لا أدعي التنبؤ ولا العلم اللدني. ولا أنوي استعراض ما صدقته الأحداث من توقعاتي من أجل عرضها. فالهدف الاستفادة بالنسبة إلى المستقبل في تونس. فإني أخشى أنه سيكون شديد السواد لأن نفس العلل تؤدي حتما إلى نفس النتائج خاصة والقيمون على الشأن العام مسنوهم فشلوا ويرفضون المغادرة والأصغر دونهم كفاءة وأهلية لأن الكبار لم يكونوا الأكفاء بل أحاطوا أنفسهم بالطبالين.
وسأذكر بعض المحاولات التي يمكن اثباتها إما بشهادة الأحياء أو بالمنشور كتابة أو صوتا وصورة. وأول محاولة كانت لي مع الأستاذ احمد بن صالح-وهو ما يزال حيا يرزق أمد لله في عمره- لما زارنا ليلا في دار المعلمين العليا. ففي خلال الحوار الذي دار بين الحضور ومعه أخذت الكلمة ونبهت إلى أمرين: 1-أولهما كوني يشمل الإنسانية كلها والثاني خصوصي لثقافة المسلمين عامة والشعب التونسي خاصة. فأما الكوني فكان موقف الاستاذ بن صالح من الملكية الخاصة وكان ناتجا عن قربه من الماركسية وهو موقف يشبه التأميم المتنكر و2- والثاني خصوصي: هو تعارض ذلك مع موقف المسلم والتونسي خاصة من الملكية.
وكما هو معروف عنه فهو قد كان شديد الاعتداد بنفسه وبرأيه حتى إنه يسخر ممن يوجه له أدنى نقد: مثل عبارة “يرزيك فيهم” لما كلموه على رأي المهندسين التونسيين. ونتيجة التجربة يعلمها الجميع. ولا احتاج للكلام عليها لأنها أول نكبة كبيرة حصلت للاقتصاد الأساسي التونسي أي الزراعة وتربية المواشي. ففي ضيعتنا رأيت من يبيع الأغنام بأقل من دينار وهكتار الارض بأقل من مائة دينار. ويمكن القول إن تجربة التعاضد علة تراجع شعبية بورقيبة ولجوء الحكم إلى الحل العكسي: والشروع في النكبة الثانية التي مثلتها ليبرالية الهادي نويرة المتوحشة.
وقد آلت التجربة الثانية إلى نكبة 78 وهجمة قفصة والصراع مع الاتحاد ومع القذافي في مرحلة ما بعد الهادي نويرة أي مرحلة مزالي التي لم تكن البلاد مستعدة لها. ففرنسا والقذافي والاتحاد ووسيلة زوجة بورقيبة كانوا جميعا متحالفين لأفشال محاولاته ادخال جرعة من الديموقراطية والصلح مع هوية البلد والتعاون “جنوب جنوب” ومع الصين وحتى مع عرب الشرق والخليج. وقد كنت بنحو ما من المنتسبين إلى هذه الخيارات ونصحت بتكوين حركة تكون ثقافية الظاهر سياسية الحقيقة مستقلة عن الحزب الحاكم لأن الفساد بدأ يدب فيه ولم يكن للأستاذ مزالي ثقل كبير فيه (باستغلال مجلة الفكر ومحبيها).
لكن مؤامرة وسيلة ووزير الداخلية-الاستاذ ادريس قيقة- في حادثة الخبز كادت تأتي على الأخضر واليابس لولا تدخل المرحومين بورقيبة الابن والصديق علي بوسلامة (ناشر أول أعمالي) -وهو مستيري. فقد أعلمني كيف توصلا إلى بورقيبة خلسة من وراء وسيلة ليشرحا له أن المستهدف هو بورقيبة بمؤامرة الخبز وليس محمد مزالي. فأعاد النظام بقولته الشهيرة “نرجعوا فين كنا”.
ولما حدث انقلاب ابن علي كنت حذرا رغم أني لم أخف مثل جل التونسيين فرحي بما حدث وإن بحذر فالانقلاب رغم كونه انقلابا كان انقلابا أبيضا. وكان منتظرا أن يكون أسوأ بسبب التعفن الذي جعل بورقيبة يغير الوزراء اسبوعيا والبلد شبه مفلس. لكني مع ذلك لما سؤلت عما سمي بالميثاق الوطني أو القومي رفضت تأييده وقلت إن هوية الشعوب لا تحددها القرارات الحينية بل هي ثمرة تاريخ وثقافة ونحن بهذا المعنى لسنا أمة بل جزء من أمة (النص نشر في صحيفة الصباح).
ولأني كنت أعلم أن الانتقال الديموقراطي الذي وعد به ابن علي مع سياسة انقاذ للانهيار الاقتصادي كانا بنحو ما متقابلين إلى حد يكاد يصل إلى الضدية فقد كنت متفهما لبعض اجراءاته في البدايات حتى صارت السياسة بيد مافية زوجته ثم صار هو يسعى للحكم مدى الحياة وطلب التمديد. فانتهزت الفرصة وكتبت له رسالة فيها ما أراه شروطا قد تبرره. لكن البعض ممن يريدون تشويه غيرهم لئلا يبقوا وحدهم مشوهين سموها “مناشدة”. والرسالة منشورة في العددين الاخيرين من تلك السنة -اليومين الاخيرين من الشهر 12 منها في جريدة القدس اللندنية ونشر ملخصها في جون افريك.
ووضعت فيها خمسة شروط للتمديد الذي يمكن القبول به شعبيا. ولو قبل بها ولم يرفضها بصلف لظل حاكما ربما إلى الآن ولكانت الثورة عليه غير ضرورية لأنها إلى الآن لم تحقق شيئا يقرب منها ولعد مؤسس الديموقراطية في بلاد العرب:
- أن يفصل الحزب الحاكم عن الدولة
- أن يسمح بتكوين اربعة أحزاب أخرى هي القومي والإسلامي واليساري والليبرالي.
- أن يعدل الدستور للسماح بالتمديد مع الحد من إطلاق سلطاته
- وأن يكون غرفتين تشريعيتين واحدة للنواب والثانية للشيوخ
- وأن يبدأ ذلك كله بعفو عام يسرح به كل المساجين السياسيين.
وقد أعلمني صديق-كان ناقدا أدبيا شهيرا هو المرحوم أبو زيان السعدي- أن أحد النواب أعلمه بما قال ابن علي ردا على رسالتي “يدبر بــ….” وتأكدت من المعلومة لأن وزير التعليم العالي أعلمني بوصول رسالتي إلى علم الرئيس. وطلب مني الوزير تلخيصها حتى تعرض على الرئيس بصورة أبسط وأوضح. لكني لم أقبل لأني لم أكن مستعدا للتنازل عن حرف منها إذ فهمت أن القصد ليس التلخيص بل تلطيف المقترحات لئلا تعتبر شروطا.
رفض لوح النجاة فكان ما كان. وطبعا فقد وجد من نفس الوجوه -فقهاء السلطان في الفقه الدستوري الذي يدعي الحداثة-من مكنه من التمديد بحيل تغيير الدستور دون أدنى شرط. وهم تقريبا نفس الذين حاكوا كسوة خروتشاف (قصة السبسي وقد شرحتها في الإبان وهي منشورة) ليفسدوا على الثورة كل شروط النجاح وفرضوا عليها التعثر الحالي. وهم أيضا من يفتون لقيس سعيد أو نفس المدرسة حاليا.
ولما حصلت الثورة-وكنت في اسبوعها الأخير قبل هروب ابن علي في باريس أقدم دروسا لطلبة في مركز الدراسات الاسلامية الاجتماعية حول الثقافة الفلسفية الغربية-عدت إلى تونس وقبلت دعوة المشاركة في الترشح لانتخاب المجلس التأسيس-ونصحت صهر الغنوشي وهو أحد طلبتي لما سألني عن أي وزارة أريد التكفل بها بأن يكونوا حكومة ظل للتعرف على شؤون الدولة قبل التفكير في الحكم.
وكنت ملتزما بسنة واحدة أشارك فيها في المجلس التأسيسي. لم أفكر في أي وزارة لا التربية ولا التعليم العالي وكلتاهما كانت ممكنة. فقد كنت متقنعا بأن سنة واحدة لا تكفي للشروع في الإصلاحات وأن الدخول فيها معركة خاسرة في ذلك الظرف.
قبلت المشاركة بشرطين:
الأول ألا انتسب إلى أي الحزب.
والثاني أن اغادر بعد سنة.
وهو ما فعلت. لكني في خلال تلك السنة ابعدت عن المشاركة الفعلية في كتابة الدستور فضلا عن كوني لم أكن مقتنعا بأن الدساتير تكتب على ورقة بيضاء بل يسبقها مشروع للمختصين يترجم الإرادة السياسية في مشروع دستور تتم مناقشته من قبل المجلس التأسيسي لضمان المطابقة معها. ولولا أملي في ذلك لما شاركت أصلا في السياسة لأني كنت أشعر بأن لي قدرة على الإفادة رغم أن الكثير يجهلون علة دعواي الفلسفية والقانونية.
المهم أن خلافي الاول مع قيادة النهضة-وإن كان هادئا وغير علني-كان حول الخيارات الكبرى في كتابة الدستور. فقد كنت ضد الدستور البرلماني وعبرت عن ذلك رسميا في محاضرات وندوات وكتبت في الامر. ذلك أني كنت ميالا لدستور يقضي على الدكتاتورية وحكم الفردي لكني اعتبر دكتاتورية النظام البرلماني هي بدورها خطيرة. ذلك أنها تقضي على شروط فاعلية الحكم في ثقافة ديموقراطية ما زالت تحبو.
والمعلوم أني درست القانون العام عند أحد أكبر المختصين فيه في فرنسا وترجمت معارك الدستور الأمريكي (وهو منشور) وأشرفت على ترجمته (وهو منشور).
لكن خلافي الجوهري كان يدور حول مسألتين:
- الأولى حول الحكم في منظومة الترويكا. كنت أميل إلى الصلح بين البورقيبية والثعالبية التي اعتبر الإسلام السياسي التونسي قريبا منها وبعيد كل البعد عن رؤية المرزوقي وابن جعفر
- والثانية خاصة هي تعيين المرزوقي رئيسا وقد كنت أعتبره غير مؤهل لذلك لأن السياسة ليست الحقوقيات ثم إنه هو الذي فرض عدم احترام الالتزام الادبي الذي قبلته النهضة بالسنة الواحدة لكتابة الدستور ففرض أن تكون ثلاثة.
ورأينا مآل ذلك إذ كادت تونس تتمصر وتدخل في حرب أهلية.
ونصحت رئيس حركة النهضة بعدم المس برمزية بورقيبة لان ذلك سيبعثه من جديد بدلا من تركه جانبا والاكتفاء باعتباره ارثا مشتركا للجميع. وقد ضاعت الفرصة وتحقق ما توقعته فصار أهم نواة لعودة النظام القديم رغم أن الذين أعادوه ليسوا بورقيبيين بل تجمعيون استغلوا اسم بورقيبة الذي قبلوا بإهانته وببقائه سجينا ثلاثة عشر سنة دون رعاية ولا حماية. (وهم من استعملهم ابن علي للقضاء على البورقيبية).
وأكاد أجزم أني ربما كنت أكثر بورقيبية منهم جميعا بمن فيهم المرحوم السبسي لأنه كان “وسيليا” نسبة إلى وسيلة زوجة بورقيبة أكثر منه بورقيبيا. لكن ما العمل والجماعة فضلوا الكلام على المحاسبة قبل المصالحة بخلاف ما نصحت به. فقد حاولت أقناعهم بأن المصالحة ستفرز المجرمين عن عامة الحزبيين السابقين-الذين كانوا مثل البعثيين في العراق مجبرين على الانتساب إلى الحزب من اجل الرزق حوالي مليونين مشترك في حزب بورقيبة- إذ إنها تطمئن الغالبية فلا تستطيع الأقلية تخويفهم بأن البداية بهم والمستهدف الجميع.
لم يفهموا حكمة “اذهبوا فأنتم الطلقاء”. المهم أنهم في النهاية اضطروا إلى المصالحة راغمين بدلا من أن يقدموا عليها بمنطق العفو عند المقدرة. وقد قلت إن المحاسبة مستحيلة في تونس بل وفي كل بلاد العرب لأن الظلم والفساد كانا عامين ولا تستطيع محاسبة الملايين رغم ان المجرمين أو الرؤوس قلة وهم في الغالب رؤوس مافيات وتوابع للاستعمار إذ إن تونس مثل بقية بلاد العرب محمية.
ولما استقلت بررت الاستقالة بنبرة حادة. ثم سكت لأني لم أكن أريد أن أصبح أداة للإعلام الذي كان يبحث عن كل الطرق للإضرار بالتجربة عامة وبالإسلاميين خاصة.
وكانوا يتوهمون أني سأغتر بالإطراء لما يزعمون أني من زعماء النهضة رغم أنهم يعلمون أني لم أنتسب يوما إليها لا قبل الثورة ولا بعدها. وبين أني أتعاطف مع تضحية المنتسبين إليها.
وبالمناسبة فقد وقع خلاف بيني وبين صديق عزيز من النهضة لما رفضت أن تكون الدولة هي التي تعوض النهضويين ما ظلت النهضة تحكم وأن التعويض ينبغي أن يحصل عن طريق المجتمع المدني وحتى بالزكاة بدلا من مد الخصوم بحجة رعاية الحزب لاتباعه بمال الدولة.
وكنت ولا زلت أعتقد أن المشتركين في الحزب قادرون على تعويض من ضحوا بمستقبل أسرهم دون حاجة للدولة.
لكن الخلافات الجوهرية بدأت خاصة بعد ما حصل مما يسمى “توافقا” بين الشيخين وزعم بعض “مفكري” النهضة تحويلها إلى “حزب مدني” يفصل بين ما يسمونه الدعوي والسياسي بسوء فهم للعلاقة بينهما. فقد كنت اعتبر ذلك دليلا على عدم فهم معنى المرجعية الإسلامية ومعنى الدعوة السياسية.
فلا يوجد حزب مدني أو حتى علماني أو حتى ملحد ليس له دعوة لنشر قيم مرجعيته التي يستمد شرعيته من تطبيقها في مشروعه السياسي.
فهمت حينها أنهم يعتقدون أن المرجعية الإسلامية في السياسة هي العبادات وأن الدعوة هي تحول الحزب السياسي إلى كنسية يكون فيها الحكم تحت إشراف “مرشدية ” كما عند الاخوان أو حتى كما عند الشيعة. وهذا ما لا أعتقده وما لا يمكن ان أقبل به: فقيم الإسلام المطبقة في السياسة لا علاقة لها بالعبادات بل هي متعلقة بالمعاملات الاقتصادية والاجتماعية. وإذن فالخطأ مضاعف: قبل الفصل وبعده. كان خطأ قبل الفصل وأخطر بعده لأنهم لم يبق لهم مرجعية.
ليس لحزب كان يتصور أن الدعوة هي العبادات وربما الصدقات على فقراء قاعدته -وهي رشوة سياسية في هذه الحالة- وليس برنامج سياسي قيمه مستمدة من قيم الاسلام بمعنى أنه ينبغي أن يكون ذا نموذج تنموي يمكن وصفه بـ”يمين اليسار” أي إن الغاية من سياسة التنمية اجتماعية والأداة اقتصادية. فيجمع بين حرية الانتاج واجتماعية التوزيع: وذلك هو موضوع الدعوة السياسية المستمدة من المرجعية الإسلامية.
والخلاف الذي من هذا النوع هو الذي أبعدني عاطفيا عن الإسلام السياسي للخطأين في تصور المدنية والعلاقة بالمرجعية لأنهما يختلفان عن الإسلام السياسي كما اراه وأومن به-وهو أمر توصلت إليه في محاولتي تفسير القرآن الكريم ونظامه السياسي تربية وحكما-لكنه لم يكن كافيا ليجعلني أعبر عن خلافي معهم صراحة تجنبا لخدمة أعداء الحركة حتى بدأت تتراكم الأخطاء الخطيرة جدا.
وأولها موقفي من التوافق بين الشيخين: كنت أعتقد أنه مبني على موقف الخائف دون داع. كنت أفهم خوف النهضة من التمصير وخاصة في البداية. لكني كنت أعتقد أن السبسي لن يقدم على ذلك أولا لأنه يعلم أن التمصير كان نكبة على مصر وليس على الإسلام السياسي -وقد سمعته يقول ذلك للسيسي-وفعلا فالتمصير أدى في الغاية إلى الفشل الذريع لحكم العسكر وفي النهاية سيؤدي إلى أن المصريين سيعتبرون ألا مخرج إلا بالإسلام السياسي سندا لشرعية الثورة.
وثانيا لأن السبسي رجل مجرب وليس غبيا حتى لا يعلم حدود قوة حزبه. كان يعلم أنه من دون النهضة لا يمكن أن يطمئن لليسار والقوميين وخاصة للاتحاد.
فهو يخشاهم أكثر مما يخشى النهضة. وكان يعلم أنهم يستعدون للانقلاب عليه نظرا إلى سنه وإلى عدم وجود الوريث الموثوق. وهو رجل مجرب ويعرف أن حزبه “كوكتال مولوتوف” ليس قابلا للصمود.
وقد دعاني للحديث معي لما كتبت رأيي وكانت جملة قد أثارت حب الاطلاع لديه: فقد قلت له في رسالة مفتوحة كن من دهاة العرب لا من دواهيهم. واستقبلني بحفاوة وبقي معي ساعة ونصف للكلام في أحوال تونس. فهمت أنه يعلم ضرورة التعامل مع النهضة لكنه بقي يبتزهم ويخوفهم. لكنه يعترف بما استنتجته من أنه لن يغدر بالنهضة بسبب سنه ولعلمه أن ما فشل فيه بورقيبة وابن علي رغم امكاناتهم لن ينجح فيه. وإذن فقد كان بوسع النهضة أن تطلب تعاقدا عادلا لا البقاء تحت الابتزاز.
وأختم بالكلام على الطامتين الأخيرتين اللتين هما علة ما أخشاه على مستقبل تونس ومن ثم فهما قد جعلتاني أحذر بأني لن أسكت بعدهما. فأما الأولى فهي الانقلاب المشترك بين الشاهد والغنوشي على السبسي لأن تغيير الأغلبية الحاكمة من دون انتخابات انقلاب لا شك في ذلك. وقد كان انقلابا على قرار للسبسي اعتقد أنه كان حكيما إذ هو عزل الشاهد. وغير صحيح أنه اراد ذلك لتوريث ابنه لأنه ليس غافلا عن كون ابنه أعجز من أن يقود حزب فضلا عن دولة. ومع ذلك فإن الوحيد الذي تمسك بالشاهد هو الغنوشي بخطإ جسيم هو الذي أوصل البلاد إلى ما هي عليه حاليا.
فالشاهد الذي غدر بالسبسي لن يتورع عن الغدر بالغنوشي. وهو ما فعل في الانتخابات الاخيرة فاخلف بكل ما وعده به ولم يقبل أن يكون العصفور الذي ينتظره. وبذلك فهذه الطامة الاولى هي التي أعدت للثانية. فترددات الغنوشي في الانتخابات الأخيرة وخاصة لغة الثورية التي اتخذها وخذلانه الصريح للشيخ مورو في حملته هما ما أوصل قيس سعيد للرئاسة وهي نكبة النبكات.
ولا اعتقد أن الشاهد وسعيد كان يمكن أن يصلا إلى حكم تونس لولا المعركة الداخلية في النهضة والتي بدأنا نرى نتائجها باستقالة الجلاصي. فالقيادة اساءت التقدير وواصلته بعد الانتخابات. ولما رأيت الوضع حاولت اقتراح عرضته على الجلاصي للتخلص من نتائج لغة الثورية في الانتخابات.
اقترحت مخرجا هو اقتراح تكوين حكومة وحدة وطنية بدلا من المطالبة بتكوين حكومة الحزب الأول لان القرارات الأليمة التي ينبغي اخذها لإخراج البلاد من أزمتها تقتضي ذلك وتتطلب مشاركة الحزب الثاني الذي تمت شيطنته التي أسهمت في إنجاح سعيد.
وما كنت لأكتب كل هذا لو لم أكن قد آليت على نفسي ألا أكون شاهد زور فاعتبر أن العامل الخارجي كاف لإنجاح سعيد لولا هذا العامل الداخلي الذي هو خطأ استراتيجي وتكرره مستقبلا هو الذي اخشاه ولأجله كتبت هذا التحليل حتى أثبت أن الامر ليس تنبؤا بل تحليل لمعطيات دقيقة في الوضع التونسي. فمن ينتبه للمعطيات لا بد وأنه قد صار مثلي يسمع أصواتا تدعي أن تعثر تونس الحالي علته صراع خفي بين الغنوشي وسعيد. وأن الاخير عاجز ليس بذاته بل لأن النهضة تعطله.
وهي خطة أعلم أن أعداء تونس يستعملونها لضرب أكبر حزب في تونس بسعيد ثم بعد ذلك سيتعاملون معه. ومن لم يتوقعها كما افعل سيرى نتائجها قريبا وخاصة إذا ازدادت الأمور سوءا ليس بسبب كورونا وحدها بل كذلك حتى من دونها لأن وضع البلاد الاقتصادي والاجتماعي مترد إلى اقصى حد. سيحاولون إيهام الشعب بأن فشل قيس سعيد وحكومته ليس بسبب عجزه الذاتي بل لأن حزب النهضة يعطل سياسته.
ومن ثم فهم سيؤلبون عليها الرأي العام بتواطؤ بين الأعلام الذي ليس له من عدو إلا الإسلام السياسي بتمويل من الثورة المضادة العربية بصنفيها من الخليج وإسرائيل ومن الهلال وإيران ومعهم فرنسا. وهذا هو الخطر الذي اتوقعه وهو جار على قدم وساق.
ولعله آخر توقع أسبق غيري إليه وسيتأكد يوما بعد يوم. والمشكل أن النهضة إذا لم تقم بواجبها لإنقاذ البلاد منه تكون قد تخلت عن رسالتها. وإذا قامت بذلك وحدها فإن تأليب الرأي العام عليها يسير جدا خاصة وقيادات النهضة الذين بيدهم سياستها لم تعد لهم شعبية مريحة كما تبين الانتخابات الأخيرة.
ولا بد أولا من تعليل كلامي في هذه المسائل: فلماذا أقول ما أقوله الآن؟ فلو لم أشعر بأن أمرا ما يدبر بمثل هذه الخطة ضد أكبر حزب لتحميلة مسؤولية فشل قيس وحكومته وقد بدآ يتشكيان من التدخل في مهامهما لكنت أتوهم ما يشبه نظرية المؤامرة.
ولكن هل ينكر أحد أن الإسلام السياسي مستهدف في الاقليم كله ومن حكام الإقليم كلهم ومن حماتهم كلهم وأن هذه المؤشرات اللطيفة بدأت تطفو على سطح الاعلام بالتركيز على مبادرات رئيس مجلس النواب واعتبارها منافسة لسلطات الرئيس وحكومته؟
لكن الأهم قبل الكلام في ذلك أمرين:
• فأولا أنا لم أقدم دليلا على ما ادعيته وأبدو فيه مخطئا لغيري ومدعيا علما لدنيا. لكني لم أفعل ليس لعدم الدليل بل لأنه في متناول كل من يطلبه فالأدلة كلها منشورة إما نصا أو بالصوت والصورة.
• وثانيا تعليلي للأشياء مبسط إلى حد غير معقول فهل معنى ذلك أني لا ارى الجوانب التي تبدو وكأنها مسكوت عنها؟ فهل التعليل هو كما يبدو مباشرا مع تحميل المسؤولية للنهضة كتحميل الاخوان مسؤولية ما جرى في مصر؟ وهل أتوهم أن ما اقترحته كان ممكنا ومفيدا كما قد يظن؟
ليس صحيحا أن التفسير مباشر وأنه يكتفي بتحميل المسؤولية للنهضة وكأنه تجن واضح. فلست غافلا عن كونها ليست اللاعب الوحيد في المعركة لكنها على الاقل في بعض اللحظات كانت اللاعب المحدد الأول. وسأكتفي بالكلام على الترويكا.
هل يوجد حل آخر أعني هل كان يمكن الحكم مع ما بقي من الدساترة وقد حل حزبهم فانفرط عقده وكوادر الصف الثاني أو الثالث منه اندسوا في الأحزاب الموجودة؟
فالكثير من قاعدته انضموا إلى النهضة وإلى حزب المرزوقي وابن جعفر. وكنت إلى حد ما أصدق المرزوقي وابن جعفر. لكني كنت أشك في النخب التي انضمت إلى حزبيهما إذ لم يكن للرجلين قاعدة شعبية تذكر قبل الثورة وحتى قبل تعيين الانتخابات الأولى. وليس بالصدفة أن جل من أفشل الترويكا وصار معارضا للنهضة منهم. ولذلك فقد كنت أفضل التعامل المباشر مع الدساترة: حتى إني اقترحت على رئيس الحكومة الذي كنت مستشاره أن يجتمع علنا مرة كل شهر مع الوزراء الاول الخمسة من العهد السابق واقترحت مجلس الحكماء المؤلف من كل النخب لتجاوز العزلة السياسية.
فنخب الحزبين المشاركين في الترويكا مع النهضة كانوا أقرب إلى المعارضة منهم للنهضة التي كانت الحاكمة وحدها في الحقيقة حتى إني عجبت من أن ديوان رئيس الحكومة كان مقصورا على النهضويين ولم يكن من خارجها إلا أنا. وحتى النهضة فأنا لم أكن أدري من يحكم هل هو رئيس الحكومة أم رئيس الحركة. وفي النهاية كما كنت متوقعا لم تقم النهضة بما كان ينبغي القيام به أي مساعدة الدساترة باسترداد دورهم. قد أشرت في أول مدخلة انتخابية قدمتها في سيدي بوزيد في بداية الحملة بأن تونس بحاجة للصلح بين بورقيبة والثعالبي. والحل له علاقة برؤية لطبيعة الدستور.
فقد كنت ميالا إلى دستور قريب من الدستور الأمريكي -رئاسي مع حرزين يحدان من حكم الفرد. أحدهما للانتخابات بالناخب العادي والناخب الكبير. والثاني للمراقبة والتشريع أعني مجلسين للنواب وللشيوخ وهما أقرب شيء لتقاليد المسلمين في شكل أهل الحل والعقد واستقلال التشريع عن التنفيذ حتى في عصر الانحطاط من تاريخنا. ومعنى ذلك أني اعتقد أن الدساتير من جنس الاخلاق العامة والعرف ليس من اليسير تحقيق طفرات فيها ولا بد من الوصل بين الماضي والحاضر والمستقبل بحلول متقاربة.
وهو ما يعني ثنائية الأحزاب الكبيرة واعتبار بقية الأحزاب مكملات لضرورتها في تعددية الراي والفكر السياسي والاجتماعي والاقتصادي دون أن يكون لدورها في الحكم أهمية بل إن تعددها قد يصبح علة للفوضى كما يحدث في كل الانظمة البرلمانية وخاصة في البلاد عديمة الثقافة الديموقراطية مثل شعوبنا. وذلك ما نراه اليوم حاصلا لأن تفتت مجلس النواب صار أكبر عائق للحكم الناجع وهو ما سييسر حجج مرذلي النظام والديموقراطية فيكون مساعدا لقيس سيعد في سعيه لقلب النظام.
أعود الآن إلى اللاعبين مع النهضة.
حصل لهم بعد أن كون السبسي “الكوكتال مولولتوف” من الفتات اليساري والقومي مع بعض التجمعيين -وهم اعداء البورقيبية كما يفهم ذلك من له دراية بتاريخ علاقة بورقيبة باليسار والقوميين خاصة-كل ذلك معلوم ولا يحتاج إلى شرح. ولما استفاق السبسي لهذا الخطأ الذي هو تحقيق التوازن مع النهضة على عجل ولعله كان حله الوحيد حصل عليه الانقلاب الذي اعتبره بداية النكبة الحالية: انقلاب الشاهد والغنوشي على السبسي.
ولما حصل ذلك خسرت النهضة الكثير من قاعدتها فاضطرت إلى خطاب ثوري كان من مضموناته المشاركة في شيطنة القروي دون أن تكون مسؤولة عن سجنه الذي هو مؤامرة من الشاهد لاعتقاده أنه منافسه الجدي الوحيد.
وإذا كان القروي قد وجد منفذا في الرعاية الاجتماعية للفقراء فإن سعيد قد وجد منفذا في ترذيل الحياة السياسية وخاصة فشل حل المشاكل الاجتماعية والاقتصادية للشباب.
لذلك فعلة نجاح قيس سعيد بالعامل الباطني والماركسي الذي لم يخفه أصحابه ودور لما يشبه ما حصل مع ترومب لما بين إيران ومافيات بوتين من علاقة -كان له علل داخلية كذلك وتلك هي علة نتائج الانتخابات التي يصعب تفسيرها بشيطنة القروي وحدها أو بانتشار الفضيلة بين الناخبين لانتخاب ما يزعم فاضلا- والأحداث أيدت موقفي الذي أصبح قناعة الغالبية أو بالعامل الخارجي وحده ومن ثم فالوضعية كلها شاركت في ما حدث.
والآن هل كانت فرضياتي للحلول البديلة قابلة للتطبيق وهل كان يمكن أن تؤدي إلى نتائج أفضل؟
العلم عند الله لأن التاريخ لا يصنع بلو. والمعلوم أن الشرطيات لا معنى لها عند الكلام على الماضي. الشرطي مفيد في المستقبل: وهو ملازم لكل اختيارات الاستراتيجيا في التخطيط للمستقبل.
الثابت هو فشل الخيارات التي نصحت بتجنبها. ولم أذكر هذه الفرضيات من حيث دلالتها عن الماضي بل لأنها قد تدعم ما أتوقعه في المستقبل.
فالشيء الثابت هو اللجوء المتأخر للخيارات التي نصحت بها: ومعنى ذلك أن قيادة النهضة بدأت تفهم الكثير من اخطائها ولو بصورة متأخرة. وسأذكر خيارين منها وهما الأهم: فأولا نصحت بعد الانتخابات -ولأذكر من نصحت أعني الصديق الجلاصي- بضرورة تجنب السعي لتكوين حكومة نهضوية والمطالبة بحكومة وحدة وطنية بسبب مصاعب البلاد وللخروج من مأزق الخطاب الانتخابي الثوري الذي قد يجعل النهضة مضطرة لتجنب الحكم مع القروي وهو صاحب الحزب الثاني في المجلس.
وها نحن نراهم الآن يعودون إلى الكلام على حكومة وحدة وطنية بعد إضاعة ثلاثة أشهر وتمكين الرئيس من تكوين حكومة فرنسية إيرانية ليس لحضور النهضة فيها أهمية تذكر رغم العدد وهو من علل ما كتبته هنا.
ذلك أن حكومة الرئيس بيدها الحل والربط في كل شيء وخاصة في أدوات فعل الدولة وهم مع ذلك سيحملون النهضة مسؤولية الفشل الحتمي وينسبونه إلى تعطيل مهمة الرئيس وحكومته والضرب اللطيف بدأ حول كورونا.
فالخطة التي أتوقعها ولا أشك في أنها هي التي سيعملون بها خاصة إذا خرجنا سالمين من كورونا بفضل نجاح وزارات النهضة وهو ما سيزيد من محاولة تحميلهم مسؤولية الفشل وينفون عنهم أي نجاح.
فلن يقبلوا نجاحا يأتي عن طريق وزاراتها وسيخترعون “قصصا” لتشويههم مثل قصة السيارة لأنها حتى لو كانت فعلية وكانت لوزير ليس نهضاويا لغطوا عليها مثل التسفير والوردانين.
أما الأمر الثاني الذي نصحت به وعادت النهضة إليه فهو الوحدة الوطنية بالمصالحة مع الدستوريين. لكن ما كان ممكنا في بداية الثورة لما كانت قاعدة النهضة ثلاثة أضعاف عددها الحالي لم يعد ممكنا الآن لعلتين: فأولا تقريبا جل كبار الدساترة توفوا. وثانيا لم يعد للبقية “زميم” لأنهم تجمعيون وليسوا دساترة.
والصلح مع من تدعي تمثيل الدساترة مستحيل لأنها ليست دستورية ولأن المؤشرات تقول بقوة تعاملها مع الإمارات.
والوحدة الوطنية لا يمكن أن تقترحها بعد أن اخترت ما تدعيه حكم الثوريين. وكل شيء يمكن أن يفهمه المرء إلا أن يعتبر حزب البراميل ثوريا وحزب البسكلات ثوريا. لم أفهم النهضة لما قالته ولكن خاصة ائتلاف الكرامة التي قال الناطق باسمها إن الخلاف هو عشر الاتفاق معهما.
حلفاء بشار وحفتر والسيسي ثوريون؟ كيف يكون حزب أو شخص ثوريا في تونس وهو مع بشار في سوريا أو مع السيسي في مصر أو مع حفتر في ليبيا؟
وهكذا يتبين أني لم أكتب هذا النص للكلام على الماضي رغم التسليم بأن “التذكير قد ينفع المؤمنين” بل للكلام على المستقبل. فالحذر الواجب هو الانتباه إلى ما يحاك حاليا للإسلاميين في تونس من قبل الثورة المضادة العربية بصنفيها التابع لإسرائيل وأمريكا والتابع لإيران وروسيا ومعهم فرنسا. المطلوب هو رأس الثورة الوحيدة المتبقية بلاد الربيع. وهي مطلوبة ليس ضد تونس وحدها بل ضد الجزائر خاصة لأن فرنسا وإيران وإسرائيل والعملاء العرب هدفهم السيطرة على المغرب الكبير كما فعلوا مع المشرق أو كما يتوهمون انهم نجحوا فيه في المشرق.
وما يحاك بدأت علاماته تتوالى: فأولا كونوا حكومة تابعة للرئيس مباشرة وسيفرضون الحكم بالمراسيم خارج المجلس. وستكون في البداية بحجة التصدي لكورونا ثم تصبح الحل الوحيد لتحقيق مشروع جمع كل السلطات بيد الرئيس لأن رئيس الحكومة ليس إلا وزيرا أولا وقد يستبعد وزراء النهضة واحد بعد واحد. وقد يشرعون في “طرد” وزراء النهضة واحدا بعد واحد بخلق قصص من جنس قصة بنت الوزير التي استعملت سيارة الوزارة غالية الثمن.
والعلامة الابرز هي الشروع في تفتيت حزب القروي حتى يستفردوا بالنهضة. ذلك أن النهضة من دون حزب القروي تفقد كل وزن ويمكن أن يمرروا كل القرارات التي يريدون وأولها الحكم بـ”الفرمانات” التي تصدر عن الأحمق الذي يسكن قرطاج بأوامر فرنسية إيرانية. لنا مقيمان عامان: سفير فرنسا وسفير إيران.
وتمويل المافيات التي تبدو أحزابا آت من دولتي البترول الخليجي أي الإمارات والسعودية. ولا أتكلم على من يتكلمون باسم الإسلام الجهادي فهم من جنس ما نراه في أدوات الحرب على الثورة في كل الاقليم. فالصادق منهم أحمق وغبي والبقية من صنع المخابرات العربية والإيرانية والأمريكية والروسية.
وأخيرا فإحياء الحركات الصوفية هدفها التخدير الروحي ولعل أبرز مكان يتجلى فيه ذلك هو مصر. فالثورة في مصر ما كان لينتصر عليها العسكر الذي فقد كل مصداقية عند الشعب لولا التصوف والتسلف والتمسح والتعلمن في النخب المصرية المسيطرة على الشعب الجاهل والجائع والغارق في مشكل العيش اليومي.