ازمة الفكر الاسلامي السني، طبيعتها وعللها – الفصل الثالث

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله ازمة الفكر الاسلامي السني

طاغوت نخب الأصولية الدينية

إذا كان الطاغوت العلماني مصدره إطلاق قدرات العقل؛ فإن الطاغوت الأصلاني مصدره نظرية إرث العلماء للأنبياء النظرية التي يضفون بها على علمهم العادي ضربا من العصمة تتنافى مع مفهوم الاجتهاد. وهي نظرية حولت إسلام الإنسان وجهه لرب الغيب والشهادة من كونه موقف إيمان عقدي إلى دعوى العلم والعمل بما يتجاوز العقل الإنساني فصار الوريث يرث أكثر مما عند المالك: لم يزعم أحد من الأنبياء أنه يعلم الغيب ومن ثم فكلهم علمهم لا يتجاوز عالم الشهادة، وهو إذن علم عقلي يغلب عليه وجه الإبداع الحدسي هو ككل إبداع لا يورث. فالحد من سلطان المعرفة العقلية التي يزعم لها أصحابها الإطلاق لا ينبغي أن يؤدي إلى وهم من الجنس المقابل فيطلق العلم النقلي.

لا ينبغي الزعم بأن علماء الدين يرثون من الأنبياء علما يتجاوز عالم الشهادة إلى عالم الغيب فيكاد يصبح العلم الديني من جنس موضوعه أعني الوحي: فالإنسان ليس قادرا على علم من جنس آخر غير الجنس الذي يصل إليه بالعقل حتى لو كان نبيا؛ لأن القرآن لا يني يكرر بأن الغيب محجوب حتى على الرسل.

لكن نظرية إرث العلماء للأنبياء أصبحت -وإن بصورة ضمنية عند السنة على الأقل وهي صريحة عند الشيعة- أساسا لطاغوت الأصولية الديني وتقزيما لملكات الإبداع الإنساني من خلال تقييدها بعلم يزعمه أصحابه من مصدر ثان بديل من العقل هو العلم اللدني في المعرفة الدينية. وتلك هي القضية الجوهرية التي أهملها الفكر الإسلامي عامة وفكر كلا الفيلسوفين اللذين شخصا أدواء الحضارة الإسلامية في أدوائها التي آلت بها إلى الانحطاط خاصة (ابن تيمية وابن خلدون):

1-فسلطة الرمز من صورة العمران حصرت في الرمز الديني الرسمي فاقتضى ذلك إيجابا جعل مضمون التربية مقصورا على العلوم الدينية وأدواتها، وسلبا في إلغاء مضمون العلوم الطبيعية وأدواتها وإلغاء كل التجارب العلمية وما يتبعها من تقدم تقتني واقتصادي.

2-وسلطة الرمز من مادة العمران حصرت في الرمز الرسمي فاقتضى ذلك إيجابا جعل مضمون الثقافة مقصورا على العلوم المساعدة للعلوم الدينية وإلغاء التجارب الروحية والخلقية أعني كل ما يتعلق بالإبداع الفني والجمالي.

وبذلك فقد فقدت الأمة مجالي الإبداع اللذين يمكن أن يعطياها الحيوية الحضارية الدائمة في مجالي النظر والعمل وسلطانيهما وتطبيقاتهما في الرزق والذوق وسلطانيهما. فكان طغيان نخب الأصولية الدينية متمثلا في قتل البعد الرمزي من صورة العمران ومادته بحصره فيما يجعله أداة مباشرة للوجه الفعلي أعني للحكم والاقتصاد في حدود ما فهموه هم من الشريعة والسنة مهملين كل الغايات التآنسية وأدواتها غير المباشرة التي لا يمكن أن يبدعها إلا الخيال العلمي والفني الخالصين والمطبقين أعني الوظائف التي قتلوها بحصر الرمز في بعده الفقهي. وهو ما ادى في فقر روحي عند الأمة جعل الشباب يشعر بالاختناق المؤدي إلى أحد حلين إما التنكر للأمة وقيمها والذوبان في الحضارة التي توفر هذه الحاجات أو الانتحار إما مباشرة أو بما بات يسمى بالتطرف الديني.

لكن ضرر الطغيان الثاني (طغيان النخب الدينية بهذا المعنى المصحر للوجود) أخطر بكثير من الطغيان الأول (طغيان النخب التحديثة بهذا المعنى المبسط للوجود حصراه في بعده الدنيوي) رغم كون الطغيانين متغاذيين: كلاهما يغذي الثاني ويغتذي منه:

1-فالرمز عند الأصولية الدينية جعل فكر المسلمين طاحونة هواء لعلتين. أولاهما هي أن العلوم الدينية لم يبق منها إلا ما هو أداة للحكم المباشر (السياسة) أو غير المباشر (التربية) وللاقتصاد المباشر (المعاملات) أو غير المباشر (أخلاقيات التعامل) أي الفقه والوعظ.

2-والثانية هي أن العلوم الأخرى لم يعد لها وجود أصلا. أما الفنون فهي قد محيت نهائيا من حياة المسلمين لأنها صارت تعتبر من المدنس وهو ما لم يمنع من استيرادها مثلها مثل العلوم الطبيعية والإنسانية وتطبيقاتها التي لم يُبقوا منها إلا على الأدوات المباشرة للعبادات والمعاملات البدائية.

وبذلك فقد تحولت ثورة النقد الفلسفي والعلمي ومحاولات ابن تيمية وابن خلدون باسم التصدي للإفراط الرمزي إلى تفريط قاتل كما بينا. وأصبح العلاج سما قاتلا لأن مستعمليه لم يكونوا أطباء مهرة بل كانوا سذجا قصروا العلاج على الرقية الإيديولوجية. وليس من اليسير تحرير فكرنا من هذا الطاغوت الأخطر من الأول أي العلماني بسبب التصاقه بالجمهور ولكونه مسموعا بخلاف الطاغوت الأول الذي يستمد تباهيه بدعوى الريادة من هامشيته في المجتم العربي المسلم وهم فرحين بالهامشية الدالة على التفرد لم يدركوا أن فكرهم هو في كل الأحوال من سقط متاع الفكر الغربي في أكثر أشكاله سطحية وبساطة.

تحرير فكرنا من الطاغوت الأصلاني

ويمكن أن نحرر فكرنا من الطاغوت الأصلاني إذا اعتمدنا طريقتين موجبة تبين دلالة وراثة العلماء للأنبياء ماذا تعني، وسالبه تبين ادعاء أكثر من ذلك ماذا يعني.

ولنبدأ بالطريقة الأولى التي هي طريقة لا يمكن أن يجادل فيها إلا من يريد أن يكذب القرآن الكريم فضلا عن الحديث الشريف. فإذا كان القرآن الكريم قد نفي عن خاتم الأنبياء العلم بالغيب فمعنى ذلك أن النبي لا يعلم إلا الشاهد أعني المعلوم المشترك بين البشر. والمعلوم المشترك بين البشر لا يعلم إلا بالمدارك المشتركة بين البشر. ومن ثم فإذا كان العلماء يرثون علما من الأنبياء فهو علمهم بالشاهد أي بالمشترك بين البشر. وكل ما ينتسب إلى الغيب من الوحي نبه القرآن إلى أنه محجوب على الجميع بمن فيهم الأنبياء ومن ثم فهو قد نفى كل أمكانية لعلمه: مثل وقت الساعة أو طبيعة الروح أو صفات الله أو مقاصد الله من الخلق وخاصة مما يبدو منه شرا.

ولنثن بالطريقة الثانية التي ترد القول بالعلم اللدني الذي يزعم البعض أنه من المصطفين من الناس المختصين بعلمه أعني الأولياء والأئمة المعصومين عند أهل الكذب المطلق والدروشة المحطة من بشرية الإنسان فتحوله إلى مخدر دائم في مناحات التوظيف السياسي للقيم السامية التي تتحول إلى مجرد أدوات منحطة في خطط شيطانية للباطنية: ويكثر مثل هذا الكلام في الفكر الصوفي والإمامي. فهذا الزعم فضلا عن تنافيه مع نتيجة الطريقة الأولى فيكون مكذبا للقرآن الكريم يقتضي أن يكون الأنبياء دون من يرثهم من الأولياء والأئمة علما وهو مما لا يقبله عاقل. ذلك أن التصديق بمثل هذه الدعوى يعني التكذيب بختم الوحي التشريعي إنشاء محدثا أو فهما للتشريع السابق بما يتجاوز الفهم الاجتهادي والقول باتصاله في الأولياء والأئمة. وهذا القول قل أن تجد من علماء السنة من يقول به صراحة لكن الغموض في مفهوم الإرث قد يتضمن ما يضمره من علم بالغيب.

والحصيلة التي ننتهي إليها بهذين الطريقين هي أن الأنبياء ليس لهم علم لدني غير ما جاء في القرآن الكريم الذي ينفي عنهم العلم بالغيب يمكن أن يرثه العلماء وأن علمهم لا يختلف في شيء عن العلم الوحيد الممكن للبشر وأن ما يتجاوزون به غيرهم أمران لا يشاركهم فيما أحد من البشر وهما ليسا من العلم فضلا عن كونهما ليسا مما يقبل الإرث:

1-فأما الأمر الأول فهو الاصطفاء الإلهي للقيام بدور الممثل العيني الفعلي للمُثل القرآنية في السلوك والأخلاق وفي الأمانة والصدق تلقيا للرسالة وتبليغا وهذا يعم كل الرسل.

2-وأما الأمر الثاني وهو خاص بأولي العزم منهم فهو القدرة على تحقيق قيم الرسالة في التاريخ الفعلي وليس مجرد تلقي الرسالة وتبليغها دون تحقيقها بوسائلها الإنسانية العادية (السياسة والحرب إلخ..).

وما خص الله به محمدا على كل الرسل بمن فيهم غيره من أولي العزم -ولذلك اختير لتبليغ الرسالة الخاتمة والكونية- هو أن الله قد حباه بكل الفضائل العقلية والخلقية نظريا وعمليا لتحقيق العينة النموذج من الاستراتيجية القرآنية في التاريخ الفعلي وحفظ رسالته من التحريف؛ لأن الكتاب وعد الله بحفظه من كل تحريف إلى يوم الدين وهو وعد يقتضي وجود أمته وجودا يجعلها قادرة على القيام بهذا الحفظ إلى يوم الدين؛ لأن حفظ المشروط يقتضي حفظ الشرط:

1-ولذلك كان القرآن نصا نقديا أولا للتحريف ما جعل المسلمين سباقين في ضبط القرآن بعلاج علمي من البداية استعملوا فيها طريقة إجماع المختصين فضلا عن التوثيق المادي.

2-وكان القرآن نصا نقديا ثانيا للتجارب السابقة التي فشلت في تحقيق قيم الرسالة الكونية في التاريخ الفعلي لانعدام شرطيها: الاجتهاد المعرفي ومعياره التصديق والهيمنة والجهاد العملي ومعياره الإصلاح الدائم لتحقيق القيم القرآنية في التاريخ الفعلي لئلا يكون الدين هروبا من الدنيا (الرهبانية) بل جهاد لجعلها مطية الآخرة. والجمع بين الدعوة والدولة هو الشرط الضروري والكافي لتحقيق شروط الاستخلاف في التاريخ الفعلي وأداء الأمانة.

وبذلك فالقرآن الكريم نص نقدي للمرجعيات الدينية ولتاريخ التجارب الدينية يحررهما من التحريف والتزييف وهو من ثم ثورة روحية بمضمونه وثورة معرفية بشكله أو بمنهجه. وهو بمجرد وجوده تحرير دائم للأمة من الطغيانين باسم العقل وباسم النقل خاصة إذا وجدت المؤسسات التربوية التي تحرص على بيان هذين البعدين من دور القرآن الكريم فضلا عن دوره في الهداية الروحية والتواصل الدائم مع متعاليات الوجود الإنساني كما يقصها القرآن الكريم.

وثيقة النص المحمول ورابط تحميلها

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
آخر تحديث 05-04-2025
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي