اصلاح الدولة، شرطه نظرية في الانتاجين الاقتصادي والثقافي – الفصل الرابع

**** اصلاح الدولة شرطه نظرية في الانتاجين الاقتصادي والثقافي

ما يسعدني حقا هو أن ابن خلدون بنى المقدمة على هذه العلاقة بين المصدر الاول لكل اقتصاد والمصدر الاول لكل ثقافة وما بينهما من علاقة تواشجية إلى حد التطابق بين الفعلي والرمزي. فبابها الأول هو أساس الابواب الخمسة الباقية بهما وبما بينهما من تفاعل تبادليا وتواصليا وهو إذن أساس ثورته. والمذهل في هذا الباب الجامع بين العامل المادي والعامل الرمزي في الوجود الإنساني باعتبار المادي مصدر الاقتصادي الاول بمفعول الرمزي والرمزي مصدر الثقافي الاول بمفعول المادي يعتبر مفعول الرمزي معبرا عن الخوف من المستقبل وعيا روحيا في صلة بالعامل المادي الذي هو مصدر القيام العضوي. والعامل المادي الاول هو ثروات الطبيعة والمناخ والعامل الرمزي الأول هو التراث الديني الطبيعي والمنزل ومنه الكهانة والعلوم الزائفة لتوقع المستقبل بداية وما يماثلها غاية عند التمكن من علوم تستطيع توقع المستقل فيكون التوالج بين المادي والرمزي في العالم مناظرين لهما في الإنسان نفسه. ومعنى ذلك أن حاجات الإنسان مادية وروحية وسدها موجود في المكان الطبيعي (الجغرافيا) وما بعده (الثقافة الأولى او الأديان) وفي الزمان الطبيعي (التاريخ) مابعده (الثقافة الثانية أو العلوم والفلسفات) والسد يكون بتفاعل الإنسان مع المكان والزمان مصدرا لقيامه ومع ما بعدهما لمعانيه وقيمه. وهذا المسار هو التفاعل بين المادي والرمزي لتكوين نحل العيش التي تنتقل من البداوة إلى الحضارة في مراحل خمس: 1. العمران البدوي 2. نشأة الدول 3. المدينة 4. نحل العيش الصناعية 5. الثقافة العلمية. والقلب هو المدينة التي هي وسط بين نحل العيش التي تغلب عليها البداوة والتي تغلب عليها الحضارة ولا يعني ذلك أن المسار ذو اتجاه واحد بمعنى أن التالي يلغي المقدم بل إن المسار مضاعف فهو ذهابا من المادي إلى الرمزي وإيابا من الرمزي إلى المادي والتوازن بينهما هو المدينة فتكون الأبواب الخمسة خاضعة لمبادئ الباب الاول: بين المدينة (4) العمران البدوي (2) نجد الدولة (3). وبين المدينة (4) وباب العلوم (6) نجد الصناعات (5) والمدينة قلب يحول البدوي إلى حضري صعودا والحضري إلى بدوي نزولا في سلم اعتماد الإنسان على انتاج شروط قيامه الاقتصادية والثقافية. فتكون نحل العيش في البداوة معتمدة على انتاج الطبيعة خاصة وتكون في الحضارة معتمدة على إنتاج الثقافة خاصة. ومن هنا استمد ابن خلدون نظريته في القيمة الاقتصادية للبضائع والخدمات: يقيسها بكمية العمل الضروري لتحصيلهما. فمن الجني والرعي والزراعة والتجارة في المنتج الطبيعي إلى الصناعة والتجارة في المنتج الصناعي يتكثف دور العمل في المنتج فتكون الأسعار متناسبة مع كمية العمل الضروري للمنتج. ورغم أن ابن خلدون سمى النوع الثاني من العمران بالحضري نسبة إلى الحواضر أو المدن فإن المدينة في الحقيقة هي بين بين لأنها هي معمل التحضير أو معمل النقلة من البدوي إلى الحضري وهي دائما وسطها حضري وما حوله بدوي ومن ثم فلا يمكن أن تخلو مدينة من محيط قصديري وسيط بينها وبين البداوة. والملاحظة الاخيرة حول دور مقدمة ابن خلدون تتعلق بأهم ما في إبداعه من حدس عجيب: فهو يميز بين نوعين من الرمز. الرمز في العمران البدوي يتعلق بالغيب القريب من السحر خاصة التوقع خوفا عن الحماية والرعاية والرمز في العمران الحضري يتعلق ببديل منه أي الرمز العلمي القريب من التقنية فيبدو العمران البدوي قريبا من العضوية في البعد المادي من نحلة عيشه وقريبا من الروحية في البعد الرمزي من نحلة عيشه بخلاف العمران الحضري الذي هو قريب من الروحية في البعد المادي من نحلة عيشه ومن المادية في البعد الروحي من البعد الرمزي من نحلة عيشه. ولتيسير فهم هذا التعاكس بين أنواع نحل العيش في البداوة والحضارة لا بد من ضرب مثالين: البدوي تهمه المائدة والسرير الحضري يهمه فن المائدة وفن السرير. والبدوي خاضع للمادي الطبيعي ويتحرر منها بما بعده (الروحي الخيالي) والحضري خاضع للرمزي الثقافي ويتحرر منه بما بعده (المادي الفعلي). ولعل افضل مثال يوضح ذلك هو سلوك السائح الغربي في العالم الثالث: هو يبحث عن العلاقة المباشرة بالطبيعة مائدة وسريرا وغابات وحيوانات ليتحرر من الحضارة التي ابتعدت عن ذلك كله وصارت شبه حجاب بينه وبين الطبيعة والحياة البسيطة للبداوة. وحتى الحضارات فهو يفضل أقدمها. وختاما لهذا الاستطراد الخلدوني الممهد لدراسة نظرية الاقتصاد المتحرر من دين العجل ينبغي أن أقول إن البدوي يشرئب للحضارة والحضري يشرئب للبداوة. فالأول يتمنى الانتقال من ملاصقة الطبيعة إلى التحرر منها والثاني يتمنى الانتقال من ملاصفة الحضارة إلى التحرر منها لكن الهجرة الأولى أبرز. لكن القانون يبقى صحيحا وعلة بروز الهجرة من البداوة إلى الحضارة أبرز علة كمية: ذلك أن الهجرة من الحضارة إلى البداوة لا يتمكن منها إلا الأغنياء وهم قلة. أما الهجرة من البداوة إلى الحضارة فهي في مستطاع الكثرة لأنها مطلب الفقراء. الغني يهاجر ليجمع بين الامرين. وهو يجمع لأن له في ذاته الحضارة ويريد البداوة في محيطه والفقير له في ذاته البداوة ويريد الحضارة في محطيه. والفرق الوحيد كمي: فالفقراء هم الاغلبية والأغنياء هم الاقلية وهم يصلون إلى الهدف وصولا أيسر لأنه يأتي بالحضارة معه ويستفيد من البداوة كأن ينتقل برجوازي إلى المغرب مثلا. لكن المغربي الفقير لما ينتقل إلى فرنسا مثلا لا يصبح برجوازيا رغم أن حلمه هو ذاك لكنه يتمتع ببعض ما يوفره البرجوازي في بلاده ولو عن طريق مجرد الفرجة. فالصعيدي لما يذهب إلى القاهرة يبقى صعيديا في باطنه لكنه يستمتع بما في القاهرة ولو بالفرجة. وهذا القانون مهم في الاقتصاد والثقافة والان سأبدل المسراع لأدخل مجاهل الاقتصاد وهي وعرة آملا أن يصبر القارئ على تعرجات الطريق الموصلة إلى فهم علل التحريف فيه وكيفية تجاوزها تجاوزا يتجنب سذاجة ما يسمى بالاقتصاد الإسلامي الذي هو رؤية ترقيعية لعلها أكثر ربوية من الاقتصاد الربوي العادي من جنس تحيل الكهنوت. يوجد مثل على هذا التحيل في نظام الأكل عند الكهنوت الكاثوليكي: يحرم عليهم أكل اللحم يوم الجمعة. فماذا يفعل الكهنوتي؟ نعلم أن لهم ما يسمى بإطلاق اسم التعميد على الاطفال. يستعمل هذه الوظيفة فيسمي الحكم نوعا من السمك ويأكله مطمئنا إلى احترام عقيدته بهذه الحلية Je te baptise carpe. أتمنى من القارئ أن يكون دقيق الملاحظة حتى يصل بين العناصر الضرورية لفهم تعقيدات الاقتصادي بسبب ما له من صلة بالثقافي قبلية وبعديه: فبلية الاقتصاد ممتنع من دون البحث العلمي وتطبيقاته وهو ثقافي شرط وجود وبعدية الاقتصاد يكسد من دون التسويق وهو ثقافي شرط نفاق. ومن ثم فالمشكل عويص وهو اعوص في المجتمعات العربية التي ليس لها اقتصاد في الحقيقة لأن البعد القبلي من الثقافي فيه شبه منعدم والبعد البعدي من الثقافي فيه مستورد مثل الاقتصادي ومن ثم فهو غني عن التسويق العربي بين العرب لأنهم طالبوه لحاجة ومفروض عليهم لعلة وخارج بلادهم نفاقه غني عن رأيهم فيه. ذلك أن الجميع يعلم أن المحمي ليس له خيار في اشتراء ما يريد بل هو يشتري ما يفرض عليه حتى ينال رضا حاميه. مثال ذلك أن السيارات الفرنسية محمية في تونس أكثر مما هي محمية في فرنسا. ومعنى ذلك أن الفرنسي حر في أن يشتري حتى كوري. والتونسي شبه مرغم لاشتراء المنتج الفرنسي. وهذا يصح خاصة في ما له دلالة رمزية كبرى: ففي المغرب العربي الفرنسة كلغة مفروضة لأن الحكام ونخبهم لا يستطيعون إغضاب فرنسا ومن ثم فالفرنسي صار أميل لتعلم الإنجليزية من التونسي أو الجزائري أو المغربي الذي يفرض عليه نظام التعليم الرسمي تقديم الفرنسية حتى على العربية لماذا هذه الامثلة؟ حتى يعلم القارئ أن الاقتصاد ليس بمعزل عن السياسية وخاصة عن علاقات القوة بين الأمم والدول. ولولا ذلك لما احتاجت أمريكا لكل هذه الاساطيل. الهدف هو حماية سلطانها الاقتصادي وفرض إرادتها ليس بمنطق التنافس الحر كما يزعمون بل بمنطق علاقة القوة بين الدول والشعوب. وأفضل مثال يبين ذلك هو صراحة ترومب الذي يقول للخليجيين وجودكم كدول «يقصد كمحميات” تدينون به لنا كحماة لعروشكم فإن لم تشتروا منا بالسعر الذي نفرضه ولم تبيعونا بالسعر الذي نفرضه فستتساقط عروشكم. ونفس الشيء تقوله فرنسا لنا في المغرب العربي وإن كان بأقل “بجاحة=قباحة” من ترومب.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي