ازمة الفكر الاسلامي السني، طبيعتها وعللها – الفصل الأول

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله ازمة الفكر الاسلامي السني

المسألة المبدئية التي ينبغي حسمها هي: كيف آل التحريف بالفكر الإسلامي عامة والسني خاصة والأشعري بصورة أخص إلى أن يصبح عكس حقيقته بسبب إجهاض ثورتي هذا الفكر خلال أهم مفصلين من مفاصل تكوينيته النظرية؟ فقد كانت هاتان الثورتان واعدتين:

فكريا: التحرر من الميتافيزيقا المنحطة التي ورثها الفكر الإسلامي من العهد الهلنسي والكلام المسيحي اليهودي الشرقي.

وعقديا: العودة إلى الموقف السلفي الثوري الذي يبقى على العقائد في نصها وطابعها العفوي والفطري دون تشقيق كلامي ليفرغ إلى تحقيق شروط الاستخلاف في الكون أعني تحقيق قيم القرآن النظرية والعملية في التاريخ الفعلي.

وقد تعلق التحريف المجهض بثورتي الأشعرية التاليتين خاصة بوصفهما بؤرة كل الفكر الإسلامي الذي يتبع التيار السني الغالب أو يعارضه بكل تقازيح القوس الفرقية:

  1. الثورة على الفكر الاعتزالي في المسائل العقدية عامة وفي مسألة أفعال العباد خاصة (الأشعري هو الرمز)؟

  2. الثورة على الفكر الفلسفي في المسائل الميتافيزيقية عامة وفي مسألة أفعال الطبائع خاصة (الغزالي هو الرمز)؟

كيف دار الفكر الأشعري دورة كاملة فعاد إلى ما فاق الغلو الاعتزالي والفلسفي, ولكن في الاتجاه المقابل أعني إلى نقيض هذين الفكرين فأصبح فكرا باطنيا خالصا سواء مباشرة في لوازم نظرياته الكلامية أو بتوسط التصوف المتفلسف الذي يزعمه أصحابه نابعا منها (الرازي هو الرمز)؟ لقد مر الفكر الأشعري بثورتين واعدتين كلتاهما أجهضت خلال تكوينية فكر صاحبها ذاته:

فأما الثورة الأولى فهي ثورة الأشعري نفسه لما فارق الاعتزال بسبب ما أدركه من قصور العقل في تفسير أمور العقيدة عامة وأفعال العباد خاصة من حيث شرط كونها تكليفا يقابله جزاء وعقاب. فأما الثورة فكانت في القطيعة مع المعتزلة والعودة إلى الحل السلفي أعني القبول بالجمع بين الحرية والجبرية بمستويين مختلفين. وأما علة النكوص فهو ما ينتج عن محاولة صوغ هذا الحل بالمنهجية الاعتزالية الكلامية: نظرية الكسب للجمع بين الفاعلين على الفعل الواحد. وهو ما آل في الأخير إلى الجهمية.

وأما الثورة الثانية فهي ثورة الغزالي بعد أن تبين أن أصل الداء كله في النظر والعمل على حد سواء هو الميتافيزيقا الموروثة عن الأفلاطونية المحدثة كما تعينت في عملي الفارابي وابن سينا نظريا وفي أعمال الباطنية واخوان الصفاء عمليا. فكانت الثورة ممثلة في كتابين هما تهافت الفلاسفة وفضائح الباطنية. لكن الثورة سرعان من انقلبت على صاحبها؛ لأن الحل العلاجي صار عين الداء:

فالحل العلاجي النظري تمثل في تصور المنطق الأرسطي بريئا من الميتافيزيقا التي رد عليها بل هو قد حاول البحث عن تأسيس شرعيته بترجمة بعض أدلة القرآن الكريم بأشكال المنطق الحملي والشرطي في القسطاس المستقيم مع التصريح الصريح بالقصد الباطني.

والحل العلاجي العملي تمثل في تصور الطريقة الصوفية بريئة من الميتاتاريخ الباطني الذي رد عليه بل هو قد حاول البحث عن تأسيس شرعية وحدة الوجود في تفسير بعض آيات سورة النور في مشكاة الأنوار.

لكن النكوص الأتم اكتمل عند الرازي بعد بدايته المحتشمة عند الغزالي من خلال تعميم قانون التأويل الذي هو في الحقيقة نفي خفي للنقل بآلية رده التأويلي للعقل ما يعني نفي الغيب ومن ثم نفي الحاجة إلى القرآن والسنة. لذلك فهذا القانون هو الذي تأسست عليه كل التأويلات الباطنية المعطلة للذات الإلهية باسم أساس التقديس (كتاب الرازي) وتعميم الرد عليه في تلبيس الجهمية (كتاب ابن تيمية) الذي تتأسس عليه كل “اللاتأويلات السلفية” التي هي في الحقيقة تأويلات ظاهرية تذهب إلى حد الحرفانية العامية.

ومن هذا النكوص التام الذي تصدى له شيخ الإسلام تصديا أسيء فهمه انقسمت الأمة إلى الأصوليتين المعلومتين الآن. وما الحرب الحالية إلا ترجمة لهذا المأزق الفكري: فهي حرب مدارها القرآن الكريم ودوره التاريخي في النظر والعمل وقد اجتمع فيها الباطني الصريح من الفرق المغالية والباطني المتنكر في الأشعرية قبالة الظاهري الصريح من الفرق المغالية والظاهري المتنكر في السلفية.

فيكون ابن تيمية وابن خلدون قد فشلا في سعيهما إلى إرجاع الفكر السني أعني إلى ما سعت إليه الثورتان الأشعريتان الثورة التي أرادت أن تجعل أفعال العباد قابلة للعلم بالتخلص من الوهم الميتافيزيقي الاعتزالي حول حرية الإنسان دون نقض لنظرية الحرية الإنسانية شرطا للتكليف، والثورة التي أرادت أن تجعل أفعال الطبيعة قابلة للعلم بالتخلص من الوهم الميتافيزيقي الفلسفي حول النظام الضروري في الطبيعة، دون نقض لنظرية السنن الإلهية شرطا للمعرفة العلمية المنتظمة السنن التي لن تجد لها تحويلا ولا تبديلا. فشل المفكران في تحقيق الثورتين حتى وإن تقدما في عملية تأسيسها تقدما معتبرا:

ففلسفة التاريخ ومنهجه الخلدونيين ممتنعا التصور من دون بدايات التخلص الفعلي من الوهم الاعتزالي حول الحرية الإنسانية: لأن إطلاق الحرية ينفي كل إمكانية لجعلها قابلة للعلم ومن ثم فهو نفي للعلوم الإنسانية كلها.

وفلسفة الطبيعة التيمية ومنهجها ممتنعا التصور من دون التخلص من الوهم الفلسفي حول الضرورة الطبيعية: لأن إطلاق الضرورة في الطبيعة ينفي إمكانية تعدد الفرضيات العلمية التي شرط كل تجويد للمعرفة العلمية لأن عمل العقل الإنساني عمل طبيعي وكان يكون في هذه الحالة أشبه بالمرآة يصور ما ينعكس عليه ومن ثم لا إمكانية للفصل بين الحقيقة والوهم.

وتلك هي الأزمة الحالية التي يمر بها الفكر الإسلامي ولم يستطع الخروج منها. فكيف يمكن وصفها للكشف عنها وتحديد عللها وشروط علاجها؟ ذلك هو مطلبنا في هذا الفصل الذي انتخبناه ببعض التصرف من محاولتنا فهم الأفق القرآني في صلته باستخلاف الإنسان وشروط استعماره في العالم من أجل تحقيق القيم التي حددها القرآن الكريم في التاريخ الفعلي لئلا يبقى الدين مجرد تعبد مشعري بل يصبح تحقيقا فعليا لقيم الإسلام في حياة البشر الدنيوية من حيث هي مرحلة معدة للحياة الآخرة.

ولما كانت الأزمة متعينة في الوجود الفعلي بكل أبعاده لكن تعبيراتها متعينة في صوغها الرمزي ممثلا بالنخب الناطقة باسم هذه القيم فإننا سنعالج القضية من هذا الوجه: وجه دور النخب في تجلية أفق الرؤى الوجودية أو بالعكس في تصدئته. وسنتبع التقسيم الخلدوني لمقومات العمران أساسا لتقسيم النخب الممثلة للقيم في المجتمع الإنساني. وفي البحث قضيتان كلتاهما مضاعفة:

القضية الأولى: سلطة الرمز من صورة العمران ومادته

القضية الثانية: سلطة الفعل من صورة العمران ومادته

القضية الأولى : سلطة الرمز من صورة العمران (التربية) ومن مادته (الثقافة).

لن نفهم طبيعة الأزمة التي يمر بها الفكر الإسلامي منذ عصر الانحطاط إلى الآن إلا بتحديد طبيعة النخب التي يؤسس لها القرآن من أجل تحقيق قيمه التي هي شرط الاستخلاف من حيث هو أداء للأمانة. ويقتضي ذلك أن نبدأ ببيان التحريفات التي تصيب الفكر بتوسط النخب الممثلة لسلطة الرمز من صورة العمران الإنساني (=التربية) وسلطة الرمز من مادته (=الثقافة). فهذه التحريفات صنفان كلاهما ينتج عن إطلاقِ فصل وهمي في سلطة الرمز المتعينة في التربية والثقافة إطلاقا يزعمه أصحابه تنافيا بين العقل (=الفلسفة التي يجعلونها مقصورة على الهم الدنيوي) والنقل (الدين الذي يجعلونه مقصورا على الهم الأخروي) وهي في حقيقتها كما بينا في غير موضع مقابلة وهمية بين صورة المعرفة وأدواتها من جهة أولى ومادتها وغاياتها من جهة ثانية (وهو أمر لا يمكن أن يطمئن إليه أي مطلع على القرآن مهما كان اطلاعه سطحيا):

والصنف الأول يمثله طاغوت النخب الأصولية الفلسفية في التربية والثقافة تمثيلا مبدئيا وصريحا يلغي البعد الأخروي من أوليات الإنسان.

والصنف الثاني يمثله طاغوت النخب الأصولية الدينية فيهما كذلك تمثيلا عمليا ناتجا عن طبيعة تعاملهم مع الدنيا حصرا في العمل المباشر سياسيا كان أو شعائريا فلا تكون الدنيا بذلك مطية للآخرة لإهمالهم شروط الاستخلاف النظرية والعملية التي هي بالضرورة غير مباشرة أعني ما ظنه الصنف الأول الهم الوحيد للوجود الإنساني.

فالأصولية الفلسفية تمثل النوع الأول من الطاغوت لأنها تطلق قدرات العقل فتزعم العلم المحيط في متناول الإنسان وتنفي الوحي لظنها أنه يحط من شأن العقل ولا ترى أن نظرة الوحي القرآنية تعتبر العقل بمعناه السوي من أهم علاماته بل هو أحد أنواعه لذلك فالتلازم بين الحكم والكتاب من ثوابت آيات القرآن الكريم: أعني العلم الاجتهادي الذي يعلم حدودَه ورسوخُه يكون بقدر وعيه بهذه الحدود.

والأصولية الدينية تمثل النوع الثاني من الطاغوت؛ لأنها تطلق قدرات النقل فتزعم للأنبياء علما بالغيب نفاه عنهم القرآن ولم يزعموه لأنفسهم متصورة أن ذلك هو العلة الوحيدة للحاجة إليهم. وهي لا تزعم ذلك إلا لتدعي من بعد أن علماء الدين يرثون علم الأنبياء بإضمار تميز علمهم الديني على العلم العقلي والحط من شأن علوم الدنيا متناسين أن الاستخلاف من دونها ممتنع فضلا عن كون القرآن اعتبر تبين أن القرآن هو الحق مشروط بالنظر في الآفاق والأنفس للعلم بها.

فلا تكون المعرفة العقلية والمعرفة النقلية اللتان تتحدان في المرجعية الدينية الإسلامية كما يحددها القرآن هي الخطاب النقدي القرآني الذي ينبه الإنسان إلى امتناع إطلاق العلم عقليا كان أو نقليا لوجود الغيب المحجوب حتى على الأنبياء بل هي تتحول إلى وهم يقدم علما ينفيه أصحاب الطاغوت الأول عن النقل أو يعجز دونه العقل عند أصحاب الطاغوت الثاني. وبدل تبرير الحاجة إلى الجمع بين العقل والنقل بهذا النهي عن ادعاء الإنسان العلم والعمل المطلقين والمحيطين بموضوعهما أعني التحريفين الفرعيين الدالين على التحريف الوجودي أو تأليه الإنسان ذاته نرى الأولين يزعمون للفلاسفة ما لا يقدرون عليه ونرى الثانين يزعمون للأنبياء ما ينفيه عنهم القرآن جاعلين الغيب في متناولهم فيكذبونه من حيث لا يعون حتى يرثوا من الأنبياء علما لم يدعه أحد منهم

وثيقة النص المحمول ورابط تحميلها

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
آخر تحديث 05-04-2025
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي