**** اصلاح الدولة شرطه نظرية في الانتاجين الاقتصادي والثقافي
ما رأيناه في ما تقدم هو الطابع الدوري للعلاقة بين الانتاج المادي (الاقتصادي)والإنتاج الرمزي (الثقافة) ولا يمكن تصور أحدهما من دون الثاني فكل منهما شرط الثاني وعادة ما يكون المتشارطان طردا وعكسا كالأمر الواحد. ولهذه العلة من العسير ترتيب حجم دوريهما كل في الثانية وفي الدولة. فكل منهما يخترق الثاني على النحو التالي: فالاقتصادي ضروري لتمويل العمل الثقافي ليتحقق كيانه المنتج الذي لا يختلف عن كيان الاقتصادي. إنه كيان منتج لبضائع وخدمات ثقافية. وإذن فهو بدوره اقتصادي. والثقافي ضروري لتغذية الاقتصادي ثقافيا لتوجد صورته “الفكرية” وحتى مادة موضوعه. فالمنتج الاقتصادي سواء كان بضائع أو خدمات هو قبل أن يصبح مواد اقتصادية تتبادل لا بد أن يكون “فكرة” حول شيء يسد حاجة محددة إما بقيمة استعمالية أو بقيمة تبادلية تتحدد ثقافيا بحسب الحاجات التي تعينها العادات الثقافية سواء الداخلية أو الخارجية المتواسعة بتواسع السوق حتى تشمل العالم. لكن هذه الارضية المشتركة والتفاعل بين الاقتصادي والثقافي بوصفهما إنتاجين يتلاحم فيهما الرمزي الفكري والمادي الفعلي يمكن الرمز لهما من حيث شروط التبادل والتواصل حول هذين المستويين اللذين سمينا أولهما اقتصادا والثاني ثقافة بما أطلقت عليه رمز الفعل (العملة) وفعل الرمز (الكلمة). وهما العاملان الرمزيان اللذان يرد إليهما التداخل بين الاقتصادي والثقافي لأن رمز الفعل (العملة) هو في آن الفاعلية الاقصى والرمزية الأقصى لأنه بديل رمز لكل ما هو قابل لأن يسد حاجات الإنسان في الجماعة وحتى في العالم بفضل دوره في التبادل الذي ينتج عن كون سدها شرطه تعاون بتقسيم العمل. ولأن فعل الرمز (الكلمة) هو في آن الرمزية الاقصى والفاعلية الأقصى لأن بديل رمزي كل ما قابل لتحقيق التواصل في سد الحاجات سواء كانت مادية أو روحية في الجماعة وحتى في العالم بفضل دوره في التواصل الذي ينتج عن كون سدها شرطه التواصل للدراية بها وبشرط سدها التبادلي. فيكون هذان البعدان قابلين لأن يحرفا فيخرجا عن دورهما الذاتي وسيلة تبادل ووسيلة تواصل صادقتين إلى وسيلتي سلطة بين المتبادلين والمتواصلين لما فيهم من امكانية الخداع التبادلي والتواصلي. فيكونا أصل دين العجل الرمز الأول هو معدنه والرمز الثاني هو خواره: دين العجل يهدد التبادل والتواصل. يوجد التبادل والتواصل في سوقين متداخلتين سوق المنتج الاقتصادي في كيانه الذي يسد الحاجات المادية بمستويي قيمتها الاستعمالية والتبادلية وسوق ما يصبحه من تواصل حول حقيقة البضائع والخدمات ومناسبتها لما هي معتبرة جعلت لسد الحاجات ولما تسعر به من قيمة استعمالية وتبادلية في التنافس. وهذا التوالج البعدي بين الاقتصادي والثقافي يضاف إلى التوالج القبلي الذي درسناه في دور الاقتصادي لتمويل الجهاز المنتج للثقافي وتغذية الثقافي الاقتصادي بالأفكار المتعلقة بمادته وصورته لأن كل منتج اقتصادي هو تطبيق لفكرة أدركت العلاقة بين الحاجة وما يلزم لسدها فيتبادل بضاعة أو خدمة. وإذن فالاقتصادي والثقافي متلازمان قبليا وبعديا. فالتلازم القبلي شرط وجود والتلازم البعدي شرد نَفاق أو كساد في التسويق المتبادل بين الثقافي والاقتصادي. ومن لم يعتبر هذين الامرين في العلاقة بين الرمزين رمز التبادل (العملة)ورمز التواصل (الكلمة) لا يمكن أن يحدد شرط التحرر من العجل ولا بد هنا من استعمال مفهوم خلدوني ثوري مع توسيعه: فهو يعتبر الدولة السوق الكبرى لأنها هي مسرح التبادل والتواصل في الجماعة. والتوسيع هنا يتعلق بأن الجماعة لم تكن أبدا جماعة منحصرة في قوم بل هي مثل الدول لها وجهان داخلي وخارجي. فتكون السوق الكبرى متواسعة حتى صارت اليوم العالم كله. والتواسع ليس مكانيا فحسب بمعنى أن العالم اليوم صار سوقا واحدة بالمعنى الخلدوني للسوق الكبرى حصرا في التساوق بل هو كذلك تواسع زماني لأنه يشمل كل التاريخ الإنساني. فمثلا البضائع الاثرية من أهم المتبادلات وخاصة في ما يتعلق بالأشياء ذات الدلالة الروحية والجمالية والتذكارية. وفيها خاصة يتبين سر الفرق بين القيمة الاستعمالية والقيمة التبادلية في الاقتصاد بحيث إن هذه تفوق تلك رغم أنها لا تصلح للاستعمال الذي يسد حاجة عضوية بل هي تصلح لسد حاجة روحية. وإذن فالاقتصاد لا يتعلق بسد الحاجات المادية وحدها بل هو أيضا يتعلق بسد الحاجات الروحية: الفن أغلى من الغذاء. ومن علامات تقدم الرمزي على المادي في الاقتصادي وفي كل حياة البشر يتعلق بالبشر أنفسهم. فزينة المرأة قد تكون أغلى من المرأة نفسها ورمز القوة المادية قد يكون أفعل من القوة المادية ذاتها بحيث إن الرجل أرخص من رمز قوته. وهذه الظاهرة الثقافية أو الرمزية من معضلات الوجود الإنساني. ولذلك ففن المائدة أهم من المائدة وفن السرير أهم من السرير في وجدان الإنسان لأنه لا يأكل أكل الأنعام ولا يجانس مجانسة الحيوان. الذوق الغذائي والذوق الجنسي كلاهما الرمزي فيه أهم من الفعلي بل يمكن القول إن الفعلي فيه هو الرمزي وهو ليس مجرد إعداد للمادي الذي هو ضرورة عضوية. ولهذه المعنى علاقة وطيدة بما يسميه ابن خلدون “نحلة العيش”. فنحلة العيش مادية ورمزية ويمكن القول إن المادي فيها يتناقص بتزايد المرمز وهو ما يحدد سلم الترقي الحضاري في الجماعات البشرية. ويتبين ذلك خاصة في العمارة. فهي فن تشكل المكان الذي ينزل فيه الإنسان: جمال الفضاء محلا للوجود. وأخطر ما في هذه الظاهرة التي يتقدم فيها رمز الشيء عن الشيء أنها هي التي تيسر الخداع. فأغلب المتحيلين في الاقتصاد وفي الثقافة يعتمدون ذلك فتصبح مظاهر الثراء ومظاهر التراث بديلا من الثراء والتراث ذاتهما فالناس يكتفون بالظاهر وقلما تعنيهم الحقيقة Le paraitre et l’être. وهذه الظاهرة المتعلقة بالظاهر والحقيقة أو بالرمز والمرموز لا يقتصر على الاقتصادي فحسب بمعنى علاقة الثراء الفعلي ومظاهر الثراء بل هو يشمل المعرفي والروحي. ففي المعرفي العنوان الجامعي علامة كفاءة. لكنها في الغالب تخفي عدمها لأنها من جنس البضاعة الصينية.”د.”أمام الاسم غالبا كذبة. وفي الروحي صفة “حاج” في الغالب وخاصة في الأرياف عنوان غالبا ما هو عنوان تقوى كاذبة. حتى إن المثل في تونس يقول لوصف هذا النوع من الحاصلين عليه كعنوان” حج وزمزم وجاء للبلاء متحزم”. بمعنى أنه حاج لكنه لا يعمل بالحقيقة بل يخادع ويعتدي على الناس وعلى حقوقهم. توحد الفضاء الإنسان مكانا وزمانا فصارت الإنسانية كلها سوقا واحدة مادية ورمزية في هذا الإطار سأحاول تحديد نظرية السياسة الاقتصادية والسياسة الثقافية التي تترع عن السياسة عامة من حيث هي نظرية التربية المتحررة من عنف الوساطة والحكم المتحرر من عنف الوصاية: الحريتان القرآنيتان. وبعبارة موجزة: كيف تتحرر للإنسانية من العجل الذهبي أي من تحريف أداة التبادل أو رمز الفاعلية (العملة) وتحريف أداة التواصل أو فاعلية الرمز (الكلمة) حتى لا يتجاوزا الدور الاداتي في التبادل والتواصل فتصبحا أداتي سلطان على روح الإنسان وبدنه بتوسط المائدة والسرير لتحيل مستحوني الإنسان. استحوان الإنسان هو جعله كالحيوان خاضعا لمنطق بافلوف يعود على الاستجابة الشرطية للحاجات الاولية التي ترد إلى الغذاء والجنس وما يصحب الصراع عليهما وعلى السلطة بهما على الإنسان من عنف. وهذا هو جوهر ثقافة التلهية والخداع ونموذجها هو هوليوود في خدمة العجل الذهبي. وليس من شك في أن الإنسان حيوان حتى من دون استحوان. لكن حيوانيته لا تلغي ما به يتعالى عليها وذلك هو كونه إنسانا فالحيوانية الإنسانية غير الحيوانية العامة وذلك هو معنى اعتبار الديني والفلسفي فطريين في الإنسان أي إن وجوده مشروط بالنظر والعقد وبالعملي والشرع بخلاف الحيوانات الأخرى. الاستحوان هو نزع هذا البعد الثاني الذي هو جوهر الحريتين أعني أن يكون بذاته دون وسيط ناظرا ومعتقدا وأن يكون بذاته دون وصي عملا ومشرعا. وهذا هو جوهر الاستثناء من الخسر في سورة العصر: فيكون الإنسان مؤمنا وعاملا صالحا (حريته روحية) ومتواصيا بالحق ومتواصيا بالصبر(حرية سياسية).