الأبيسيوقراطيا، دين العجل وشروط تحرير الانسان منه – الفصل الخامس

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله الأبيسيوقراطيا دين العجل وشروط تحرير الانسان منه

تضعنا المادية الجدلية (ماركس) مثلها مثل المثالية الجدلية (هيجل) أمام مشكلتين إحداهما مشتركة بين هيجل وماركس (الجدل) والثانية التقابل بين مادية الأول ومثالية الثاني. وكلتا المشكلتين ميتافيزيقيتان. أما تفسير المقابلة بخرافة تعديل مشية هيجل فهي من سوء فهم الماركسيين لهيجل. ولما كان ما يعنينا في المحاولة هو ماركس وليس هيجل فسأنطلق من هذا التفسير للمختلف بينهما. ذلك أني قد أفهم أن تكون الجدلية مثالية ولا أجد ما يمكن من فهم اعتبارها مادية إلا إذا كان القصد تطبيقها كالحال دائما في علاقة النظرية العلمية (تسليما بأن الجدل تفسير علمي لحركة الوجود) بتطبيقها. وصف الجدلية بالمثالية يعني أن حركة الوجود منظورا إليها في جوهرها الذي يطلبه العلم النظري (فالمنطق الجدلي هو الميتافيزيقا أو الانطولوجيا العامة عند هيجل) مفهومة حتى وإن كنت أنفيها صحتها لكنها تقبل إذا اعتبرت رؤية فرضية ككل كلام في الحقيقة المجردة التي لا تقبل الاحتكام إلى التجربة. ولهذه العلة فمن العسير إثبات نظرية هيجل أو دحضها لأنها تقبل كفرضية وترفض كعلم لأنها لا تقبل الاحتكام إلى التجربة العلمية-وهذا شأن كل ميتافيزيقا لأنها في الأصل رد للوجود إلى الادراك الذي رفضته المدرسة النقدية العربية وأنهت أساس الفلسفة التي بدأت ما هذا الرد البارميندي. وهذه النهاية حصلت مع كنط لاحقا في الفلسفة الغربية وهو ما اضطر كل من يحاول تجاوز النقد الكنطي أن يعود إلى رأي بارمنيدس (الوجود=العقل) أو إلى نظرية المعرفة القائلة بالمطابقة دون اعتبار ما عدى ذلك عدما ووهما مثله. وتلك علة الحاجة إلى تجديل منطق أرسطو بالتخلي عن أسسه الميتافيزيقية. والأسس الثلاثة هي مبادئ منطق أرسطو أعني عدم التناقض والثالث المرفوع والهوية الثابتة. ولا يمكن تجديل الهوية من دون الانتقال إلى التناقض والثالث الموضوع بدل عدم الاول ورفع الثاني. وعندئذ يصبح المنطق هو عين الميتافزيقا ظنا أن ذلك يحاكي في القول ما يحدث في الوجود من حركية حيوية. وسنرى أن ما ينطبق على مثالية هيجل كفرضية سنبين أنها فرضية تصدر عن الاستكمال الفرضي لتوجه حركتين لا متناهيتين تظنان كاملتين بتوهم الغاية اللامتناهية حاصلة. وهو عمل عقلي فرضي يتأسس عليه حساب التكامل والتفاضل. فالذهاب إلى الغاية في اللامتناهي هو أساس نظرية التطور مثلا. فلو لم يقفز أصحاب نظرية التطور إلى الغاية التي يتوقعون أن التقارب بين الأجناس والأنواع أو تماثل بناها العضوية في غايته يجعلها من أصل واحد يتطور لاستحال عليهم القول بالتطور. فمهما كان التماثل بين القرد والإنسان فالمسار من جنس المنفصل لا المتصل وهو ما يعيدنا إلى زينون الإيلي. فلا يمكن فهم فرضية هيجل حول قيس المعاني المجردة على الكيانات الحية وادخال الحركة فيها بمعنى الحركة العضوية في الكائن الحي ومحاولة فهم هذه الحركة من دون هذا الذهاب إلى الغاية في اللامتناهي مع اعتبار اعتراضات زينون النافية للحركة بلا تناهي قسمة المتصل ورده إلى المنفصل داحضة. ذلك أن هيجل جاء بعد أن حلت هذه الاشكالية بتجاوز العدد الطبيعي إلى العدد الحقيقي واستكمال عملية استنفاد الفضل بعد وضع خوارزمية تعالج اللامتناهي في حساب التكامل والتفاضل ومن ثم فهو يعتبر حسبنة الحركة ممكنة رياضية ولابد من ميتافيزيقا مماثلة لمنطقة الحركة الوجودية: الجدل. وهنا يكمن قدم أخيل في منطقة حركة الوجود بقيسها على الحركة الحيوية في العضويات. فخوارزمية التكامل والتفاضل في الرياضيات تمكن من علاج الحركة في الطبيعيات ليس في ذلك شك. وهي دائما محكومة بالفاعلية التفسيرية للظاهرات الطبيعية دون حاجة لاعطائها بعدا وجوديا مطلقا: هي أرغانون فحسب. لكن تجديل منطق أرسطو لم يبق على مدلوله الأرغانوني عند صاحبه بل هو أصبح -وذلك نفسه حصل بعد ارسطو في مدرسته لما تأسكلت أي صارت سكولاستيك-عين حقيقة الوجود في رأيه فانتقلنا من أداة منهجية للقول في الوجود وترجمة تصورنا له إلى حقيقة الوجود ردا له إلى الإدراك. ما أنوي بيانه هو استحالة هذا الرد رغم تقدم الرياضيات في علاج معضلات الصوغ العلمي للحركة بفضل التكامل والتفاضل منذ بدايته في منهج استنفاذ الفضل Méthode d’exaustion وسأبسط الدليل: فعندنا الوجود في الأعيان وهو ما ندركه بحواسنا والوجود في الأذهان وهو ما ندركه بعقولنا. فما المشكل؟ لا مشكل عند الإنسان العادي. فما يدركه بحواسه يعتبره عين الوجود ومن ثم فعنده أن ما ذهنه من تصورات وما في الوجود من تعين في المدركات متطابقان ومن ثم فلا فرق عنده بين المسمى والاسم. ولكن حتى الإنسان العادي يدرك أن تصوراته ليست دائما مطابقة لموضوعاتها. فيبدأ الشك في التطابق. وهنا يبدأ المشكل الحقيقي في نظرية المعرفة. فالوجود في الأذهان يتضاعف والوجود في الأعيان يتضاعف كذلك. يصبح المرء يميز في تصوراته بين المحسوس والمعقول وفي موضوعاتها بين ما يظهر من الأعيان وحقيقتها. لكن هذا هو بداية المشكل وليس المشكل الحقيقي. وهنا يأتي مفهوم “طور ما وراء العقل”. وتلك علة اهتمامي بالغزالي صاحب هذا المفهوم لأنه بداية التشكيك في المطابقة بين المستويين الثانيين من الإدراك أي بين العقل وموضوع إدراكه. فلكأن الغزالي قال الفلاسفة لا يختلفون كثيرا عن العامة: هؤلاء يعتبرون حسهم مطابقا لموضوعه خارجه وأولئك يعتبرون ما عقلهم مطابقا لموضوعه خارجه. لكني لم أكن واثقا من أن الغزالي لم يكن يعني بـ”طور ما وراء العقل” الكشف الصوفي. فيكون السؤال حينها حتى لو فرضناه ممكنا فهو يعني أن المتصوف يعتبر ما في ذهنه مطابقا لما يتوهم أنه كشف لحقيقة الموجود الخارجي. فلا يكون مختلفا عن الفلاسفة والعامة في كونهم يردون الوجود إلى إدراكهم. فإذا أضاف أنه لا وجود لمطابقة بين ما في الاذهان التي يمكن أن يوجد فيه الكلي وما في الأعيان الذي لا يوجد فيه إلا العيني فهمت أن الرجل أهل لأن يعتبر تسرع أرسطو الذي يقول بأنه لا يوجد إلا الأعيان ومع ذلك ظن الكلي حاصلا فيها مثل الأذهان: هذه المعاني “ظلامية” عند الأميين من مثقفينا. ويأتي من بعده في الثلث الاخير من نفس القرن (ابن خلدون) الذي كان الظلامي قد أبدع ما أسلفت في الربع الاول منه (ابن تيمية) ليقول صراحة إن علم الكلام (في الغيبيات) والميتافيزيقا (في الغيبيات) كلاهما يعمل بناء على وهم رد الوجود إلى الإدراك: نهاية المطابقة في الفكرين الديني والفلسفي. تلك هي المراحل التي قطعها الفكر الفلسفي في المدرسة النقدية (الغزالي وابن تيمية وابن خلدون) في المسعى للتخلص من نظرية المعرفة القائلة بالمطابقة دون نفي إمكانية العلم الذي يحتكم إلى النظرية والتجربة مع ثورة كافية للتمييز بين حاجة العلم لمنهج الذهاب إلى الغاية وتأسيس ميتافيزيقا عليه. ومعنى ذلك أن منهج الذهاب إلى الغاية Méthode d’extrapolation يبقى دائما أرغانون للمعرفة وليس حقيقة الوجود لأن المعرفة ليست محيطة بالوجود. فما يحتاج إليه الاسترماز لقول الوجود ضروري للاسترماز لكنه لا يدل على أن الوجود هو على ما توصلنا إليه منه في منهج الاسترماز. فالإنسان يصوغ بقدرته الترميزية تصوراته عن الموضوعات التي يدركها بما يتصوره مطابقة بين حسه وموضوعه عند العامة وبين عقله وموضوعه عند الفلاسفة وبين كشفه وموضوعه عند المتصوف وبما يتوصل إليه العلم الحديث بآلاته ورياضياته وموضوعه لكن ذلك لا يمكن أن يستنفد الفضل بين الذهني والوجودي. فمهما لطف الذهني وتعمق في الصورة التي يبنيها برموزه المعبرة عما يدركه فإن ذلك يبقى دائما دون ما في موضوعه من أعماق يعلم علم اليقين أنه لن يستطيع الإحاطة بها. وإذن فالعلم كلما تقدم نحو المطابقة بين ما في الاذهان وما في الأعيان اكتشف أن المطابقة تزداد بعدا عن هذا الهدف: خمسة عوالم. عودة هيجل إلى المطابقة أو التخلص مما سماه كنط الشيء في ذاته (النومان) يعني توهم حصول المطابقة بين الذهني والوجودي. والحل الذي استعمله هو اعتبار الذهني ذا قيام خارج الذهن هو عين حقيقة العيني خارج الأذهان. فيكون عنده الذهني والمثالي (بمعنى أفلاطون) والعيني في الحصاة وفي النهى. فالذهني عنده ليس النفسي في الحصاة (Der Verstand) بل هو التأملي في النهى (Die Vernunft) وهذا الذي في النهى هو المثالي في الذي يقوم به العيني في الوجود الخارجي. فتكون المطابقة عنده بين العقل والواقع ليست مطابقة بين المحسوس والمعقول الحصوي بل بين الواقع والمعقول النهوي. فرواء العقل الحصوي Reflexif ومداركه الاستريائية (من رأي الحصاة) يوجد العقل النهوي Spéculatif ومداركه التأملية والأول عماده مباديء المنطق التقليدي الثلاثة والثاني عماده الجدل الذي ينفي الأولين ليدخل الحركة في الثالث (الهوية) متصورا ذلك كافيا للتوحيد بين العقل التأملي والوجودي. وهو أمر يمكن قبوله كفرضية لكنها فرضية لبناء رؤية وجودية دون أن يكون لصاحبها عليها أدنى دليل ومن ثم فيمكن اعتبارها ميتافيزيقا أو رؤية للوجود تفرعت عنها تطبيقات غير واعية بكونها ميتافيزيقا وليست علما ومن ثم فالمادية الجدلية ليست علما ميتافيزيقا توهمها أصحابها علما لتفسير التاريخ. وهي إذن مبنية على وهمين: وهم القبول بالجدل وكأنه ليس مجرد أرغانون بل كما وصفه هيجل هو لحمة الوجود وسداه أعني أن التطابق بين تأمل النهى وحقيقة الواقع (العقل هو الواقع والواقع هو العقل) واعتبار تطبيقه على الوجود عامة والتاريخ خاصة علم. مسألتان إذن: المادة والإنسان ثم الجدل والتاريخ.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي