اعذار العذاري تتجاوز أدواء النهضة وهي منها

ه

لما سمعت بعض تصريحاته وخاصة ما يلومه البعض عنه تأكدت أن الرجل مظلوم إن صدق في ما يقول:
فكيف نلوم أحدا عمل بالموجود ووجد أنه أفضل الممكن؟

لكن إذا كان ما يقوله صحيحا
1- فما معنى حدوث ثورة؟
وعلى من حدثت؟
وإذا كان ما يقوله صحيحا
2- فما معنى تردي وضع البلاد؟
وما سببه؟

الجواب عن هذين السؤالين موجود في اعذار العذاري.
وهي الداء الدوي الذي فيه شيء من تردي حال النهضة ترديا مفهوما من موقف الكل يعلمه.
والكل يعلم علته:
تجنب أن يحل بقاعدتها ما حل بها في التجارب السابقة وخاصة في مناخ الحرب على الإسلاميين محليا واقليميا ودوليا.

لكن الداء الأخطر يتجاوزها.
وهو في ما أعتقد طبيعة الأزمة الخلقية العامة ليس في النهضة وحدها بل في كل النخب الحاكم منها والمعارض:
– البحث عن النجاح السهل أو “تدبير الرأس” بالمصطلح الشعبي التونسي.
– وتقديم العاجل على الآجل لفقدان المشروع المتعالي على المطالب الشخصية التي يقاس بها النجاح.

ولأسم ذهنية المشروع المتعالي “الروح الجهادية الحقيقية” لتحقيق برنامج مناسب للعصر يعيد إلى الأمة منزلتها الكونية ودورها في التاريخ.

قد أكون ظلمت الرجل.
وهو صديق على الأقل كما شعرت خلال السنة الأولى من حكم الترويكا لأني منذئذ لم أره.
ولم يقع بيننا تواصل.
وقلما تواصلت مع أحد ممن عايشتهم في السياسة إلا في مناسبات قليلة.
وأغلبها لظرفيات خطرة مرت بها البلاد مثل لحظتي الانتخابات 2014 و2019.

لكن علي أن أبين أن العلة العميقة تتجاوز خوف النهضة وقياداتها.
وهو أمر كما أسلفت مشروع في زمن تكالب الجميع على الإسلاميين محليا واقليميا ودوليا حتى صار الجميع يرد عليهم بأنهم حتى لو سلخوا جلودهم لما برأوهم من “جريمة” الانتساب إلى المشروع الإسلامي.
جريمة صارت تشمل كل البشر عندما يغيب المشروع المتجاوز للأفراد ونجاحهم الشخصي.

ولا استنتج ذلك من كون العذاري لم ينتدب أحدا من النهضة.
فما أظنه الوحيد في ذلك.
وعدم الانتداب منها لا يعني أنها ليس فيها من يستحق الانتداب.
فأنا ازعم رغم أني لست منتسبا إليها أنها بالفعل وخاصة بالقوة – أعني من يمكن أن ينتسب إليها لو تجاوزت السياسي إلى شروطه – تحوز على كفاءات تتجاوز بمفردها كل الاحزاب والحزيبات الموجودة في تونس بمن في ذلك بقايا الحزب الذي حكم البلاد ستين سنة لأن جل نخبه الحقيقية شاخت أو ماتت.

إنما المحير في تصريحه هو وجهه السلبي:
كيف لم يجد في الوزارات التي اشرف عليها وهي على الاقل ثلاثة مدة خمس سنوات أحدا يستحق التعويض بمن هو أكفأ أو أكثر سلامة خلقية؟
وكيف وجد الأمور عال العال؟

وقد أجاب عن هذا السؤال ضمنيا.
وهو المحير أكثر.
فقد فاخر بثلاثة أمور هي التي شككتني في صدقه أو جعلتني أشك في ما يوصف به عند البعض من الذكاء والفطنة على الأقل عند من اختاره ليس للوزارة فحسب بل وكذلك للأمانة العامة لأكبر حزب في البلد.

1- فاخر بأن المناخ الاجتماعي كان جيدا في الوزارات التي أشرف عليها.
وهذا يعني أنه
▪︎ حرص على ترضية الاتحاد
▪︎ وعامل بعين الرضا الفساد المستشري فيها.
ذلك أن أغلب الفساد في الإدارات علته النقابات التي خربت كل شيء وخاصة إدارة الدولة عامة وشركاتها خاصة والتربية بصورة أخص.
ولم أنتظر اليوم لأقول ذلك.
بل ربما كان ذلك من أسباب خلافي الأساسي مع حكومة السيد حمادي الجبالي وسماعه لمستشاره في التعامل مع الاتحاد.
حتى إني طلبت مقابلة الأمين العام.
وسألته ذلك السؤال الذي أفهم أنه لا يمكن أن يفهمه.
لأنه لو فهمه لما صار دكتورا وحاصلا على جائزة السلام مع الرابوع المعلوم:
ماذا يمكن أن تجيب لو سئلت قياسا لحشاد في التحرير وحتى عاشور في بناء الدولة لتقييم موقفكم من الثورة؟ ألستم تخربونها؟

2-فاخر بكون منظمتي الأعراف راضية عما فعل وبالإصلاحات التشريعية التي قام بها.
ولهذا نفس معنى الأول.
فهل يرضى هذان على غير ما يجعلهما يواصلان نهب البلاد والاستحواذ عما قد يفضل من شركات الدولة عندما ستخوصص بفضل جرائم أولئك التي لم تبق لها إلا حل الخوصصة وإلا فهي ستموت لأنها أفلست؟

3- والمفاخرة الأخيرة كانت بما هو الأخطر لأن فيه بصورة لا لبس فيها علة حصول المفاخرتين الأوليين:
قوله إنه انتدب من الإدارة نفسها.
بمعنى أنه يعتبر الإدارة “صالحة” و”كفأة”. وهذه المفاخرة الأخيرة إن لم تكن دليل تواطؤ مع الفساد فهي دليل حمق لا مثيل له. فكلنا يعلم أن كبار المسؤولين في الإدارة هم أدوات من فاخر بالاتفاق معهم في الأمرين الاولين. فهم الميسرون لحلب الدولة من قبل الاتحادين اتحاد الأعراف واتحاد العمال. وما أظن أحدا يجهل ذلك لأن الدولة هي البقرة الحلوب التي يتمعش منها الاتحادان ويقاسمان المافيات الحاكمة ريع الدولة التي تحلب المواطن.
ولذلك فسؤالي هو إذا كان ذلك كذلك فما التفسير لتردي البلاد وحال العباد بدرجة تكاد تجعلنا في مستوى الصومال إذا طرحنا ما تدين به وما لو دفعته لصارت من أكبر المتسولين في العالم.

وطبعا لا أصدق أن الرجل يصدق أن ما فعله يمكن أن يفاخر به من يؤمن بأن ثورة حصلت وبأن الشعب تردت احواله بعدها أكثر مما كانت عليه قبلها.
لأني أعلم أنه ليس غبيا.
وأكاد اظن أنه ربما ندم على ما حصل له في شبابه عندما كان مثاليا وآمن بضرورة الثورة.

وإذن فهو مثل كل النخب العربية يتصرف بما يمكن أن يبرر بلغة “السياسة الواقعية” التي تعتبر شرط الاتصاف برجل الدولة أو الوسام الذي يمكن أن يحصل عليه من الاستبلشمنت المحلي والدولي.
فهذا يؤهله لأن يبقى مرغوبا فيه في أي مسؤولية محلية أو دولية.
فيكون الرجل “قافزا” بالمعنى التونسي.

وهذا أمر مفهوم في أجيال عاشت من دون مشروع يتجاوز النجاح الشخصي الذي لا يكلف أكثر مما كلف المرء لما كان شابا مثاليا انضم إلى مشروع بات يعتقد أن القيادات الكبرى التي تمثله صار هذا منطقها لأنها تجاوزت ما لا أنفي مشروعيته من الحذر في مناخ العداء للإسلاميين إلى تزعم المراجعات التي تتنصل من المشروع الإسلامي تنصلا يتمثل “في سلخ الجلد” لعل وعسى يعرفهم من يريدون منه الرضا عنهم.
ولن ينالوا الرضا إلا إذا قبلوا بأن يكونوا بديلا مخادعا ممن كان في الخدمة قبلهم في مستعمراتهم.
ذلك هو تفسيري والله أعلم.

لكني أعلم أنه سيعاب على مثل هذه الصراحة.
وعذري أن ذلك هو ما فهمت.
ولست أدعي علما لدنيا.
ما أدعيه هو أني أعلن للمرة الألف
أني أومن بمشروع الإسلام السياسي
وأسهم فيه بما اعتبر نفسي قادرا عليه.

وأكثر من ذلك فإني أومن بأنه لا إسلام من دون هذا المشروع.
فالقرآن هو فلسفة سياسة الدنيا بقيم ما يتعالى عليها.
وذلك هو جوهر الرسالة المحمدية.
إذ إن محمدا هو الذي أسس دولته بهذا المعنى.
فالإنسان مستعمر في الأرض ومستخلف فيها يعني
ما فهمه ابن خلدون في المقدمة (الباب الثاني الفصل 6)
تعريفا للإنسان بكونه “رئيسا بطبعه بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له” أنه يطبق قوانين الطبيعة لتعميرها وسنن التاريخ للخلافة عليها كما يحددهما القرآن.

والقرآن رسالة تذكير ليحقق الإنسان مهمتيه في الدنيا:
1-تعمير الأرض بقيم القرآن المتعلقة بالتعامل مع الطبيعة
لتحقيق شروط قيامه بالعلم والعمل.
2-الاستخلاف فيها بشرائع القرآن المتعلقة بالتعامل مع التاريخ
لتحقيق شروط العمل بالقيم المادية والروحية.

وحتى لو حارب العالم كله هذا المشروع فلن اتخلى عن الإيمان به والعمل من أجله بما اعتبر نفسي أقدر عليه من السياسة.
ولا يعنيني كثيرا أن أنجح في تحقيق شيء منه لأني واثق من أنه سيتحقق لامحالة
لأنه وعد الله أولا
ولأن منطق التاريخ يحتمه ثانيا.
والدليل على هذه الحتمية هو لجوء كل اعداء الإنسانية للحرب عليه ضمن حربهم على الإنسان والحياة والطبيعة.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
آخر تحديث 05-04-2025
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي