استئناف الأمة دورها يجعل القرآن دستورا للانسانية من جديد

****

استئناف الأمة دورها، يجعل القرآن دستورا للإنسانية من جديد

الفصل الأول

أريد في هذه المحاولة تطبيق مفهوم “مكر الله الخير” على أحوال الأمة في اللحظة الراهنة من تاريخها.
فكل ما يجري حاليا ضد الإسلام هو من مكر الله الخير وكله خير رغم الآلام والشدائد.
وما دعاني لهذه المحاولة، كلمة قالها أكبر داعية إسلامي حالي في زيارته لليابان “الإسلام دستور الإنسانية في المستقبل” (اضغط هنا).

لما كنت شابا كنت مغرما بفلسفة هيجل وكنت أتألم لما اقرأ ما يقوله عن خروج الإسلام من التاريخ (الفصل الثاني من الجزء الرابع من فلسفة التاريخ) مع يقيني بأن هيجل يمكن أن يكون قد كان محقا في عصره لما كان عليه حال الأمة وهو لو عاش في عصرنا لأعاد كتابة هذا الفصل ولأكد العكس تماما.
ما أسميه مكر الله الخير-وهو يسميه مكر التاريخ لأنه يؤله التاريخ- هو ما أحاول به تفسير الفرق بين وضعيتي الإسلام في عصر هيجل الذي كان حكمه مطابقا للحال وفي عصرنا الذي صار مخالفا تماما لحكمه.
لكني لن أشرح ذلك بمنطق هيجل لأني بينت فساده وفساد ما تلاه من ماركسية ورأسمالية.
ولن أشرحه بمعتقدات غيبية لأنها محجوبة ومفهوم “مكر الله الخير” يبدو واحدا منها.
لكنه ليس كذلك إلا من حيث طبيعة فاعليته وليس من حيث آثارها.
وما سأتكلم عليه إذن ليس مكر الله الخير من حيث هو مبدأ غيبي، بل على آثاره من حيث هي منتسبة إلى عالم الشهادة: فبين كتابة هيجل لتاريخه واليوم مر قرنان.
ما بات مشهودا في هذين القرنين من تاريخ الأمة أشبه بالمعجزات حقا وهو يكاد يضاهي ما حصل في القرنين الاولين من نشأة الحضارة الإسلامية منذ بداية نزول القرآن إلى تفجر وحدة دار الإسلام بتعدد المراكز الذي وإن لم يكن كله شر فقد بدأ به كل الشر حتى لم وصلنا إلى مرض آخر خلافة وعلة قول هيجل.
ورغم أن هيجل لا ينقصه الانحياز المتعصب فإن وصفه للحال الإسلامية حينها يبدو شديد الموضوعية لأنه يبنيه على خمس ملاحظات تبدو كلها صحيحة:
• اثنتان جغرافيتان هما نجاح حرب الاسترداد في اخراج المسلمين من أوروبا بدءا بالأندلس وختما بالبلقان ونجاح الاستعمار في الاحاطة بدار الإسلام وخنقها.
• واثنتان تاريخيتان:
 أولاهما توقف كل إبداع نظري وعملي في فاعلية الإنسان المسلم الذي بات شبه أعزل من شروط الرعاية والحماية ويعيش على هامش التاريخ الإنساني المبدع في عصر هيجل
 والثانية هي النكوص إلى ما وصفه هيجل بالكسل والعيش على ما تنتجه الطبيعة الزهيد والبداوة والاستبداد والفساد.
• وأصل هذه العوامل يرجعه هيجل إلى رؤية الإسلام التي شبهها برؤية الثورة الفرنسية في عصره: أي إنها رؤية تكتفي بالمجردات ولا تغوص إلى العينيات.
والمجردات تؤدي حسب رأيه إلى الحرب على العينيات فتؤدي إلى رؤية هدامة هي اعتبار الموجود منافيا للمنشود فلا يحصل تراكم حضاري كخيام الصحراء تذرو آثارها الرياح فلا متردم لها.
وهذا الأصل شككني في فلسفة هيجل كلها.
فأولا هو غير صحيح لأن التراكم الحضاري حصل ولولاه لما أمكن لأوروبا أن تبني نفسها على الصدام مع هذا التراث الذي أخذت زبدته دون أن أنفي أنها تجاوزته في أبعاده المادية ولا تزال دونه في أبعاده الخلقية والروحية: سر تكذيب التاريخ لراي هيجل في الإسلام.
وإذا تبين فساد المقدمات تبين فساد النتائج التي استمدت منه ليس عامة بل في مثل هذه الحالة التي بنى عليها هيجل حجته.
فمقدماته مستمدة من التالي في ضمير استدلاله: إذ هو استنتجه من الأربعة الأولى كتال لها بما هي مقدم ثم قلب العلاقة فجعل التالي أصلا وكأنه المقدم. ونقيض التالي ينتج نقيض المقدم. ومن ثم فكل تحليل هيجل خاطئ. فما ظنه حقائق واستخداما مقدما ليست صحيحة ونقيضها يفيد عدم صحة مقدمه المضمر والفعلي.
وهذا ما بينه التاريخ بعده: جغرافيا ما بدا خروجا للمسلمين من أوروبا وما بدا إحاطة أوروبية بدار الإسلام تلاه صيرورة أوروبا تابعة لأكبر مستعمراتها وتحول دار الإسلام إلى مركز العالم الجديد: فأمريكا وروسيا والصين والهند وحتى أفريقيا هي التي تسيطر على العالم وأوروبا عادت إلى حجمها.
ورهان العالم اليوم كما تدل حروبه -والحروب هي التي تحدد بؤرة أي عصر ومركز همومه-هو دار الإسلام وخاصة قلبها أي الإقليم المحيط بالأبيض المتوسط والذي صار محددا لمصيره ومصير أوروبا ومن ثم لمصير العالم في صراع قواه تلك عليهما أي على إقليمنا وأوروبا مركزي القيم الحضارية الحديثة.
ومعنى ذلك أن ما أحدثته أوروبا في الجغرافيا ارتد عليها كما ارتد ما أحدثه المسلمون فيها سابقا.
وكانت ثمرة الارتداد انقلاب التاريخ عليها كما انقلب علينا فصارت هي التابعة لا المتبوعة ولن تعود إلى دور المتبوع إلا بما ستضطر إليه للحلف معنا لأننا حتى من دونها بدأنا الاستئناف الحقيقي.
ولأبدأ الآن بيان الشاهد من آثار مكر الله مع التسليم بأن مكر الله الخير من الغيب والإيمان بأن آثاره من عالم الشهادة:

  1. أولا الرجل المريض لم يعد مريضا بل هو في عافية بل وفي عنفوان غير مسبوق رغم كل المؤامرات التي تحيط به وخاصة من العملاء العرب الذين نصبتهم انجلترا على جزيرة العرب وقلب الإسلام ومهبط الوحي ومحل الحرمين يدعون الحرب على العثمانية.
    ثم:
  2. هذا الرجل المريض التي تعافي بدأ يصحح الأخطاء التي امرضته وأدت على ما قاله هيجل عن “ذيل” إسلامي ما يزال موجودا في أوروبا ليس بسبب قوته بل بسبب تحاسد القوى الأوروبية وعدم إجماعها على القضاء عليه (القسم الأوروبي من تركيا الحالية بعد خروجها من البلقان) وأهمها علاقة القوم بالأمة.
    وهي علاقة لم تعد اختيارية:
  3. وثالثا ذهبت تركيا بالقومية إلى حد التعسف الأتاتركي والسعي إلى القضاء على الإسلام فتبين للأتراك بعد ما يقرب من قرن أنهم من دون الإسلام لا وزن لهم وأن أوروبا لن تعترف بهم لأنها تعتبرهم من ثقافة أخرى وهو يحاربونها لهذه العلة: عودة للأصل وسر القوة حتمية.
    ثم:
  4. هذه العودة ليست خيارا سياسيا فحسب بل صارت خيارا ثقافيا ومعنى ذلك أن ما حدث في سوريا وما جعل أكثر من ثلاثة ملايين سوري يلجؤون إلى تركيا هي فرصة للوصل العضوي بين حاملين للثقافة الإسلامية أعني العربية لغة القرآن والتركية لغة المستأنف الاول الذي كان المستهدف الأول ولا يزال: تركيا.
    ثم وهذا هو الأهم:
  5. لم يعد للقيادات التي تمثل الاستئناف في الاقليم الناطق بالعربية -دون أن يكون أهله عربا بالمعنى العرقي بل عرب بالمعنى الحضاري-كلها متحررة من القوميات المقيتة وميالة إلى الوصل بين التأصيل الإسلامي المبدع والتحديث الحضاري المستقل والمؤمن بوحدة القيم الإنسانية.
    وكل هذه القيادات المضطهدة في بلاد العملاء الذين نصبهم الاستعمار للمحافظة على سايكس بيكو لم يجدوا ملجأ غير تركيا القادرة على حمايتهم دون أن تخشى غضب إيران أو إسرائيل ومن ورائهما لأنهما ذراعان لعدوي الاستئناف الإسلامي بقيادة سنية مؤلفة من خمسة شعوب هي اساس قيام دولة الإسلام.
    فبالعرب بدأت دولة الإسلام وبالأتراك ظنوها انتهت لكنها بهم تستأنف ولن ينجح الاستئناف ما لم تدعمه بقية الشعوب المؤسسة لدولته: عودة العرب إلى الفاعلية التاريخية ومعهم الأكراد والأمازيغ وسودان افريقيا المسلمة كلهم وهم الذين قاوموا مع العرب والأتراك والأمازيغ حروب الصليب وحروب الاسترداد وحروب الاستعمار.
    ولا يمكن أن يكون كل ما ذكرت بمحض الصدفة ومن ثم فهو من مكر الله الخير. كل ما يجري في الهلال رغم ما نتج عنه من مآس هو في الحقيقة ثمن بخس إذا قيس بالغاية الإلهية الخفية منه: فما كان لأربعة ملايين سوري أن يصبحوا من ذوي الثقافة المشتركة العربية التركية من دون ذلك.
    ولا يمكن أن تزول العداوة بين الشعب الذي أسس دولة الإسلام في البداية والشعب الذي حافظ عليها حتى النهاية ليكونا صديقين يستأنفان معا دولة الإسلام من دون هذه الآلام التي أعادت لحمة الأمة بين الاموية والعثمانية بين الدولتين اللتين اسستا وحافظتا على وحدة الأمة الروحية جغرافيا وتاريخيا.
    فما يجري حاليا في الهلال هو الكشف البين لذوي البصيرة والواضع لذوي البصر عن كل أعداء الأمة من بقاء الصليبية والباطنية والصهيونية التي تحالفت لمنع الاستئناف فإذا بمكر الله الخير يجعل أفعالهم التي هي مكر شيطاني شرير تحقق شروط التحرر من العداوة بين رواد الاستئناف من العرب والترك.
    فالفتنتان الكبرى (الباطنية والتشيع) والصغرى (العلمانية والصهيونية) لن ينهيهما إلا تجاوز العداوة بين العرب المؤسسون لدولة الإسلام والأتراك المحافظون عليها تجاوزا هو شرط الاستئناف خاصة إذا استطاعا ضم الكرد والأمازيغ وسودان إفريقيا المسلمين ليصبح الإقليم مركزا ذا لحمة روحية.

وأختم بملاحظة أخيرة:
ما يقوم به هذا الداعية الذي كان كلامه علة هذه المحاولة لو كان ممكنا في البداية لاستغنى المسلمون عن الفتح المسلح لأن استئناف المسلمين في عصر الإعلام الحديث وحرية خطاب الشعوب يجعل عودة المسلمين للفاعلية التاريخية محققة لما أشار إليه والفتح السلمي الذي تكفي فيه تقديم قيم الإسلام بالفعل قبل القول للإنسانية حتى: “الإسلام دستور الإنسانية في المستقبل” تحقيقا لقيمة التحرر الأسمى من عبادة العباد بعبادة رب العباد.

الفصل الثاني

درسنا في الفصل الأول انقلاب مكر الشياطين إلى عكسه بمكر إلهي خير في الإقليم ودوره الذي ما يزال في لحظة يغلب عليها الانفعال بالأحداث أكثر من الفاعلية فيها. ولنمر الآن إلى نفس الظاهرة ولكن الآن في العالم كله وفي مستوى ثان لا يمكن التفطن إليه رغم أنه يكاد يفقأ الأعين بسطوعه.
وعدم التفطن إلى فاعليته علته عدم فهم طبيعة تأثيره إذا وصل بمنطق العصر الحالي عصر العولمة: فهذا العصر يعتمد على كونية رمزي الفاعلية أعني الرمز الذي يتأسس عليه التبادل وهو رمز الفعل أو العملة اساس اقتصاد العالم والرمز الذي يتأسس عليه فعل الرمز أو الكلمة أساس ثقافة العالم.
ويناظرهما المرموز الأساسي في الحالتين فالعملة تناظرها الطاقة المادية والكلمة تناظرها الطاقة الروحية. والأولان هما قطبا الثروة وصلتها بالجغرافيا. والثانيان هما قطبا التراث وصلته بالتاريخ. وتلك هي الأحياز الأربعة التي تتأصل في المرجعية الروحية الكونية التي هي عين حقيقة القرآن والإسلام.
إذن عندنا رمزان العملة واللغة وعندما مرموزان الطاقة المادية في صلتها بالجغرافيا اساس الثروة والطاقة الروحية في صلتها بالتاريخ وأصل يوحد بينها هو المرجعية الروحية الكونية التي تجعل إشكاليات الوجود الإنساني دائرة حول هذه الأبعاد الخمسة من كينونته: الإسلام وداره هما مركز الإنسانية الروحي والمادي.
إذا أثبت صحة هذه البنية المخمسة أكون قد أدركت معنى الشاهد من آثار المكر الإلهي الخير. الدليل الأول: دار الإسلام أي جغرافيته حائزة على جل طاقة العالم المادية في الأرض (البترول والغاز) وفي السماء (الشمس والماء) وعلى جل بحاره وممراته البرية والبحرية والفضاء بين قطبي العالم الحالي.
والدليل الثاني تاريخه دار الإسلام حائز على جل الطاقة الروحية لأن كل الاديان والفلسفات القديمة التي ما تزال ذات تأثير في العالم لم تحفظ إلى فيه قبل أن تستقل الدول التي ليست تابعة للإسلام بمعنى أن الإسلام هو الذي حفظ تراث البشرية السابقة والمعاصرة لدولته في العالم المبدع للحضارات.
فدار الإسلام هي المتحف الكوني لكل الأديان المنزلة وغير المنزلة في العالم الحالي وهي كذلك الحضارة التي حافظت على تراث الإنسانية العقلي والعمراني ولا يمكن أن تجد ذلك في غير دار الإسلام على الأقل قبل أن تصبح الشعوب التي لها تراث سابق على الإسلام قد استقلت بعد الاستعمار الغربي.
وهذه الحضارات التي حفظتها حضارة الإسلام-يكفي زيارة العراق حتى تجد كل الأديان التي فقدت في غيره وخاصة المنزل منها والوضعي ومثله افغانستان والهند الذي كان تحت سلطة المسلمين قبل الانجليز وحتى الصين-كلها عرضت في القرآن بمنطق التصديق والهيمنة ودرست من مفكري الإسلام.
ولعل ما كتبه البيروني كاف وزيادة لبيان ما أدعي بخصوص أديان الهند التي لا علاقة لها بالأديان المنزلة. والمعلوم أن علوم الهند والصين واليونان صارت تراثا إنسانيا كونيا بفضل دور حضارة الإسلام التي عممتها وأضفت عليها الكونية بمنطق وحدة الإنسانية (النساء 1) والمساواة بين البشر (الحجرات 13).
هذا في مستوى المرموزين المادي والروحي.
فلنأت الآن إلى مستوى الرمزين رمز التبادل المادي أو العملة ورمز التواصل الروحي أو الكلمة.
فغالبية المسلمين ناطقة بالإنجليزية -العرب أقل من 10 في المائة واللغة الفعلية للمسلمين كلهم هي الانجليزية- ولم تصبح علمتهم الدولار: وهذا من مكر الله الخير.
إذا جمعت: المرموزان المادي والروحي يوفران للمسلمين على الأقل بالقوة شرط القوة المادية التي تجعلهم قابلين لأن يكونوا قطبا عالميا إذا تمكنت قياداتهم الخمسة (قيادات الإرادة والعلم والقدرة والحياة والوجود) من وضع الاستراتيجية التي تكون خطة عمل القلب موضوع الفصل الاول من المحاولة.
وإذا جمعت رمز الفعل أو أداة التبادل العملة الواحدة وفعل الرمز أو أداة التواصل أو اللغة الواحدة صارت الأمة قادرة على التبادل والتواصل الشارطين للوحدة الاقتصادية والثقافية حتى وإن لم تتحقق بعد الوحدة السياسية والترابية. ومعنى ذلك أن قيام الوحدة يمكن أن يبدأ بالافتراضي التواصلي. وهو كاف لتحقيق غايتين:
• أولا إحياء الوحدة الروحية بين المسلمين،
• وثانيا نشر قيم الإسلام في العالم.
والأولى مهمة التربية الأساسية في الاستئناف الإسلامي
والثانية تحقق ما كان يحققها الفتح لأن حاجته إلى استعمال القوة لم تعد ضرورية بسبب الانفتاح التام بين الشعوب في التواصل السلمي.
وطبعا فذلك لا يغني القلب -موضوع الفصل الاول-من أن يعيد إحياء البعد الكوني من العربية لغة حضارة الإسلام حتى يتم الوصل بين الحاضر والماضي في ثقافة شباب الامة كلها بدأ بالأتراك الذين نكبوا مدة 90 سنة بما يحول دونهم وفهم تراثهم بسبب الانقطاع الذي حصل في لغتهم الحالية مثل اليونان.
فالشباب التركي بجنسيه والشاب اليوناني مثله كلاهما مضطر لتعلم لغة أجداده التي صارت وكأنها لغة أجنبية ومن دون تعلمها يبقى محروما من تراث شعبه. وهذا يصح على كل المسلمين ليس بسبب الانجليزية لأنها ضرورية الآن لجميع البشر وخاصة للمختصين في الثقافة الأرقى بل بسبب تخليهم عن لغتهم الحضارية الواحدة.
فالدولة القومية في جل بلاد المسلمين جعلت العربية عندهم مقصورة على العبادات وانقطعت صلتهم بالتراث المشترك بين شعوب الامة والمهمة الأولى التي نبغي للقلب-موضوع الفصل الأول-أن ينجزها هي نشر العربية في كل بلاد المسلمين بميزانية يدفعها العرب والأتراك شرطا في غاية الخطة: إحياء وحدة الأمة الحضارية.
وهذا لن يكلف كثيرا بل إنه حتى على المستوى المادي سيكون مربحا مباشرة: ذلك أنه سيساعد على حل مشكلتين بطالة الشباب الذين يمكن أن يصبحوا معلمين للعربية في العالم كله وتجارة الكتاب والتراث والسياحة وخاصة منطق الثقافة التي تعد للاقتصاد سيكون ذلك استثمارا مربحا في المدى المتوسط.
فلو فرضنا أن ذلك سيتطلب توظيف مليون شاب وشابة لتعليم العربية وافترضنا أن أجر المعلم 12 ألف دولار في السنة فستكون الكلفة دون ما يمكن جمعه من زكاة القادرين على دفعها من بين المؤمنين بالرسالة. وهو الجهاد الحقيقي لو كان المسلمون يدركون أن الفتح لا يكون بالجيوش بل بالثقافة.
وطبعا فالثقافة لا تؤثر بالنصوص ولا بالشعارات بل بما عليه الشعوب التي تمارسها. فما لم يستعد المسلمون مهابتهم الحضارية والثقة في النفس فإن تأثيرهم الثقافي لن يكون قابلا للتصديق. فالأمم لا تؤثر بأقوالها بل بأفعالها المطابقة لما تدعيه من قيم وأخلاق وإبداع ثقافي علمي وذوقي.
ولست أشك في أن ذلك في متناول تركيا والعرب الذين شردتهم الأحداث حاليا والذين سينتصرون ويستعيدون دولهم فيكونوا عونا لتركيا في هذا المشروع الذي هو الوحيد الذي يمكن أن يحول دون مزيد التفتيت الجغرافي والتشتيت التاريخ في الحرب على المرجعية الروحية الواحدة للأمة هدف أعداء الأمة.
واستهداف الأمة علته عدم نسيان الماضي والخوف من المستقبل لدى من لا يشكون في ما وصفت من شروط ملائمة جدا للاستئناف الذي سيجعل الأمة قطبا عالميا سيدا على جغرافيته ومن ثم على ثروته وعلى تاريخه ومن ثم على تراثه وذلك بفضل إحياء مرجعيته الروحية التي هي لحام الشعوب الإسلامية في أمة عزيزة ستضفي على الوجود معنى بقيم الإسلام ومثله العليا.
ولهذه العلل كلها رأيت من الضروري أن أدعو إلى الصلح بين ضفتي البحر الأبيض المتوسط. فـما يجري حاليا حتى لو كان اليمين الغربي مصابا بالإسلاموفوبيا مثله مثل اليسار والقوميين في أمتنا-من غرائب العصر أن اليساري والقومي في دار الإسلام مطلق التطابق مع اليميني الغربي في الإسلاموفوبيا-يريد إحياء العداوة بينهما.
ذلك أن تخوفاتهما -اليمين الغربي واليسار الشرقي ومعهما بعض السلفيين الأغبياء الذين يتكلمون بلغة الحروب الصليبية وغزو روما-لأنهما يمثلان ماضيا ما يزال متعلقا بما لم يعد مناسبا للعصر لأن نظام العالم الجديد يهددنا ويهدد أوروبا بنفس الدرجة: فأمريكا والصين يمثلان مغول المستقبل.
وأزمة الهوية الأوروبية مع النكبة الاقتصادية التي تنتظر الاوروبيين حول مستوى معيشتهم الاقتصادية بسبب عدم القدرة على منافسة العماليق الشرقيين الذين لا تكلفهم أنظمة الانتاج والرعاية الاجتماعية ما تكلفه للأوروبيين هذان الأمران سيجعلانهم قريبا يعيشون ما نعيشه نحن من أوضاع مزلزلة.
لكن التكامل بيننها يمكن أن يحل المشكلتين عندهم ونظيرتيهما عندنا: فالنقص الديموغرافي عنده يحله الزيادة الديموغرافية عندنا والتخلف التكنولوجي عندنا يحله التقدم التكنولوجي عندهم فنتكامل بطريقة تجعل المجموعة بحجم الهند أو الصين أو أمريكا أو البرازيل فلا نبقى بين فكي كماشة.
وهذا أيضا بصدد الحصول بطرق خفية هي من مكر الله الخير الذي لا يعلمه سواه لكن آثاره معلومة للإنسان. فالهجرة بكل أنواعها وقانون التغير الثقافي المنطلق من الأدنى إلى الأعلى أي من الثقافة الشعبية إلى الثقافة العالمة وأخيرا وخاصة قانون تغير معايير النجومية-اصحبت للفن والرياضة وليست للعلم والسياسة- ومن ثم فشعوب العالم الثالث هي التي سـ”تفتح” العالم الأول سليما بعد أن كانت هي المغزوة حربيا.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي