**** استئناف الدور الكوني متعين في عنفوان فعل الشباب روحيا وعقليا الفصل الأول
أحمد الله أني عشت لأرى بأم عيني ان غالبية الشباب بجنسيه لم يعد يعاني من عقد احتقار الذات لكأنه يعتذر عن كون ماضي أمته هو ماضيه فيبحث له عن مفر منه إما إلى ما قبله الميت أو إلى ما بعده الذي المميت. قلما تجد من يبحث عن الهروب إلى ما قبل الإسلام أو إلى ما بعده كبقايا من الاتباع. وإذا كان لثورة الشباب بجنسيه هذه الثمرة الأولى من الاستفاقة والاستئناف فذلك من أكبر البشائر وإذا كان لما حدث بعد سخافة تقرير التسعة حول ما يسمونه الحريات الفردية أو الحرب على القيم الإنسانية فضل ابراز ذلك أيما بروز في ما عبر عنه الشباب في التواصل الاجتماعي، فإن الأمر بحق جلل وجليل.
إنه جلل لأنه يعني انتهاء مرحلة الهزيمة الروحية فزاد يقيني بأن الثورة التي صمدت في سوريا وليبيا في ميدان القتال وصمدت في تونس في ميدان الجدال ولا تزال مراوحة بينهما في مصر واليمن وهي في المستوى الروحي وفي الاذهان عمت دار الإسلام، بل إنها غيرت مناخ العالم فبات يقرأ للأمة ألف حساب. وهو جليل لأن أمة استرد شبابه بجنسيه ثقته بنفسه وبتراثه لم يعد ممن ينطبق عليهم قانون ابن خلدون في تقليد المغلوب للغالب. استعادوا لذة الطموح الكوني وعلاماتها: 1. حرية الإرادة 2. وصدق العلم 3. وخير القدرة 4. وجمال الحياة 5. وجلال الوجود. استرد الشباب روح الشباب الذي أسس دولة الإسلام مع سيد الخلق. وعندي علامة ذات صلة بي شخصيا. فمنذ خمسين سنة -منذ دخولي دار المعلمين العليا والجامعة التونسية-كنت أحاول الجمع بين التحصيل ووصله بما اعتبره غاية له. فكنت بذلك شبه شاذ بالقياس إلى غالب الزملاء لأن في ذلك شيئا من يقين ليس لي له تفسير: أن الأمة قاب قوسين أو أدنى من الاستئناف الفعلي. فكنت أحاول في التحصيل أن أعد نفسي لفهم لغز الوساطة بين اليونان والغرب وما فيه من تحول كيفي يجعل تاريخ الأديان والفلسفات غير قابل للفهم من دون دور الإسلام والمسلمين في مآلهما بالوصل بين ما قبل دورنا وما بعده لأن فهم هذا السر هو المنطلق الحقيقي لاستئناف الدور الكوني فيهما حضاريا. كان همي أن أجمع بين فلسفة اليونان وفلسفة الغرب الحديث قبل الشروع في دراسة فلستنا ومعها الدين السابق والدين اللاحق للإسلام. والسابق معلوم. واللاحق بحاجة للتعريف وأعني ما حصل من إصلاح في المسيحية واليهودية بفضل دور الإسلام. ومثله الفلسفة فاللاحقة فيها ما في الدين ما تدين به لفلسفتنا. وقد يكون هذا الموقف فيه شيء من السذاجة شبه التعويضية عما اكتشفته لما نزلت من البادية إلى المدينة (وهي أكثر مدن تونس تفرنسا لأن ثلثي ساكنيها فرنسيين) وخاصة العاصمة مباشرة بعد الباكالوريا وما بدا لي وكأنه وجود يتصف بما قاله ابن خلدون عن المغلوب. لكن التاريخ اثبت العكس. وتلك هي العلامة التي قصدتها: فجل الزملاء الذين كانوا يهزؤون من الاهتمام بالتراث الفلسفي والعلمي والأدبي والفقهي إلخ… من مبدعات حضارتنا بدأوا يعودون إليها في تساؤلات يغلب عليها سذاجة الاكتشاف المتأخر “هاو عندنا حتى نحن مما يستحق أن نفخر به فلا نكون معقدين” وهو عود محمود حقا. وهو ليس عود الانكماش لأني لم أكن منكمشا على الذات، بل كنت ولا زلت أومن بأن الإسلام كوني ويدعو إلى الكونية وهو فوق الخصوصيات التي يزعمها البعض اصلا والكونية فرعا في حين أني أرى العكس تماما لأنه دين الكونية التي تكون فيها الخصوصيات التعدد الثري لتعين الكلي في الجزئي. فشرعت في دار المعلمين العليا في تكوين خلية مع بضع الزملاء والكثير منهم ما يزال حيا للشروع في ترجمة الأمهات وكنا حينها لا نعرف إلا لغتين غربيتين الفرنسية والانجليزية وندرك ضرورة الألمانية إذ لكوننا طلبة فلسفة كنا نعلم دور الألمانية فيها وهو شبيه بدور اليونانية والعربية واللاتينية. ولما عينت مديرا لقسم الترجمة في بيت الحكمة بمجرد إنشائها (بفضل خطة الاستاذين الوزير الاول ووزير الثقافة) كان أول ما ترجمت عن الفرنسية قسما من كتاب لأكبر مؤرخي العلم الفرنسيين الأستاذ بيار دوهام حول مصادر الفلسفة العربية من الجزء الرابع من كتابه في نظام العالم. فهذا الكتاب -مصادر الفلسفة العربية ط.1 وط.2 يبحث في هذه المصادر (يونانية) من خلال دورها (لاتينية) ومن ثم هو أول محاولة للنظر في رؤية الغربيين أنفسهم لدور الوساطة حتى وإن كان البعض يكاد يقصرها على التوسط كما يفعل هيجل في تاريخ الفلسفة. والعلة يغلب عليها الجهل أكثر من الانحياز. ومزية هذا الوصل بين ما تقدم المرحلة الإسلامية من تاريخنا الفكري وما تلاها أنه يحسم المهربين: فما تقدم وما تلا لا يمكن أن يصبحا قطيعة مع مركز تاريخنا الحضاري ببعديه الروحي والعقلي أو الديني والفلسفي بل صار جزءا لا يتجزأ منه فكل ما يفر إليه قائم فيه أخذا وعطاء وهو المركز. فلكأن الحضارة الإسلامية فضلا عما تستمده من الإسلام هي عصارة ما تقدم عليها وما تلاها أصله منها ومن العصارة ما إضافته. فلا يكون لمن يتصور نفسه معتذرا على الانتساب إليها بهذا السلوك إلى من يجهل ما يفر منه وما يفر إليه. فالذي يدعي الفرعونية والبابلية والقرطاجنية واليونانية جاهل. فكل ما كان حيا وكونيا في هذه الحضارات صار الحي منه جزءا لا يتجزأ من تراث الأمة التي حافظت على التراث الإنساني كله أعني ما فيه مما يقبل البقاء في ما يليه من الحضارة الكونية. وما تلا حضارة الإسلام التي ولله الحمد ما تزال حية في كيانها الذاتي يجد آثارها المكينة في الحي من حضارته. والجميل أن مفكري الغرب أنفسهم بدأوا يتخلصون من المركزية الغربية ففهموا أن نكران دور الحضارة الإسلامية روحيا وفلسفيا وعلميا وعمليا لم يعد يجدي نفعا لأن التراث الغربي الوسيط وحتى بدايات الحديث تشهد بعكس ذلك ومن ثم فقد شرعوا في التسليم بهذه الحقيقة وخاصة في مديد التاريخ ومعالمه ولأني لا أنكر أن الحضارة الحديثة تجاوزت حضارتنا في الكثير من الأمور وأن الاستئناف يقتضي ألا ننكر ذلك وأن نتعلم من الغرب دون عقد مع كامل الثقة في ذواتنا، فقد واصلت ما كان مجرد مشروع شبابي لم يثمر كثيرا أعني في ترجمة الأمهات وخاصة