اذا غاب الخيال، فقد الرجال وحكم الشعوب الهبال


انطلق في هذه اللمحة من أسئلة تحير كل ذي عقل بسبب ظاهرة مذهلة لا يخطر على بال أحد أن يرى لها مثيلا في أي بلد سواء كان متقدما أو متخلفا إلا في تونس التي قام شبابها بثورة جعلها شيوخها عورة.
فتونس صارت بلدا مفلسا إدارته من المفروض الا تتجاوز إدارة شركة متوسطة مهما كان لها من أذرع عالمية.

1- فما الذي جعلها بحاجة إلى حكومة مؤلفة من 41 وزير؟

2- ولماذا يحتاج كل وزير إلى ديوان يـتألف مما لا يقل عن عشرين غفير ووزاك وخبير ومخبر وأجير؟

3- ولماذا تحتاج كل وزارة إلى 240 مدير؟
عشرة لكل وظيفة من وظائف الدولة في كل ولاية على الأقل ليشرفوا على خدمات الوزارة فيها

4-ولماذا يضاف إليها عدد من المديرين للشركات المملوكة لدولة هي دون بلدية في البلاد ذات السيادة وراشدة القيادة؟

5-فيكون السؤال الجامع:
ماذا يبقى للجزء الثاني من الميزانية إذا كانت ميزانية التصرف تأكل الأخضر واليابس؟
فكل ما ينتجه الشعب وكل ما تقترضه الحكومة لا يكفي لأجور هذا الجيش العرمرم الذي لا ندري ما الذي يحوج البلاد إليه غير توظيف المافية التي تحكم باسم مصلحة الشعب خاصة إذا علمنا أن نصف هؤلاء مخصص للطبقة السياسية والنصف الثاني للطبقة النقابية مع ما يعينه المسؤول الكبير.
وهو لم يبق واحدا بل تعدد بتعدد المخترقين لكل أجهزة الدولة والنقابات والأحزاب والجمعيات التي تسمى مدنية وهي مخابراتية.

سألت نفسي ما الذي يحصل لو طبقنا نفس المعيار على حكومة فرنسا أو أمريكا أو الهند أو الصين.
أما كان بنبغي أن نضرب 41 في 6 ثم في 35 ثم في 1000ثم في 1500 لنحدد حجم حكومات هذه الدول؟
ولكان على حكومة الهند أو الصين مثلا أن تعقد اجتماعاتها في ملعب رادس وليس في أحد مكاتب رئاسة الحكومة في القصبة.

ولا أحتاج للكلام على بقية العناصر التي ذكرتها.
فهذا وحده كاف لبيان حمق من يسير هذا البلد المسكين.
والأمر ليس جديدا.
لكن الجديد هو علته التي جعلت ما كان سيكون رحمة قد تحول إلى نقمة.
فتعدد القوى السياسية في جميع البلاد التي تسير أمرها بالديموقراطية يعتبر رحمة للتحرر من الاستبداد والفساد إذا كان تعددا معقولا وليس تفتتا يطابق ما تفتتت إليه الجماعة الوطنية من مافيات سيطرة الجراد والقراد على مصادر حياة العباد والبلاد.

لكنه صار عندنا تعديدا للاستبداد والفساد.
كانت تونس يحكمها استبداد وفساد لحزب واحد ولنقابة واحدة وقلة من المافيات يحكمها رئيس هو كبيرها حتى وإن شاركته للاه وأسرتها فتتضاعف المافيات مرتين.
لكنها اليوم صارت بعدد الأحزاب وبعدد النقابات (ليس العمالية وحدها) وبعدد الاختراقات وبعدد المافيات التي لم يعد لها زميم ولا زميمة.
فلكل هؤلاء زميم ولبعضها زميمة قد تعد ليلى أمامها ذات عقل راجح.

استحال إذن أن يتفقوا على حكومة من يدعون الثورية. واستحى البعض من أن يحكم مع من وسموهم بالرجعية يعني الإسلامية.
وادعى بعضهم أنه لا يحكم مع المافيوزية يعني المقرونية الظاهرة رغم غفلته عن الملالية الباطنة.
فكان لا بد إذن من مضاعفة عدد الوزراء ليرضى القدر الكافي عليها فتمر في مجلس غلبت على جل أعضائه البلاهة طلبا للوجاهة في عصر السفاهة.
فيكون حزام الأمان لحكومة آخر الزمان لكأنها مسافرة إلى ما وراء السماء فتحتاج إلى حزام الأمان:
صحيح أنهم سيسافرون لمد اليد والتسول من أجل دفع أجور الحكومة ومن وصفت.

فحتى لو أنفقت “الدولة” الدخل القومي الخام كله فإن ذلك لا يكفي لتحقيق أدنى شروط الخروج مما يوجد فيه البلد من معطلات للتنمية ولشرط شروطها أعني
▪︎ الرعاية وخاصة التربية وما يتبعهما من تكوين وتموين
▪︎ والحماية وخاصة الأمن الخارجي وما يتبعه من تكوين وتموين.
ومن ثم فكل الإشكال هو في عدم وجود الخيال الضروري لفهم طبيعة المشكل.
سأحاول بشيء من السخرية الجاحظية تسريح خيالي ولا أبالي:

تونس بلد صغير ليس له من الإمكانيات ما يجعله يتصرف وكأنه دولة عظمى وينسى أن شرطي قيام الدول ذات السيادة شبه منعدمين.
وما لدينا منهما إذا فهمنا هذه الحقيقة يمكن أن يحقق شروط احترام الذات فيفرض احترام الآخرين لنا.

ويمكننا عندئذ أن نحقق ما طالب به الشباب أعني الحرية والكرامة إذا علمناهم بالقول والفعل أنه للحرية وللكرامة شرطين هم قبل غيرهم مطالبون بهما:
1-الأول لا كرامة للمتسولين.
2-والثاني لا حرية للمطلبيين والعاطلين.

لكن تونس لا “يعمل” فيها إلا العاطلون بالفعل والعاملون بالاسم ناهيك عمن لا يعمل ويأمر وينهي في هذا النظام المافياوي.
والجزاء في نظام تونس متناسب عكسا مع العمل:
يكفي أن تقارن
▪︎ أجر كرونكور ثرثار بأجر أستاذ الجامعة مثلا
حتى تفهم القصد
▪︎ أو دخل قواد بهبار بدخل عامل الليل والنهار
في زراعة صارت آخر قطاعات الوطن.
قطاع تستورد مافياته الأمراض وتصدر خيراته لتحصل على العمولة مرتين في البيع وفي الشراء حتى “للخراء” يأكله الشعب مكره أخاك لا بطل.

ولعل أفضل مثال هو أن الإدارة التونسية بدءا
▪︎ بإدارة الدولة ووظائفها
▪︎ وإدارة الخدمات ووظائفها
كلها قابلة أن ترد إلى أقل من نصفها بل ما دون ربعها.
وهو ما يعني أن ثلاثة أرباع من “يعملون” بالاسم هم عاطلون بالفعل.
بمعنى أنهم لا يزيدون في الثروة بل ينقصون منها لأنهم يحصلون على أجور دون إنتاج قيمة سواء كانت بضاعة أو خدمة.
هل يوجد حل؟
نعم لا شك في ذلك:
ولكن
1-لا بد أولا أن تكون لنا الشجاعة لإطلاع الشعب على هذه الحقيقة.
2-ولا بد ثانيا أن نخطط لمراحل الخروج من هذا المأزق. ويمكن ان ينجز هذا في دورتين أي في عقد.
3-ولابد ثالثا أن نبدأ بالدولة وخدمات حكومتها بدءا بتعديل الدستور واختيار النظام الرئاسي الجنيس للنظام الأمريكي. وحينها يتبين أن تونس لا تحتاج إلى حكومات بما الفناه من كثرة دون بركة.

1- فيكفي أن يكون عدد الوزراء 10 لأن وظائف الدولة عشر لا غير:
خمسة للرعاية (هي التربية والاجتماع والثقافة والاقتصاد والبحث العلمي).
وخمسة للحماية (هي العدل والداخلية والخارجية والدفاع والاستعلامات).
2- ويكفي رئيس واحد للسلطة التنفيذية وهو رئيس الدولة في نظام رئاسي على النحو الأمريكي خاضع لمراقبة دائمة من سلطة تشريعية مضاعفة:
▪︎ نيابية
▪︎ وشيخية.
3- ويكفي أن يكون مجلس للنواب مؤلفا من أعضاء بعدد الولايات مضاعف أربع مرات.
ويكون فيه حضور للمرأة مع التخلص من خرافة المناصفة التي لا تفيد الإنصاف بل سخافة أعجز الناس عن بناء الأسر لأن جل المدافعين عن هذا المبدأ هم أفشل الناس على حياة سوية لا يكون جنس المرء هو المحدد للكفاءة أو للصلاح.
فيكون 24 في 4 نائبا ما يعني أن كل ولاية تقسم إلى أربع دوائر انتخابية.

4- ويكفي أن يكون مجلس للشيوخ مؤلفا من اعضاء بعدد الولايات مضاعف مرتين.
وينتخب شيخان في كل ولاية بوصفها دائرة انتخابية واحدة تختار بصورة يكون الافضل فيها حضور رجل وامرأة أو رجلين أو امرأتين بحسب ما يريده المواطنون على ألا يتجاوز المجموع المناصفة على أقصى تقدير.

5-فيكون مجموع النواب والشيوخ في المجلسين 96+ 48=144.
ومعهم رئيس الدولة
وعشرة وزراء
وذلك ما تحتاج إليه الدولة المركزية.

وكل ولاية يمكن اعتبارها نسخة من المركز بحيث يكون فيها 4 نواب وشيخ ورئيس للولاية منتخب منهم أو من سكان الولاية.
وهذا كاف.
ويمكن أن يكون هؤلاء غير أولئك أو عينهم لأن تسيير دويلة مثل تونس لا يحتاج إلى المزيد.

وأخيرا ففي الحالة الراهنة كيف يمكن الخروج من المأزق في انتظار تحقيق ذلك؟
الجواب قدمته الأحزاب:
فهي رفضت أن تكون حكومة سياسية ويستحيل أن تتفق على حكومة كفاءات وخاصة بشرط كون الكفاءات مستقلة وكلا المعنيين مستحيلي التحديد الذي يحصل حوله الإجماع.
وإذن فلم يبق إلا حل واحد حتى وإن بدا فيه شيء من الهزل :

1-أن يقدم النواب من كل ولاية اسمين يختارونهم من بين من يرونه ممثلا لمن يمكن أن يحصل حوله شبه إجماع في الولاية بحسب ما عرفت به الولاية من تخصص في الإنتاجين المادي (الاقتصاد) والروحي (الثقافة).

2-أن يراعوا الكفاءة الثابتة بالمعرفة النظرية وبالممارسة التطبيقية مع قيمة النظافة والاخلاق لعلاج الوظائف العشر التي ذكرت والتي لا يوجد غيرها في وظائف الدولة.

3-وأن تكلف لجنة من أفضل قضاتنا مع عدلين منفذين للقيام بعملية قرعة تختار منهم عشرة على أن يكون نصف الولايات ممثلا في نصف المدة النيابية الأول.

4-وأن يكون النصف الثاني الباقي ممثلا لبقية الولايات في النصف الثاني من المدة النيابية للقيام بهذه الوظائف.

5- ثم ينتخب مجلس النواب رئيس الحكومة لنصف المدة الأول ثم رئيس الحكومة لنصف المدة الثاني. ويكون النصف الثاني المؤجل عمله إلى النصف الثاني من المدة النيابية شبه حكومة ظل يستعد للقيام بالمهمة في النصف الثاني بأكثر كفاءة لأنه يكون قد استعد طيلة سنتين ونصف للقيام بمهمته.

وختاما فقد يعتبر هذا الحل للهزل والسخرية.
وإنه لذلك دون شك.

لكنه حل يمكن أن يخرجنا من مهزلة حالية لا توجد سخرية وكوميديا يمكن أن يتفتق عنها خيال مهما هوم وسرح ومرح يمكن أن تضاهيها في الهزل والسخرية والله أعلم.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
آخر تحديث 05-04-2025
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي