**** اصلاح الدولة شرطه نظرية في الانتاجين الاقتصادي والثقافي
كيف يمكن أن اعتبر الأسرة التي هي الحد الادنى من الجماعة سوقا اقتصادية وثقافية أي إنها تتأسس على التبادل والتواصل؟ وهل التبادل فيها مبني على تقسيم أعمال يقتضيه التعاون؟ وهل التعاون فيها فيه تعاوض؟ وهل التعاوض عادل؟ وهل هو أمين؟ بمعنى جمعا للأمرين الأخيرين فيه حكم؟ ونفس الأسئلة التي تتعلق بالتبادل تطرح بخصوص التواصل ما تعلق منه بالتبادل وأسئلته وما تعلق بالتواصل لذاته من حيث هو متعلق بالثقافي لذاته ولعلاقته بالتبادل. وبعبارة أخرى هل للأسرة دور في العلاقة العمودية بين الإنسان والطبيعة وفي العلاقة الافقية بين الإنسان والتاريخ لتكون سوقا؟ والمقصود بالسوق هو مجال التبادل والتواصل الذي يعني التفاوض بين طرفين مرتبين بعقد ضمني هو الوازع الباطني الذي يجعل كلا طرفي التفاوض ملتزما بالأمانة والعدل تحت سقف الوازعين الذاتي (الضمير الخلقي) والخارجي (القانون شرعيا كان او وضعيا). والقرآن يعتبر المعاملات خاضعة لهذا التصور. كلمة السوق لا تستعمل هنا في ابتذالها بل هي تعني التعامل الحي في التبادل والتواصل. وكل القيم المستعملة حتى في التبادل والتواصل بين الإنسان وربه قيم لها دلالة تعامل حي فيه أخذ وعطاء. والاسرة كما سنرى فيها التبادل والتواصل والاخذ والعطاء وخاصة إذا توفرت فيها الحريتان. ثم إن الأسرة ليست سوقا فحسب بل هي منبر حوار بين عناصرها المقومة (الزوج والزوجة والأبناء والحي من الجدود والقريب من الأهل) حول الاسواق الاربعة الاخرى لأن حياة الأسرة المادية والرمزية هي مصب كل ما يصدر عنها ومنبع كل ما يضاف إليها من ثمرات إبداع من تكونهم الاسرة من الأجيال. الأسرة هي كل المجتمع مصغر بل هي كل الإنسانية مصغرة وخاصة الأسرة التي يكون فيها الاب والأم حاصلين على القدر الكافي من الثقافة عامة ومن شروط التربية السليمة للأبناء خاصة. فنسبتها إلى الانسانية تشبه نسبة الخارطة إلى العالم ونسبة الموسوعة إلى التاريخ في كل مجالات الحياة. لا يمكن الكلام على الأسرة من حيث هي سوق وقيسها على الإنسانية من نفي الحيث فتكون النسبة بينهما عين النسبة بين نوعين من السوق إلا إذا بينا أن السوق الصغرى بخلاف السوق الكبرى بداية ومن ثم فشروطها التعاقدية حاصلة من البداية وفي حين أن الكبرى تصل إلى ذلك في الغاية. فالتعاقد في الأسرة هو أساس تكوينها لأنها كما بينا في شرح سورة النساء هي تابعة لمستوى السلوك الاختياري بخلاف الإنسانية أساس تكوينها عضوي وليس اختياري وهي الاخوة الإنسانية التي بدايتها عضوية وغايتها خلقية عندم يدرك البشر أنهم أخوة وهذا أمر عسير لا يحصل إلا في غاية التطور الخلقي. فالرحم الأسري رحم اختياري يحصل باللقاء بين شخصين حرين روحيا وسياسيا وهما شرطا التعاقد (الزواج في الإسلام عقد بين ذاتين حتى وإن كان للأسرتين الأصل دور في ذلك لعلتين: الاقتصادي والثقافي محددي مستويات الأسر في سلم المنازل الاجتماعية) وفرصة اللقاء بين الذاتين مرتبطة بهما. أما الرحم الكلي فهو ليس اختياريا لأننا كلنا من نفس واحدة بمعنى أن الانتساب إلى النوع الإنساني ليس خيارا على الاقل خلقيا إذ يمكن للمنتسب إلى الإنسانية عضويا ألا يكون خلقيا إنسانا فاستحوانه في النظام الثيوقراطي والأنثروبوقراطي العجليين يلغي حريتيه وهما أساس الخلقي منه. ففساد الاقتصادي والثقافي أو البعد المادي والبعد الرمزي من كيان الإنسان علته الاستحوان كما بين ابن خلدون في كلامه على فساد معاني الإنسانية بسبب العنف في التربية وفي الحكم وهما بعدا السياسي عامة في أنظمة الحكم الثيوقراطي والانثروبوقراطي المخفيين للابيسيوقراطية أصل الاستحوان. والاستحوان أي رد الإنسان إلى الحيوانية بتجريده مما يسمو به كيانه عن حيوانه أعني الحرية الروحية كفرد والحرية السياسية كفرد من جماعة الاحرار ورحيا (مضمون سورة العصر أي يؤمن ويعمل صالحا كفرد ثم مع من هم مثله يتواصى بالحق في النظر والعقد ويتواصى بالصبر في العمل والشرع). وإذن فأدواء الأسرة والمؤسسة الاقتصادية المفردة ووحدة المؤسسات الاقتصادية في القطاع الواحد ووحدة كل القطاعات في الجماعة الواحدة والدولة والإنسانية كلها تفسد بمجرد أن يستحون الإنسان بسبب تحول العملة إلى أداة سلطان للوصاية (الحكم) والكلمة إلى أداة سلطان الوساطة (التربية). وهذان هما بعدا العجل معدنه الذهب اساس الوصاية (العملة أو رمز الفعل) وصوته خوار أساس الوساطة (الكلمة فعل الرمز) وهما خفيان في الثيوقراطيا (الحكم والتربية باسم الله) وفي الانثروبوقراطيا (الحكم والتربية باسم الإنسان) وكلاهما خداع وتنكر لأن الحكم والتربية الواقعين بالفعل بالرمزين. ومنهما جاء المنطق الجدلي الذي يعتبر قانون التاريخ وقانون الطبيعة وبالجملة قانون الوجود هو الصراع بين النقيضين والقائل بمكر التاريخ: مكر التاريخ من فعل الرمز (سلطان الخوار الايديولوجيا) وصراع النقيضين من رمز الفعل (سلطان المعدن أو الأوليغارشية). وعمم فوصل إلى الاسرة. نعود الآن إلى الأسرة: هل فيها تقسيم للعمل؟ هل هذا التقسيم ثابت أم متغير تطورا إلى الأحسن أو نكوصا إلى الاقبح؟ وما المتبادل في التبادل الذي ينتج عن تقسيم العمل إن وجد؟ وهل هذا التقسيم من بنود العقد الصريحة أم هو ضمني لظنه طبيعيا وليس تعاقديا خلطا بين العضوي والخلقي في اللقاء؟ فلا يمكن الخلط بين ما هو طبيعي في تقسم العمل لأن للأنثى البيضة وللذكر الحيوان المنوي وهذا ثابت لا يتغير حتى لو أدخلنا التقنيات الحديثة بالتوليد الاصطناعي لأن البويضة لا تنتجها إلا الانثى والحيوان لا ينتجه إلا الذكر حتى لو لم يكن الزوج كما في زرع الحيوان أو البويضة بعمل طبي. صحيح أن هذا التخصص كان أشمل لان الجنين بدأ حمله يخف عن الأنثى لأن الحضانة بعضها صار يقع خارج بطنها كما في حالة المواليد قبل اكتمال الجنين الشهور التسعة المعتادة. والرضاعة من الأم تكاد تكون قد زالت ومع ذلك يبقى من العسير الاستغناء عن دور الام حتى وهي مثقلة بما كان للرجال. لكن كلامي لن يتعلق بهذه البديهيات التي ليس من الصعب التمييز فيها بين ما هو طبيعي ثابت وما هو ثقافي قيس على الطبيعي وهو محل الصراع بين الزوجين في غالب الاحيان أو بصورة أدق هو مجال النزعة النسوية التي هي رد فعل على نزعة ذكورية هي علة الخلط بين الطبيعي والثقافي في العلاقة. وسأبين هنا أن كل ما حصل في هذه الإشكالية مناف للقرآن أولا وللتحليل العقلي الهادئ ثانيا إذا نحن حافظنا على ما يمكن أن يرد إلى ما في الثقافي من الطبيعي القابل للتطور والمتمثل في ما في الإنسان بمقتضى طبيعته أو بمقتضى ما فطر عليه من قيم تجعل حيوانيته الأرقى في الكائنات الحية. وأولى هذه القيم هي أن اللقاء بين الجنسين لقاء حر واختياري من حيث المبدأ (طبعا قد يفرض على الإنسان الزواج دون اختيار وخاصة إذا كان تابعا وهو ما يكاد يكون وضعية المرأة المستضعفة لكنه يحصل للرجال كذلك ومن ثم فالأمر لا يتعلق بالجنس بل بالاستضعاف).وهذا يختص به الإنسان بفطرته. ولما كان اللقاء اختياريا فلا بد أن يكون للاختيار معايير فهو اختيار لكنه ليس اعتباطيا. والمعايير هي بقية القيم: أي قيم المعرفة (الحق بدل الباطل) وقيمة العمل (الخير بدل الشر) وقيمة الذوق (الجمال بدل القبح وقيمة التعالي (الجليل بدل الذليل). وهذه هي محددات اللقاء وهي ضمنية في العقد. وكونها ضمنية لا يعني أنها من المسكوت عنه والمجهول بل لأنها تعتبر بدهية من جنس بدهية أن المتعاقدين من الجنسين يبغيان تكوين اسرة وليس الاشباع الجنسي وحده لأن هذا ممكن من دون اللقاء أو بلقاء مثلي ومن ثم فالأسرة أكثر من اللقاء الجنسي وإن كان أساسيا فيها (العلاقة بقيمة الذوق). والمشكل كل المشكل في الاسرة هي هذا الجمع بين القيم الخمس: 1. القيمة الاصلية أو الحرية (لأنها تعاقدية) ويتفرع عنها أن الحر لا بد أن يكون: 2. طالب حق 3. وطالب خير 4. وطالب جمال 5. وطالب جليل. ومن ثم فهو رافض: • باطل • وشر • وقبح • وذليل. وتلك هي مقومات الخلقي في الإنسان بجنسيه. لا أريد أن أطيل في شرح ذلك من عندي بل أطلب من كل قارئ أن يعود لسورة النساء ويقرأها في ضوء هذه العناصر التي استنتجتها من مفهوم الأسرة وسيرى أنها لحمة الكلام فيها وسداه حول الاسرة والعلاقة بين الزوجين وأن كل ما يبدو مناقضا للعدل فيها علته تحريف علوم الملة وليس القرآن. وإذا فهم القرآن فهما متحررا من تحريف علوم الملة الذي أوفيناه درسا فإن كل ما نسب إلى الرسول في مجال العلاقة بين الزوجين لا ينسجم مع هذه المقومات هو من الكذب عليه وليس مما قال لأن ما قاله الرسول يصدقه أمران: سلوكه مع النساء واستحالة أن يناقض الرسول الرسالة التي بلغها.