بعد أن صار بوسعي التفرغ لذلك. ورغم أن سوق القراءة الفلسفية بالعربية ليست بعد سوقا نافقة، فإن مدرسة الترجمة الفلسفية في تونس بدأت تنمو ولها صلة بما يجري في المشرق ويمكن القول إننا قد تجاوزنا اعتبار درس الفلسفة حكرا على اللغة الفرنسية في المغرب وعلى الانجليزية في المشرق وأصبح للعرب جماعة فلسفية لا يستهان بها. ويوم يحصل القرار السياسي الحاسم فيعرب التعليم كله في جميع الاختصاصات، ستنمو حركة الترجمة فيها جميعا وتصبح العربية من جديد لغة علم كونية كما كانت وحينها سيخرج من العرب مبدعون في كل العلوم لأن المناخ الرمزي العام الذي يلف الأجيال منذ نعومة أظافرها هو سماد الإبداع في كل حضارة. أما المشكل الثاني فهو الموقف المتبادل بين من يدعون الكلام باسم الدين ومن يدعون الكلام باسم الفلسفة. وهو مشكل قديم حسمته المدرسة النقدية العربية لكن حسمها لم يثمر الصلح بين الدين والفلسفة. فتزمت الموقفين عاد من جديد وهذه المرة من أدعياء التفلسف مثلما كان الماضي من ادعياء التكلم. ما كان يحدثه المتكلمون من خلاف بين الفلسفي والديني قديما صار يحدثه المتفلسفون. وكانت البداية كتاب ومحاضرة لفيلسوف ماركسي اعتبر الغزالي ظلاميا وابن رشد يسارا أرسطيا قياسا على اليسار الهيجلي والماركسية. وهات يا ظلامية دينية وتنويرية فلسفية ماركسية وهي سقط متاع إيديولوجي. ولما كنت ميالا للمدرسة النقدية -الغزالي وابن تيمية وابن خلدون-فقد صرت معدودا من الظلاميين وهو ما جعلني أذهب إلى “الماركسيين والعقلانيين” العرب المزعومين لأبين لهم سطحية فهمهم. فكان الحوار المباشر مع بعضهم وكان الجدال غير المباشر مع البعض الآخر هادفا لتجاوز الخلافات الموقفية. ويمكن القول إن الاعتراف بالغزالي وابن تيمية لم يعد أمر خلاف، بل إن الرجلين استرجعا دوريهما في الفكر العالمي وليس الإسلامي وحده ولا أدعي فضلا في ذلك لكني اعتبر نفسي قد أسهمت فيه ولعل تجاوز الفكر الماركسي والعقلانية الساذجة هو الأمر الحاسم فأثر لكونه مناسبا لروح العصر. لم يعد أحد يستجد نفسه فيتكلم على “عقلانية” ابن رشد أو المعتزلة وهو جاهل بالفلسفة اليونانية وبتجاوز العصر لرؤيتها لنظرية المعرفة والمنطق والرياضيات التي لم يعد فيها للمرحلة اليونانية إلا دور ضئيل دون نفي أهميته ومثله دور فكرنا المتأثر بها بما يبرز دور من كان يسعى لتجاوزها فيه. وبذلك فقد تبين أن ثورة الشباب بجنسيه لم تكن من فراغ، بل إن فكر الامة هو بدوره استرد ثقته بنفسه وللصامدين من مفكري الإسلام من منطلق الإحياء الحضاري الفضل الأكبر وهو ما يجعل ثورة الشباب مصحوبة بعودة الإسلام خيارا شعبيا لإدارة الشأن العام ويفهمنا حرب الثورة المضادة على الإسلاميين. وختاما فلو قارنت أي حزب إسلامي من هذا النوع باي حزب غير إسلامي في بلاد العرب لوجدت أن الحداثة ليست مع هؤلاء المتكلمين باسم الحداثة إلى من حيث قشورها وأن الحداثيين بحق هم الإسلاميون. فجل قيادات الأحزاب التي تدعي العلمانية إما عسكر أو عبيد عسكر أو عبيد قبائل وجلهم شبه أمي.