اعجاز القرآن العددي،هل له دلالة معرفية؟ أم هو خاصية جمالية؟

ه

تفرجت البارحة على عالم جليل القدر من فلسطين -الاستاذ جرار-يتكلم في الاعجاز العددي في القرآن. وبقدر ما أعجبت بتمكنه من موضوعه بقدر ما عجبت من كلام على شيء كلاما لا تتوفر فيه شروط العلمية التي من المفروض ألا تغيب على مثله. وهذه الشروط ليست كثيرة لكنـي لم أجد أيا منها في ما بهرني به من ثوة ذاكرته وسرعة بديهته. وسأكتفي بشرطين حتى لا أطيل:

  1. الأول هو ثبات العامل المؤثر لاكتشاف النسب الدالة على الأعجاز العددي لأن تعددها من دون ضابط يجعلها تحكمية وكأنها طلبت من أجل تحصيل حاصل يقودها وليست لاكتشاف مجهول بالاستنتاج من قواعد محددة ومبادئ محدودة. من دون ذلك يكون الأمر عين التحكم مثل استعمال الفيثاغوريين التحكمي للرياضيات.
    فالفيثاغوريون يبحثون عن كل ما فيه عدد سبعة مثلا ويجمعونه ثم يجعلون عدد سبعة مبدأ تفسيريا دون أن يحددوا ما المشكل الذي يعالجه التفسير رغم أنه لا علاقة للأشياء التي فيها عدد سبعة تكون ذات دلالة على شيء معين هو الذي ينبغي أن يكون علة تفسيرية للمشترك بينها في موضوعات من طبائع مختلفة. وقد ناقشهم أرسطو في الميم والنون من الميتافيزيقا وهما مجهولتان في تراثنا الفلسفي لسوء الحظ.
    وقد سبق ابن خلدون لنقد نظائر من هذه المحاولات خلال كلامه على العلوم الزائفة مثل ما يسمى بعلم الحروف أو ما يبنى على حساب الجمل في التنجيم الذي يخلط بعلم الفلك. وهذا ليس أمرا جديدا فهو موجود في القبالية اليهودية وفي تخاريف التصوف وفي الفيثاغورية.
  2. والثاني هو هبنا سلمنا بصحة هذه اللعبة التحكمية في التوافقات العددية التي يكتشفها بحسبان اسم السور وأرقامها ومضمون الآيات وأرقامها وعدد حروفها وتغاضينا عن علاقة هذه المقومات المؤثرة في العملية الحسابية التي بقيت غير محددة الطبيعة فما دلالة هذه العلاقات على موضوعاتها وقوانينها؟
    فمثلا هو درس ظاهرة النحل في سورة النحل وعدد 16 الدال على الكروموزات في الذكر وفي البيضة وضعفها في الأنثى. حسن. توجد أسماء بعض الثمار والأشجار والحيوانات في القرآن الخ… هل يمكنه أن يستخرج بناها وقوانينها العضوية بنفس الطريقة قبل أن يكتشفها البحث العلمي من مواقع الآيات التي وردت فيها وعدد كلماتها وحروفها وعدد سورتها وعدد آيات سورتها إلخ.. شيئا علميا لم يكتشفه عالم بالبحث العلمي قبله؟
    هل يمكنه مثلا أن يضع نسقا يحدد فيه المبادئ العامة-اكسيوميا-التي تمكن من استخراج قوانين الأشياء من لعبة الأعداد التحكمية التي رأيتها البارحة في عرضه الجذاب والخلاب لما في طريقة العرض من بيداغوجيا وخفة روح؟
    ثم كيف يصل بين هذه المعجزات التي لا يمكن اكتشافها إلا بعد أن تكتشف بالبحث العلمي الجدي في المخابر التي تكلف جهدا وتمويلا كان يمكن توفيره لو كانت هذه الطريقة توصل إلى الحقائق العلمية الفعلية؟
    وكيف يصل ذلك بـالأثر الذي كان للقرآن ولا يزال؟
    هل القرآن أثر بهذه الخصائص في أهل الجاهلية حتى يقبل منهم من أسلم صدق الرسول في أن ما يقوله هو كلام الله؟
    أم إن ذلك لا علاقة له بسحر القرآن وجاذبيته للعقل والوجدان؟
    ما فائدة أعجاز لا دخل له في التأثير المطلوب من الرسالة ولا قدرة له على اكتشاف ما لم يكتشف خارجه من علماء جلهم لا يؤمنون به؟
    لماذا أقول هذا الكلام رغم احترامي للرجل ولصدقه ولذكائه؟
    فعندي أن هذه المحاولات من نتائج التحريف لطبيعة الرسالة الإسلامية ودور القرآن الكريم في تبليغها. فهذا التحريف أبعدها عن دورها الموجه إلى شروط تحقيق الاستعمار في الأرض والاستخلاف فيها. فلا يمكن أن أصدق أن الله أرسل محمدا وكلفه بتبليغ ما لم يكن بوسع المخاطبين أن يدركوه فيبقى معلقا ليكتشفه علماء الغرب فندعي وجوده فيه دون أن نفسر علة وجوده إذا كان تأثير القرآن في متلقيه غنيا عنه.
    ولو كان هذا الاستنتاج مني دون سند قرآني لكنت متجنيا على هذا العالم الجليل وعلى غيره ممن يقومون بنفس المحاولات ويعتبرون الرقم 19 قلب الرحى فيها. فالقرآن حدد المنهج الموصل إلى تبين حقيقته كما حدد المنهج الموصل إلى تحريفه. وهذان التحديدان من المحكمات كما سيتبين عندما نحدد طبيعة المحكم والمتشابه لاحقا. ففي الآية 53 من فصلت حدد أين توجد حقيقة القرآن وكيف نتبينـها تحديدا صريحا.
    وفي آل عمران 7 حدد القرآن المنهج المحرف للقرآن أي عكس الآية 53 من فصلت. ففيها وصف من يريد تأويل المتشابه بأنه:
  3. مصاب بزيغ القلب.
  4. ومبتغ للفتنة.
    لكن العلماء (في علوم الملة الغائية الخمسة -التفسير اصلا وفروعه الأربعة أي الكلام والفقه والفلسفة والتصوف -قلبوا أمر فصلت إلى نهي ونهي آل عمران إلى أمر بجعل الاستئناف عطفا في سابعة آل عمران.
    فماذا تقول فصلت 53؟
    تنفي تماما أن يكون تبين حقيقة القرآن موجودا في آيات القرآن بمعنى فقراته وجمله النصية بل في آيات الآفاق والأنفس بمعنى الظاهرات الطبيعية والوقائع التاريخية والأعماق النفسية للإنسان. ومعنى ذلك أن كل تفتيش في آيات القرآن النصية لن يوصل إلى أي تبين لحقيقة القرآن. وهذا حكم القرآن نفسه على طريقة تبين حقيقته. والآفاق والأنفس هي مجال معرفتها. والقصد ليس حقيقته كرسالة فهذه لا تحتاج لتفسير إذ هي معلنة ومعلن ما تتضمنه الرسالة ومن خصائص الرسالة ان تكون في متناول المرسل إليه لئلا تكون فاقدة لوظيفتها. القصد حقيقة علاقته بمهمتي الإنسان من حيث هو مستعمر في الأرض ومن حيث هم مستعمر فيها كما نبين لاحقا.
    ومعنى ذلك أن الذي اكتشف عدد الكرومزمات في النحل هو الذي يطبق ما يأمر به القرآن في فصلت 53 وليس من يستعمل ذلك بحثا في نص القرآن بعد أن اكتشفه غيره ليدعي أنه موجود فيه. ولا مانع إذا ثبت أن ذلك صحيح. لكن لن يكون ذلك اعجازا علميا بل تعرفا بعديا على تناظر ما بين نوعي الآيات يكتشف من الوجود إلى القرآن.
    فإذا اكتشفنا بالبحث العلمي الآيات التي يرينها الله في الآفاق (أي في العالمين الطبيعي والتاريخي) وفي الأنفس أي في أسرار الإنسان والجماعات أمكننا ان نفهم القرآن فيكون”كود” “دليل استشفار” فهم القرآن ليس فيه بل في نظام العالمين الطبيعي والتاريخي والنفسي والاجتماعي الإنسانيين وفيهما نكتشف مفتاح الشفرة.
    ولو تمكن الأستاذ من علاج المسألتين (الشرطين) اللتين أشرت إليهما في محاولته لعكس ولجعل مفتاح قراءة العالمين الطبيعي والتاريخي ينطلق بمن آيات القرآن إلى آيات الوجود. لكن ذلك عندي أمر مستحيل عقلا ونقلا. فعقلا يعني أن العلم يصبح غير تاريخي فنحصل بعد اكتشاف شفرة الكون القرآنية على علم نهائي مغن عن البحث العلمي وأدواته.
    أما نقلا فإن كل آيات القرآن التي تتكلم في الاجتهاد والجهاد من أجل التعمير بقيم الاستخلاف تصبح لاغية ولا نحتاج إليها إذ يكفي أن نحفظ القرآن وأن نستعمل مفتاح الاستشفار القرآني لتكون لدينا عصا موسى تمدنا بكل ما يغنينا عن الاجتهاد والجهاد لتعمير الأرض ولقيم الاستخلاف بالمعرفة العلمية وتطبيقاتها التي تصبح في متناولنا بخاتم سليمان: يصبح العلم سحرا.
    والأخطر أن آية مثل “خلقنا الإنسان في كبد” تصبح كاذبة ولا يبقى القرآن كلام الله وهو عين الكفر بالرسالة لأن تكذيب القرآن في هذه الحالة يعني أنه ليس كلام الله وأن الرسول كذب عندما قال إنه كلام الله. فلا كبد يذكر في حفظ القرآن واستعمال المفتاح إذا اكتشفناه فنستخرج به أسرار الوجود. يصبح العلم الذي يكابد فحول العلماء منذ آلاف السنين لتحصيلة لعبة أطفال.
    سننام جميعا ويكفي أن يوجد لدينا بعض مفسرين للقرآن فيكونوا سحرة الأمة الذين بتعلم العربية والحساب البدائي يحلون كل مشاكل تعمير الأرض أعني كل العلوم والتقنيات الضرورية التي كابدت الإنسانية ملايين السنين لتراكم حلولها وأدواتها خاصة -فاكتشاف الكرومزوم-لا يتم من دون تجهيز علمي معقد.
    لذلك فهذه وصفة لتربية أجيال على الكسل العلمي وعلى الإبداع إذ يكتفون بحفظ القرآن واستعمال المفتاح السحري لاكتشاف المكتشف عند الآخرين الذين بذلوا الجهد الذي طلبه منا القرآن عندما قال “سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق” (فصلت 53) ولم يقل آيات القرآن النصية.
    والآن أصل إلى النهي الذي صار أمرا بعد ما تكلمت على الأمر الذي صار نهيا بسبب التحريف. ففصلت أمرت بالمنهج السليم وهو المتبع في البحث العلمي الذي يكتشف قوانين الطبيعة وسنن التاريخ وأسرار النفس البشرية لكن علماء الإسلام قلبوها بالتأول وجعلوها للوعظ والإرشاد كما في مثال تأويل التسونامي بغضب الله على البشر.
    وذلك هو السر في قلب النهي أمرا أعني في التحيل على آل عمران 7 حتى يصبح الاستئناف عطفا فيكون التأويل الذي تحرمه الآية مقيسا على تأويل الله ويسمى ذلك رسوخا في العلم (ابن رشد). وصار الفلاسفة ومتأخر المتكلمين يعتقدون أن القرآن يؤول برده لعلوم العقل لأنه عبارة شعبية عن “الحقيقة العلمية”. وفي ذلك نفي للغيب صريح. وما كان ذلك ليكون لولا وهمـين:
  5. الأول هو تصور الوجود مطلق الشفافية للعقل الإنساني.
  6. والثاني هو تصور العقل مطلق النفاذ للحقيقة لكأنه صار حديدا كما سيصبح يوم الدين.
    ولكأن الفلاسفة والقائلين برد الديني إلى الفلسفي الجاهز والحاصل قائلون بنفس خرافة الاعجاز العلمي. صار القرآن يفسر بعلم أرسطو الذي ظن نهائيا. وصار حاليا يفسر بنتائج البحث العلمي الذي يظن نهائيا. ولما كان العلم متطورا وتاريخيا فإن هؤلاء العلماء المؤولين للقرآن بالفلسفة أو بالعلم يجعلون القرآن تاريخيا مثل العلوم ومن ثم فهم لا يختلفون عن العلمانيين. والعلمانيون أحق بالتصديق لأنهم اقل تناقضا.
    ذلك أنه إذا كان القرآن يتضمن العلوم وكانت العلوم تاريخية فهو مثلها تاريخي. وكل تاريخي سالف يموت عندما يتجاوزه التاريخ الخالف ويبين أنه كان خطأ. لذلك فالأعجاز العلمي لا يفيد القرآن ولا يدل على عظمته بل هو ينفيها عنه لمجرد كون العلوم تاريخية والقرآن سرمدي وليس تاريخيا. لذلك أرفض هذه الرؤية.
    ماذا تقول آل عمران 7؟
    هي تشير إلى أهم ثورة أبستمولوجية (نظرية المعرفة) أعني أن الوجود فيه ما هو قابل للعلم الإنساني وما ليس بقابل له لأن العلم المحيط ليس في متناوله وهو شرط العلم المطلق الذي لا يبقى أمامه غيب محجوب. وهذه خاصية لا تتوفر في غير علم علام الغيوب اي الله سبحانه.
    ماذا فعل علماء الملة؟ قلبوا الآية السابعة من آل عمران واعتبروا تأويل الراسخين في العلم قابلا للعطف على تأويل الله أي إنه مثله لا تخفى عنه خافية وحللوا تأويل المتشابه. وهذا هو أصل كل تحريف. فالقرآن إذا أخذ من دون المدخل الذي أمر به (فصلت 53) كله متشابه. والمحكم فيه يتعلق بما وضعه من مبادئ لفهمه.
    وهذه مناسبة لبيان الحد الفاصل بين المتشابه والمحكم: وهو حد اعتبر نفسي -ولا فخر-واضعه في تاريخ فكر الأمة وأعلن عنه اليوم للمرة الأولى. فقول القرآن إنه كله متشابه نص قرآني. وقول القرآن إن منه آيات محكمات نص قرآني كذلك. فكيف يمكن الفصل في هذه الحالة في ما يبدو وكأنه تناقض؟
    لا بد أن يكون للقرآن هنا معنيان أو مستويان من جنس اللغة وما بعدها. فلما يتكلم القرآن على غيره يكون القرآن نظام رموز ترمز إلى مرجعية هي غيره. وهو عندئذ لا يمكن أن يفهم إلا في ضوء المرجعية الخارجية التي تختلف عن النص القرآني وذلك هو مجال المتشابه لان الظاهرات متعددة الدلالات والبحث العلمي وظيفته تحديدها بالاجتهاد النظري والجهاد التجريبي. وذلك هو مدلول فصلت 53. ولكن عندما يتكلم على نفسه كما في حالتي قوله إنه كله متشابه وإن بعضه معكم فالمرجعية هنا هي هو. وذلك هو المحكم.
    وإذن فالمحكم الوحيد في القرآن هو كلامه على نفسه حيث يكون هو مرجعية ذاته فيكون قوله محكما لأنه يتضمن دليل ذاته. فتكون ذاته معيار فهم قراءته. لكن عندما يكون كلامه على غيره فمعيار قراءته هو مرجعيته أي موضوعه متشعب الدلالات. وذلك هو معنى آيات الآفاق والأنفس. وحينئذ لا يعلم موضوعه من تأويل آياته بل من ذاته علما يكون دائما جزئيا لأن الشاهد منه لا يكفي لعلمه علما مطلقا وذلك هو بعد الغيب فيه. أما فهم كلام القرآن على ذاته فليس فيه غيب لأنه رسالة ومن شروط كونها رسالة أن تكون قابلة للفهم الناجز من المرسل إليه. وكلامه عن ذاته هو تعريفها أو تحديد مناهج فهمه.
    والمحكمات هن أم الكتاب لأنها هي التي توجه المرسل إليه في أمرين هما مضمون الرسالة:
  7. تذكير الإنسان بما هو مرسوم في فطرة الله التي فطره عليها ونسيه ومن ثم فالتعليم الديني ليس تقديما لمعرفة جديدة بل هو تفعيل معرفة نسيت.
  8. الإرشاد في كيفية قراءة الرسالة واستعمال توجيهها له حتى يحقق مهمتيه أي التعمير والاستخلاف.
    وفقد زال ما يبدوا تناقضا بين قول القرآن كله متشابه والقرآن فيه محكمات. فالتوجيهات محكمات وهي خطاب ما بعدي أو ميتالسان. وما تشير إليه التوجيهات هو آيات الله في الآفاق وفي الانفس وهي مادة البحث ا لعلمي الاجتهادي دون تأويل يستثني ما فيها من غيب.
    والآيات التوجيهية أو المحكمات هي التي تميز بين أمر فصلت 53 ونهي آل عمران فالقرآن محكم في تحديد ذاته بوصفه رسالة من الله وبوصف هذه الرسالة للتذكير بما يوجد في ما فطر عليه الإنسان لأنها لتذكيره بما فطر عليه ثم في تحديد كيفية فهمه وتطبيقه في مهمتي الإنسان: التعمير والاستخلاف.
    وأخيرا فما يقوم به الاستاذ جرار يبقى مفيدا على أن يكون لفهم بنية القرآن من حيث هو نص وعمارته الرياضية. وهذا ليس بحثا في المعرفة بل هو يشبه تحليل عمل فني جمالي أو لوحة رسم عندما نكتشف فيها البنى الرياضية التي تعلل ما فيه من فن. فما الفن في هذه الحالة إلا أثر البنى الرياضية التي توجد في أي عمل فني وتلك هي قيمته الـجمالية التي تختلف عن اداة قول الـحقيقة العلمية.

يقوم على الموقع عاصم أشرف خضر مع مجموعة من طلاب الأستاذ ومتابعيه.
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي