لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله
– الفصل الاول –
أعتقد أن شباب الثورة بلغ درجة تقتضي أن يلج مستوى أرقى من شروط الثورة الفكرية التي تؤسس للتغيير الثوري الواعي بشروطه وأهدافه عملا على علم. وهوما يقتضي أن يفهم علة إبرازي دور المدرسة النقدية في الفلسفة العربية ممثلة بالغزالي وابن تيمية وابن خلدون ومحاولاتهم كشف علل انحطاط الأمة. ذلك أنهم ثلاثتهم يعتبرهم أدعياء الحداثة (وخاصة الاولين) علة الانحطاط والتخلف أعني عكس حقيقتهم تماما لخلطهم بين الحداثة وصورتها الاستعمارية. ذلك أن أدعياء الحداثة هم دواعش التحديث المستبد مثلما أن أدعياء التأصل هو دواعش التأصيل المستبد. كلاهما وثن القيم وردها إلى شكلها الميت. وسأبدأ بحثي بما يشبه الملحة: فكثيرا ما تسمعون المثقفين يرددون “الحكم على الشيء فرع عن تصوره”. وهذه الجملة من علامات الفكر المنطقي التقليدي. فأولا هذه الجملة تخلط بين دلالتها الإنشائية ودلالتها الخبرية. فإنشائيا هي تعني أن الحكم الصحيح على الشيء ينبغي أن يسبقه تصوره الصحيح. وإهمال هذا الوجه الإنشائي وتوهم الجملة خبرية يهمل شروط الوصول إلى التصور الصحيح. وما أن ندرك الفهم الإنشائي حتى نكتشف خطأ الجملة المطلق. ذلك أن التصور الصحيح لأي شيء لا نصل إليه إلّا بنقد الأحكام المسبقة المتعلقة به فيكون للحكم دلالتان: حكم سابق وحكم لاحق وبينهما التصور الصحيح. وبيان ذلك هو دور المدرسة النقدية التي أريد أن نفهم ما حققته من ثورات معرفية بقيت مجهولة بسبب الأحكام المسبقة اعتمادا على نظرية المطابقة. فلا وجود لتصور نهائي للشيء يمكن أن يتفرع عنه حكم نهائي على الشيء إلا إذا قلنا بنظرية المعرفة المطابقة: العقل مرآة عاكسة للحقيقة الخارجية. أولى ثورة غزالية لم يصغها في نهايات حياته -المنقذ- هي ما يمكن تلخيصه بهذه العبارة: “طور يكون للعقل ما العقل للحس “مفهوما حدا لقدرة العقل. وهذا الطور نفكر في إمكانه ولا نعلمه وهو مفهوم حد أفضل من مفهوم كنط الحد الذي يسميه الشيء في ذاته: لأن في هذا إضافة الحط من منزلة ما نعلم. الغزالي حد من وهم المعرفة المطلقة دون أن يحط من منزلة المعرفة الإنسانية. فالحد من قدرة العقل في علم الغيب لا ينفي قيمة علمه للشاهد من الوجود. فلنعد إلى الجملة الشهيرة حول الحكم والتصور، ففيها رؤية للمعرفة شديدة البدائية تجاوزتها المدرسة النقدية وأسست لرؤية حديثة ظنت معادية للفلسفة. وهو ما يدل على أن أدعياء الحداثة ما زالوا يعيشون على نظرية المعرفة القائلة بالمطابقة وبالعقل المرآة العاكسة لما يسمونه “الواقع” الموضوعي. وهذا بالذات هو ما سماه ابن تيمية القول بـ”الإنسان مقياس كل شيء” مع فهم أدنى من الفهم السوفسطائي الذي ينفي تجاوز العقل دون ادعاء المطابقة. ذلك أن السوفسطاية عندما تعتبر الإنسان مقياس كل شيء تحصر ذلك في الحد من قدرات العقل ولا تدعي أن ذلك هو حقيقة الوجود الموضوعي بل هي تنفي علمها. هي إذن دغمائية لا عقلانية. والدليل أنهم يتصورون المعتزلة وابن رشد عقلانيين رغم أنهما يقولان بالمطابقة بالعقل مرآة عاكسة لحقيقة الوجود. وتلك سذاجة نظرية المعرفة القديمة القائلة بالمطابقة وبشفافية الوجود وقدرة العقل المطلقة للنفاذ إلى حقيقته “على ما هي عليه” جملة أخرى ساذجة. والمدرسة النقدية تعتبر إدراك الوجود “على ما هو عليه” إن صح وجوده فلا يمكن أن يكون لغير الله: فالنفاذ المطلق للحقيقة يعني الإحاطة بكل شيء. ذلك أن اي شيء في العالم حتى المحسوس لا يمكن فصله عن كل أشياء العالم المحسوس ومن ثم فلا يعلم شيء علما مطلقا من دون علم كل شيء في العالم. وشرط الإحاطة في المطابقة والعلم باستحالتها لغير الخالق من أهم علامات وجود الغيب في كل موجود: ما نشهده منه لا يستوعب كل وجوده ولا يحيط به. فكيف ينبغي أن نفهم عبارة “الحكم على الشيء فرع عن تصوره”؟ تصوره هو بدوره حكم. فلكأننا قلنا الحكم على الشيء فرع عن الحكم الذي تصورناه به. فما الفرق بين الحكمين: الحكم الشارط للتصور والحكم المشروط به بماذا يختلفان؟ قبل أن نجيب فلنعد إلى تحليلات أرسطو الأواخر: ألم يقدم التصديق؟ وبتقديم التصديق الم يحدد نظرية الحكم قبل نظرية التصور؟ وتصور الحدود في القسم الثاني من التحليلات الأواخر جعله حكما حدسيا لا حكما قضويا. والحكم الحدسي إدراك لماهيات الذوات وليس حملا للصفات على الذوات. من ثم فمقومات الماهية ليست صفات محمولة على موضوع بل هي مقوماته (جواهر ثانية). فالحكم الحدسي أو إدراك الماهيات غير الحكم القضوي أو إدراك الصفات التي تحمل على الذوات أو الماهيات سواء كانت صفات ذاتية للذات أو عرضية لها. وهذه النظرية في المعرفة المبنية على العقل المرآة العاكسة للوجود الشفاف هي ما تجاوزته الفلسفة النقدية لكن الغزالي عاد فتبنى الرؤية المشائية. وهذا يعني أن الماهيات ليس حقائق الأشياء بل هي تعريفات فرضية مؤقتة في حدود ما توصل إليه علم الإنسان الذي هو تاريخي ومتغير بحسب تدرج المعرفة. صحيح أن ذلك لم يكن بهذا الوضوح: فأي مكتشف لنظرية جديدة ليس بالضرورة مدركا لكل ما يلزم عنها رغم أن ما يلزم عنها هو ما من دونه لا نفهم نقده. ووظيفة الشارح هي استخراج لوازم قول مبدع النظرية ومن دون ذلك لا يتقدم الفكر. وابن خلدون مثلا مدرك لكونه يعتبر نفسه مؤسسا لعلم سيطوره غيره. المضمر من لوازم نظريات ابن تيمية كثير أولا لأن فكره العميق جاء في شكل ومضات شديدة الوضوح لكنها غير محررة لتبرز نظرية المعرفة التي تؤسسها. والثابت عندي أنها لا تقبل الإدراج في الفلسفة القديمة والوسطية بل هي قطيعة جذرية مع نظرية المعرفة بشكليها الأفلاطوني والارسطي: ثورة فلسفية. وسأحاول في كلامي على ثورته أن أتجنب قدر المستطاع استعمال الاصطلاحات التي قد لا تكون متداولة فتستعصي على الفهم رغم أنها ضرورية لفهم التجدد. فالتجدد المتعلق بنظرية المعرفة (ابستمولوجيا) وتحديد العلاقة بين قدرات العقل وحقيقة الوجود (انطولوجيا) هما ما تبرز فيه ثورة النظر التيمية. ومن جنسها ما حققه ابن خلدون في فلسفة العمل. وابن خلدون أكثر نسقية من ابن تيمية لكن ثورته دون ثورة ابن تيمية جذرية وهذه شارطة لتلك ضمنا. وعندما نتم دراسة ما حصل من تغيير في نظرية النظر ونظرية العمل وفي التصور والحكم إلخ.. سنكتشف أن كل ما كان يعتبر بديهيا مبني على وهم المطابقة. ولعل أكثر ما يبدو بديهيا كالجواهر الثواني والفرق بين الأعراض أحكام مسبقة وحتى مبادئ العقل إلخ.. فالأولى علامات تعريف والثانية فرضيات عمل. فلا فرق بين الصفات التي تمكن من الرسم والجواهر الثواني التي تمكن من الحد فهي نظام يتأسس على نظرية المطابقة والعقل المرآة للوجود الشفاف. وكلها أحكام مسبقة نتجت عن هذه الرؤية التي لا شيء يؤيدها. فالإنسان حيوان ناطق والإنسان حيوان كذاب كلاهما يميزه عن غيره من الحيوان. وليس صحيح أن كل إنسان ناطق فالكثير من حكامنا بكم: مثال السيسي. وصحيح أن اغلب البشر كذابون وهذا يصدق كذلك على جل حكامنا كذابون: لا حاجة لمثال. يبدو المثالان مزاحا. لكن النطق والكذب مميزان للإنسان كإمكان يختص به دون غيره من الحيوانات. وهما إذن علامتان لا تقدمان العلم ولا تؤخرانه. وطبعا المثالان فيهما شيء من المزاح وقد يكون ثقيلا على الفصيلة التي اخترنا منها الأمثلة. ولهما علاقة بمقولة” الحكم على الشيء فرع عن تصوره”. الماهيات أو مقومات الحد التي تسمى جواهر ثوان – حيوان وناطق- لا معنى لجوهريتها بل هي علامات اختيرت لتعريف الإنسان وليست حقائق مطابقة. وحتى نفهم ذلك جيدا فلنأخذ مفهوم المثلث. فلو أبقينا تعريفه التقليدي في الهندسة الإقليدية واعتبرنا ذلك حقيقة المثلث لاستحال تجاوز هندسته. فنفهم أن تعريف المثلث منسوب إلى رؤية معنية للفضاء هي الرؤية التي تعتمد عليها رياضيات اقليدس. ولما غيرنا الرؤية أبدعنا رياضيات لا إقليدية. فهذه الثورة تفتح آفاقا جديدة. لم تعد نظرياتنا صورة مطابقة لما نفترضه واقعا بل هي صورة مبدعة لواقع أو لتعدد رؤى “الواقع” المفترض موضوعيا. فتبدو هذه النقلة مصدقة لـ”الحكم على الشيء فرع عن تصوره” لكنها تكذبها لأنها ينبغي أن تكون الحكم على الشيء فرع عن حكم يبدعه سابق أحكام تصفه. وهذا هو أساس كل العلوم الفرضية الاستنتاجية: تبدع مجالا وتخلقه عن عدم ثم تستنتج مما وضعته فيه بالفرض خصائص تترتب عليها فيكون نموذجا معرفيا. والنموذج المعرفي يسميه ابن تيمية “مقدرات ذهنية” لا وجود لها خارج الذهن تطابقه بل هي تستعمل نموذجا لوصف أي موضوع قابل للوصف به: كالرياضيات. وكان واعيا بأن ذلك يفتح أبوابا لا حد لها من العلوم إذ قال ذلك صراحة في نقد المنطق مبينا أن العلم الوحيد البرهاني لا يكون إلا من هذا النوع. إن الكثير ممن يتصورون المعتزلة وفلسفة ابن رشد عقلانية سيسخرون مما يبدو لهم سفسطة ولن يصدقوا أن نظرية العلم الحديثة تيمية بهذا المعنى. وقد قال الغزالي ساخرا من ضيق أفق الفلاسفة: ضيق الحوصلة (معدة الدجاج) لأن فلسفتهم مبنية على قيس الغائب على الشاهد المشترك بينهم والمتكلمين. وللسخرية قدم احجية: شيء من حبة قمح يأكل كل نباتات العالم؟ وهو شاهد وليس غيبا؟ فكل ما اكتشفه العلم الحديث لا نصل إليه بقيس الغائب على الشاهد. كل الاكتشافات العلمية إبداعات عقلية -مقدرات ذهنية- توضع وضعا ويستنتج منها خصائص وتطلب ظاهرات قابلة للتناظر مع النموذج المجرد مجال تطبيق. لكن لا أحد يقول بالمطابقة مع “واقع موضوعي” بل العلم من جنس الإبداع الأدبي بشروط تجريبية وتبقى مجهولة الطبيعة ونكتفي بتشاكلها مع النموذج. الفصل الثاني نعرض فيه نظرية ابن تيمية في علاقة علم المقدرات الذهنية مجال المعرفة البرهانية وعلم الظاهرات الخارجية مجال المعرفة التجريبية. وهي علاقة من دونها يمتنع أن يصبح التاريخ جزءا من علوم الفلسفة بخلاف ما كانت تنفيه الفلسفة القديمة التي تستثني التاريخي من العلمية عامة. وتلك علة حكمي باستحالة تأسيس محاولة ابن خلدون تأسيس علوم الإنسان على الفلسفة القديمة والوسيطة واستنادها إلى ابستمولوجيا جديدة تجعله ممكنا.
الكتيب