**** اصلاح الدولة شرطه نظرية في الانتاجين الاقتصادي والثقافي
يمكن أن نعتبر الفصول الخمسة من المحاولة الماضية تمهيدا لهذه المحاولة التي ننتقل فيها من التأسيس النقدي للإصلاح إلى التأسيس الإيجابي فنشرع في تخيل دولة الإسلام كيف تكون بالاعتماد على ما ذكرناه في آخر فصول المحاولة السابقة من مرجعية الجماعة ودولتها إلى وظائف الدولة في الجماعة. ذكرنا أن الشعوب الاربعة الرئيسية التي أسست دولة الإسلام وحمتها كان على هامش التاريخ وهي جزء من أقوامها لأن البقية كانوا خاضعين لاستعمار امبراطوريتين هما فارس وبيزنطة مما وراء النهر في آسيا إلى ما وراء العدوة في أوروبا: العرب بداية والترك غاية وبينهما الأمازيغ والكرد. وبعد التاريخ الحافل من البطولات عادوا إلى ما يشبه العيش على الهامش وبدأوا يتحركون ليستأنفوا دورهم التاريخي الكوني استئنافا لن ينجحوا فيه ما لم يدركوا أن مصيرهم واحد وأنهم إذا بقوا متفرقين كما هم حاليا لن يخرجوا من الهامشية خاصة والعصر عصر عماليق ولا أحد منهم بعملاق إن بقي وحده. وإذن فينبغي أن يفهموا أن ما أخرجهم أول مرة من الهامشية وجعلهم من صناع التاريخ الكوني لمدة ثمانية قرون هو الفرصة الوحيدة الممكنة التي قد يكون الرافعة لعودتهم إليها وخروج من الهامشية. فهم بالإسلام دخلوا التاريخ الكوني وتركوا فيه بصمتهم وهم لن يعودوا إليه أحرارا بلا تبعية من دونه. والخطاب موجه إلى الشباب بجنسيه من هذه الأقوام الأربعة الذين آخى بينهم الإسلام وفرقتهم مرحلة الاستعمار بما زرعه بينهم من نزعات قومية وعرقية وطائفية حررهم منها الإسلام بمبدأي الأخوة الإنسانية والمساواة بين الشعوب والقبائل بالتعارف معرفة ومعروفا ودون مفاضلة بغير التقوى. وإذن فإليهم اهدي هذا التشكيل الافتراضي لدولة الإسلام الثانية بعد عصر الانحطاط. وقد أشرت إلى أن الدولة أي دولة في أي امة لا بد لها من المستويات الخمسة التي حددتها: 1. المرجعية الروحية 2. القوى السياسية التي تتمايز برؤاها لدلالتها ومعناها 3. الدستور المستخرج منها قانونا صريحا او عرفا 4. ثم الهيئة السياسية القيمة عليها “حكما ومعارضة” 5. وأخيرا وظائف الدولة العشر التي تلتحم الجماعة التحام المرجعية وقد صارت افعال دولة لتحقق شروط وظيفتيها الرعاية والحماية. وبذلك نجد بداية روحية تؤثر خاصة في الأذهان وغاية سياسة تؤثر خاصة في الأعيان فيتناغم الوجدان والكيان. فيكون الحد الأوسط أو الدستور قلب المعادلة قبله مقومان وبعده مقومان وبين المقومات تناظر هو الي يجعله شبه مرآة ذات وجهين صقيلين يعكسان ما تقدم عليه اصلا لمضمونه وشكلا وما تأخر عنه فرعا لما صيغ فيه منهما ليصبح اساس ما تتكون مؤسسات الدولة وشرائعها التي بها تنتظم حياة الجماعة السياسية. ولذلك نجد تناظرا عجيبا بين المقوم الأول والمقوم الاخير وبين المقوم الثاني والمقوم قبل الاخير بمعنى أن ما الوجدان(المرجعية) الذي في الأذهان هو الكيان الذي في الأعيان عندما تتحيز في المكان والزمان لتصبح نظام الجماعة المحقق لشروط الرعاية والحماية شرطين للسيادة والريادة. وما بين المقوم الثاني والمقوم ما قبل الاخير نجد علاقة القوى السياسية وسيطا بين المرجعية والدستور لكأن الروحي (المرجعية) يتعين في الطبيعي (القوى السياسية) ليخرج منه القانون الأسمى أو الترجمة القانونية الخلقية التي تتوافق عليها القوى السياسية فتوحد رؤاها المؤولة للمرجعية. ونجد وسيطا بين وظائف الدولة والدستور الهيئة القيمة على الدولة بوجهيها حكما ومعارضة لكان الوظيفي يتعين في المؤسسي (الهيئة الحاكمة) ليخرج من القانون الأسمى أو الترجمة القانونية الخلقية التي تحفظ التوافق بين القوى السياسية في إطار رؤاها الموؤلة للدستور في القوانين الخاضعة له قانونا لها. لكن هذه البنية مضاعفة: فهي جهاز صوري يمكن اعتبار مقوماته خانات خاوية: 1. خانة المرجعية 2. وخانة القوى السياسية 3. وخانة الدستور 4. وخانة الهيئة القيمة على الدولة 5. وأخيرا خانة الوظائف. وكلها يمكن اعتبارها هيكلا آليا خاليا من المضمون. فيتضاعف عندما تملأ الخانات بمضمون معين. وهذا المضمون الذي يملأ الخانات الخالية هو بدوره مخمس: 1. مرجعية معينة (الإسلام مثلا) 2. قوى سياسية معينة (مثلا قبائل أو أحزاب) 3. دستور معين (مثلا دستور الرسول) 4. هيئة قيمة على الدولة (مثلا الصحابة) 5. قيمون على الوظائف معينون وهم عشرة أنواع من البشر (ممثلا قضاة شرطة جيش إلخ..). فتكون الدولة جهازا آليا عندما ننظر إليها بوصفها خانات خالية وتكون الدولة كائنا حيا عندما ننظر إليها وقد امتلأت خاناتها بما ذكرنا. والصلاح في الدولة يكون بصلاح الجهاز وبصلاح من يملأه. والمشكل إن الدولة في الإسلام منذ الانحطاط فسد جهازها الخالي وفسد مالئوه بفساد معاني الإنسانية. وقد وضعت هذه النظرية لعلاج مشكلة لم أكن أفكر فيها قبل محاولة فهم فساد علوم الملة وما ترتب عليها من فساد أعمالها وأعمالها لم تفسد لو لم تفسد وظيفتا السياسة أي التربية بالوساطة الروحية (الاستبداد الروحي) والحكم بالوصاية السياسية (الاستبداد السياسي): لأنهما يفسدان المالئين للخانات. وقد استعملتها أول مرة علنا في الرد السريع على عبد الرازق وحلاق حول نظرية الدولة والدولة الإسلامية في علاقتها بالحداثة خاصة. فحاولت أن أبين أن الدولة الحديثة رغم كل ما قد يقال فيها أكثر اخلاقية من دولة الفقهاء حتى دولة الراشدين لأنها تخلقت في بنيتها المجردة في تأهيل من يملأها. فدولة الراشدين توفر فيها شرط صلاح القيمين على الدولة وغابت المأسسة التي هي جهاز مجرد لم يتحقق أو بقي جنينيا ودولة الفقهاء غاب فيها صلاح القيمين في الغالب حتى وإن وجدت فيها بالتدريج مأسسة أكثر تخلقا من مرحلة الراشدين (تخلقا يعني تشكلا معقدا للمؤسسات). والحديثة أفضل لجمعها بينهما. والمفاضلة التي اتكلم عليها ليس فيها حكم قيمي على الراشدين أو على الحداثيين بل فيها كلام على اكتمال بينة الدولة ببعديها شكلا وملأ للشكل بالمؤهلين من القيمين على المؤسسات لتؤدي وظائفها. وما كنت لألح على هذا الوجه لو لم أسمع من حلاق كلاما على نفي الأخلاق في الدولة الحديثة. ذلك أن الدولة الحديثة حتى لو غابت الاخلاق في القيمين فهي باقية في المأسسة. ولنضرب مثال العناية الصحية والاجتماعية بذوي الحاجات. شتان بين القيام بذلك بطريقة الاوقاف وبين صيرورتها حقا مفروضا على الدولة مهما أصاب القيمين من عاهات الفساد لأن دور الشعب في الحكم يفرضها عليهم حتى نفاقا دولة الراشدين كانت صالحة بالقيمين لكنها لم تكن ممأسسة فسهل سقوطها. دولة الفقهاء لم تكن صالحة لا بالقيمين ولا بالمأسسة. والدولة الحديثة إن فسد القيمون فالمأسسة تقلل من ضرر فسادهم لأن حاجة القيمين للبقاء في الحكم للشعب فيها دور ما يجعل هذه الحاجة تحافظ على الثمرة المأسسة. وعندما أتكلم في مسألة كلاما علميا لا أهتم كثيرا بالأحكام المسبقة التي تجعليني أمدح أمتي وأتنكر لفضائل غيرها. ما وصفته في مقومات الدولة الخمسة (المرجعية والقوى السياسة والدستور وهيئة القيمين حكما ومعارضة والوظائف) هي تعضي الدولة في غايته وهو لم يكن ممأسسا وهو لا تخلو منه دولة. والمأسسة ودور الشعب في التولية والعزل مهما قل يجعل من يتولى يخاف من هذا الدور الذي قد يعزله فيحاول الابقاء على رضا الشعب وهي المؤسسة الضامنة لعمل بقية المؤسسات على الاقل في الحد الأدنى من احترام الحقوق والواجبات بخلاف غياب هذا العامل الرادع للاستبداد والفساد. فإذا استطعنا أن نضمن بقاء الحرية الروحية (بإلغاء الوساطة الروحية) والحرية السياسية (بإلغاء الوصاية السياسية) بشكليهما الثيوقراطي والانثروبوقراطي بعد بيان تنكر الشكل الابيسيوقراطي فيهما أي تربية دين العجل بالأيديولوجيا والملاهي وبالمال والربا (الصهيونية وأمريكا فرضاه نظاما عالميا). فإذا استطعنا أن نضمن بقاء الحرية الروحية (بإلغاء الوساطة الروحية) والحرية السياسية (بإلغاء الوصاية السياسية) بشكليهما الثيوقراطي والانثروبوقراطي بعد بيان تنكر الشكل الابيسيوقراطي فيهما أي تربية دين العجل بالأيديولوجيا والملاهي (خوار العجل: ثقافة الصهيونية وأمريكا). وبمعدن العجل أو المال والربا (والصهيونية وأمريكا فرضاه نظاما اقتصاديا عالميا مثل الاول نظاما ثقافيا عالميا) إذا تمكنا من تحرير الإنسانية من هذين الداءين اللذين هما جوهر الثيوقراطيا والأنثروبوقراطيا رغم ما يبدون من تقابل بينهما تقابل الديني والعلماني: لهما نفس القيم العجلية. ولا يوجد مسلما واحدا تدبر القرآن لا يدرك أنه يعتبر سلطان المال والربا وسلطان الكذب والنفاق هما أساس كل فساد واستبداد في حياة البشر. وهما أساس سياسة الثيوقراطيا التي تغطي فسادها واستبدادها باسم الله والانثروبوقراطيا أو الديموقراطية التي تغضيهما باسم الإنسان وهما عجليان بالجوهر. وكلنا يعلم أن الله يعلن الرحب على سلطان المال والربا ويعلن أنه يمقت أشد مقت أن يقول الإنسان ما لا يفعل وهذه هي وظيفة الأيديولوجيا أي الكذب والخداع باستعمال قيم في الاقوال وعكسها في الأفعال. وإذن فأساس فساد السياسة هو مافيات الثيوقراطيا والانثروبوقراطيا أي الوسطاء والأوصياء. وهذا الضمان يقتضي على الاقل في مستوى النظر والعقد والعمل والشرع التي هي أدوات الفعل والقول في الطبيعة وفي التاريخ غاية لبعدي السياسة تربية وحكما أن اضع نظرية في السياسة الاقتصادية تحررها من الربا تحريرا فعليا وليس خداعيا كما هو الحال في ما يسمى حاليا البنوك الإسلامية. كما يقتضي هذا الضمان على الاقل في نفس المستوى ولنفس الغايات بنفس الأدوات لبعدي السياسة تربية وحكما أن أضع نظرية في السياسة الثقافية تحررها من الأيدولوجيا والكذب تحريرا فعليا وليس خداعيا كما هي الحال في ثقافة إسلامية مبنية على العلوم التي سبق أن بينا زيفها.