة بمفهوم النهى فلا يحد المرء ما يقول إلا لا حول ولا قوة إلا بالله. فمن لا يستطيع فهم لطائف المنطق والرياضيات والتصورات الميتافيزيقية بالمعنى الذي نجده عن الفلاسفة الكبار يكون من خسران الوقت والمعنى أن يتكلم معهم المرء لأنه حينها يبقى في مستوى معركة الكاريكاتورين التأصيلي والتحديثي هو علة التخلف الروحي والمادي في آن. وقد آليت على نفسي أن أعمل كل ما أستطيع لئلا تقع الأمة مرة ثانية في ما أدت إليه نفس المعركة بعد الفتنة الكبرى ببعديها النظري العقدي صراعا بين الإيمان والعلم (بين الكلام والفلسفة) والعملي الشرعي بين القانون والأخلاق (بين الفقه والتصوف) فتفسد علاقة الأمة بالطبيعة وبالتاريخ. ذلك أن صراع المتكلمين والفلاسفة في المعركة الأولى أدنى إلى ضحالتهما في النظر والعقد والنتيجة هي ترك علاج علاقة الإنسان بالطبيعة والتاريخ لاكتشاف قوانينهما وسننهما شرطا في الاستعمار في الارض والاستخلاف فيها فأصبحت الأمة عزلاء في الحماء وجهلاء في الرعاية: فقدت السيادة. ونفس المعركة في الفتنة الصغرى بين كاريكاتور التأصيل وكاريكاتور التحديث دون أصالة ودون حداثة مآله لا يختلف عن مآل المعركة الأولى التي نتجت عن الفتنة الكبرى فلم نرث من ماضينا إلا مرض الثيوقراطيا ولم نرث من ماضي الغرب إلى مرض الانثروبوقراطيا والمشترك بينهما هو دين العجل.