اصلاح الدولة، شرطه نظرية في الانتاجين الاقتصادي والثقافي – الفصل الثالث/القسم الرابع

**** اصلاح الدولة شرطه نظرية في الانتاجين الاقتصادي والثقافي

وصلنا الآن إلى قلب المعادلة في هذا الفصل الثالث المتعلق بمقارنة المؤسسة الاقتصادية المفردة والعولمة الاقتصادية من حيث شروط عملها. ذلك أن هذه المقارنة تبين أن مجراهما الظاهر هو الخضوع لمنطق الجدل لكنها في الحقيقة ليست كذلك في مستوى أي من مقوماتها الخمسة التي وصفنا بدقة سابقا. صحيح أنها جميعا تنافسية لكن تنافسها هو من جنس ما يسميه القرآن التسابق في الخيرات وليس التصادم بالمعنى الهيجلي إلا إذا اعتبرنا انحرافها هو قانونها. نعم انحرافها يجعلها حقيقة جدلية أي إنها تنتقل من التسابق في الخيرات لسد الحاجات إلى التخادع في الصراعات لأنها تقدم العاجل على الاجل. وفي هذه الحالة فالأضرار لا تبرز للعيان إلا في التاريخ المديد لأن تراكم تسبيق العاجل على الأجل علة التحيل يؤدي في التاريخ المديد إلى نتائج شديدة الوخامة على الإنسان ومحيطة وقد يكون أبرزها حاليا نضوب الثروات التي تتجدد في المديد والتلوث وفناء الانواع النباتية والحيوانية والثقافية. وسآخذ مقومات فعل الإنتاج المادي أو الثقافي من حيث هو عملية اقتصادية وظيفتها سد حاجة مادية أو روحية لنرى كيف تبدو جدلية وخاصة عندما تحرف وهي في الحقيقة لا يمكن أن تكون كذلك بالجوهر. ولنبدأ بالفكرة. أليس بين أصحاب الأفكار القابلة للترجمة إلى منتج يسد حاجة مادية أو روحية متنافسة؟ علة هذا الظن هي الخلط بين الأفكار وإبداعها وبين ترجمتها الى منتج. فالتنافس على الأفكار لا يكون إلا تسابقا في الخيرات إذ إن إبداع الفكرة التي تقبل الترجمة إلى “صناعة” منتجة عملية تنتسب إلى البحث العلمي الأساسي الذي ينقل إلى التطبيق. وهذا لإن وجد فيه صدام فهو لإخفائه وليس لإبداعه. فيكون الجدلي فيه هو سلبه وليس إيجابه بمعنى أنه لإيقافه وليس لتقدمه ولما كان التقدم في البحث العلمي لا يمكن إيقافه لأنه بالجوهر متعدد وهو حصيلة مسار شبه محتوم لأن العلم بنيوي بالجوهر لأنه نسقي والاكتشاف فيه هو بالأساس إدراك ثغرات النسق بتجليها في نتائجه وبعلاجها في مراجعة أسسه. وذلك ما يعلل استحالة تعطيله ويعلل كذلك تعدد نفس الاكتشاف في مؤسسات بحثية متعددة وأحيانا في نفس الوقت من جهات مختلفة تبحث في ذلك المجال استنادا إلى نسق العلم في الاختصاص. فالاكتشافات رغم أنها لا تخلو مما يشبه الوحي هي دائما تتجلى في النسق العام للاختصاص كثغرات توحي بفرضيات علمية. وإذن وهذا هو المهم الدينامية الاكتشافية في العلوم دينامية تعاونية بين المتعاصرين وبينهم وبين من تقدم عليهم في الاختصاص منذ نشأته ومن ثم فهو بالضرورة ذو نسقية بنيوية وتاريخية. وما يولد مناسبات الفرضيات الجديدة من طبيعتين مختلفتين: 1. ثغرات النسق منطقية 2. علاقته بموضوعه تجريبية والعاملان المنطقي والتجريبي لا يقعان إلا بالتعاون. صحيح أن البحث العلمي فيه أسرار وخاصة ما يتعلق منه بالاقتصاد وبالدفاع. لكن إذا وجدت مؤسسات متماثلة فيهما فهذا السر الصناعي في تطبيق العلوم لعلاج متطلبات الاقتصاد والدفاع لا يدون طويلا لأن المآلات متقاربة بسبب وحدة البحث الأساسي. وهذا يلغي إحدى الأكاذيب الإيديولوجية التي تدعي أن العولمة أمر يفرضه الاستعمار. هي أمر ينتج حتما عن علتين بينتين: وحدة العلوم الأساسية ووحدة الحاجة الإنسانية. والوصل بينهما يمكن أن يختلف بحسب الثقافات من حيث الأساليب والأشكال لكنه واحد من طبيعة سد الحاجات الواحدة بتطبيقات العلوم. والعلوم الأساسية كونية وهي إنسانية بالجوهر وليس تابعة لحضارة دون حضارة من أدناها إلى أسماها وغالبها كان لا شخصي أي إنه لم يكن يعتبر مادة للتنافس أو للصراع لأنه كان يتعلق بالطرق الأولى للعلاقتين العمودية مع الطبيعة شرط حياة والأفقية مع الإنسان شرط تعايش. أمر الآن إلى المقوم الثاني وهو الاستثمار في ترجمة الافكار بتطبيقها في عمليات إنتاج يسد الحاجات بالعضوية والروحية في الجماعة البشرية. وهذا موجود حتى قبل التوزيع المعقد للعمل في الجماعة حيث كان الأسرة تسد كل الحاجات فتقلل من تقسيم العمل في الجماعة لكأن الأسرة مكتفية بذاتها. وبمجرد أن تعددت الجماعات تعاونت في مستوى التبادل والتواصل وكان أولهما هما توسيع التزاوج الخارجي والتبادل الاقتصادي ثم بالتدريج عولجت مشكلة تيسير التبادل بالانتقال من المقايضة إلى استعمال العملة واكتشاف الكتابة التي تيسير التواصل كما تيسر العملة التبادل برمزها دون حضور الشيء. والعملة هي بدورها صارت مثل الكلمة لها كتابة تغني عن تبادلهما الحي: فالصك عملة مكتوبة تغني عن استعمال العملة النقدية والكتابة كلمة مكتوبة تغني عن استعمال الكلمة الحية. وهذا مبني على مبدأ التعاون والثقة المتبادلة وليس على مبدأ الصراع والتوجس المتبادل. ظاهر الواقع ليس واقع الحقيقة. وقد يظن الكثير أنه في مرحلة المقايضة لم يكن للعملة وجود. نعم لم يكن لها تعين مادي صار اساس للتبادل يغني عن التبادل المباشر لأعيان البضائع والخدمات لكن لا بد أن يكون بين البضائع فروقا في القيمة. فكان أول شيء هو الوجود الذهني لما يؤدي وظيفة العملة ليؤدي وظيفة حمل القيم الاقتصادية. ولا بد أن يكون ذلك هو النسب الكمية بين البضائع والخدمات وشرط هذه النسب الكمية هو أدوات القيس والوزن والكيل إلخ وهي جميعا تؤدي وظيفة الميزان كأن نقول كلغم القمح يساوي 3 كلم الشعير إلخ.. أو لتر الزيتونة يساوي 5 لتر من الماء أو كلغ العسل يساوي 3 كلم الزبدة إلخ.. وهذا يعني أن الخلاف لاحق وليس سابق وهو ينتج عن عدم احترام هذه المعايير المشتركة (التطفيف كيلا واكتيالا مثلا) وليس لان العلاقة بين الناس بالجوهر علاقة تصادمية. بل هي تصبح تصادمية عندما لا يحترم الناس الأساس الذي هو ليس تصادميا لأن التصادم نفسه يتحدد به بوصفه معيار لتحديد علله. ومرة أخرى لا يمكن أن يصدق الإنسان أن العلاقة سيد عبد أصلية ذلك أنها تنفي ذاتها لأن العلاقة ليست بين شخصين بل هي علاقة بين السادة والعبيد. إذا صحت النظرية بين عبد وسيد فكيف تصح بين سيد وسيد وبين عبد وعبد؟ فلا يوجد سيد واحد ولا يوجد عبد واحد بل حلف بين السادة وحلف بين العبيد. فكيف نفهم العلاقة بين السادة. أم ليس بينهم علاقة. وكيف نفهم العلاقة بين العبيد أم ليس لهم علاقة بينهم؟ وكل مبدأ ليس قابلا للدلالة الكلية ليس مبدأ في المعرفة العلمية. لذلك فلأتكلم الآن على الاستثمار سواء كنا في لحظة الاسرة قبل التوسع إلى الأسرة الكبرى (القبيلة مثلا) أو بعدها. ففي الأسرة الواحدة حتى وهي مكتفية بنفسها دون توزيع لعمل يحوجها إلى غيرها فإن فيها في داخلها توزيعا أوليا للعمل على الاقل بين الأم والاب. والافطار المبدعة لما يسد الحاجات تأتي من الأم أو من الأب وحتى لو تصورنا صاحب الفكرة والمستثمر واحدا الأم أو الاب فإن المعنيين مختلفان. فلنفرض أن صاحب الفكرة هو الأب وهو صاحب الثروة القرار في إدارة شؤون الأسرى والتخطيط لمستقبلها فهو سيقرر الاستثمار في تلك الفكرة والعكس بالعكس أو يمكن أن يكون صاحب الفكر أحد الزوجين وصاحب الاستثمار الثاني. المهم أن هذه الوظيفة في العلمية الانتاجية حتمية قبل تقسيم العمل المعقد. ولا بد للأسرة من تمويل لهذا الاستثمار وهو يكون إما من ملكية الاب أو من ملكية الأم على الاقل عند المسلمين لأن للمرأة حق الملكية الخاصة وهو أكبر دليل على أنها ذات اقتصادية وسياسية للترابط بين الأمرين ولنظرية الفرائض في ذلك الدليل القاطع وإلا لجمدت ثروتها إن لم تشارك في الأعمال. ورأينا أن المشاركة في الأعمال من أهم عناصر السياسي أو هي على الاقل أحوج شيء إلى المشاركة السياسية للدفاع عن الحقوق وللمشاركة في التشريع المتعلق بها حصولا على الحقوق وحسما للنزاعات المدنية. فيكون العنصر الثالث (التمويل) أيضا مبنيا على الثقة والتعاون وليس على الصدام والجدل. أما العمل المنتج وإدارته فلا يحتاجان إلى دليل على كونهما بنيويين وتعاونيين وليسا صراعين كما صار عليه الامر في النظرية الماركسية والفكر النقابي الغبي الذي يجعل مصلحة المؤسسة أقل شان يعنيه في حين أنه يعيش من ثمرتها وأنها إذا أفلست سيكون هو أكثر المتضررين لغبائه. ونفس ما قلته عن النقابة العمالية اقوله عن نقابة الأعراف. فغبن العامل حقه له ضرران ضد المؤسسة الاقتصادية. ضرر ينتج عن شعور الظلم عند العامل وضرر ينتج عن فقدان المستهلكين الممكنين لأن العمال إذا لم ينالوا حقوقهم لن يستطيعوا الاستهلاك فضلا عن العمل مع الشعور بالظلم. ومعنى ذلك أن جعل الجدل والصراع هو الأصل دليل عدم فهم. إنه التحريف وليس الأصل. وعندما يفهم العامل ورب العمل هذه الحقيقة يصبحان فاهمين للمصلحة المشتركة فيتخلصان من الصراع الذي هو نتيجة الجهل وعدم فهم مبدأ الانتاج الحقيقي أي التعاون والتبادل بالتعاوض العادل. ونصل الان إلى المقوم الأخير وهو جملة المقومات السابقة كلها: فكل من ذكرنا يشتركون في صفة واحدة وهي أنهم جميعا مستهلكون بمعنى أنهم في الحقيقة يخدمون أنفسهم ولا يعدمون غيرهم وهم يخدمون أنفسهم بالتعاون الذي يقتضي التبادل العادل والتواصل الصادق وكلاهما يناقضان مفهوم الصدام والجدل. كل ما قلناه عن المؤسسة الاقتصادية المفردة يقال عن الإنسانية كلها باعتبارها في الحقيقة تعاونا عادلا وتواصلا صادقا يمكن أن يعمر الأرض بقيم الاستخلاف. وما يحصل بالصراع الجدلي هو تحريف لهذه المعاني ونتيجته ما نراه في العولمة الحالية التي هي عجلية: سلطان المال والأيديولوجيا الأعمى.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي