احتفال مجرمي الإنقلاب المؤقت و نفس الثورة الثاني – أو شرط انتصار الثورة في معركتيها المتوازيتين

تنبيه مدير الصفحة :

كتب الأستاذ أبو يعرب هذا النص بتاريخ 08 12 2012 لتحديد هوية الثورة والثوار وعلاقتها بالنهوض العربي الإسلامي وتحقيق الصلح بين الأصالة والحداثة المبدعتين. ومن ثم بالتناظر لتحديد هوية أعدائها. ونحن نعتذر للقارئ عن طول البحث وعن تعقيده. لكنه موجه إلى المؤمنين بالثورة وبدور الفهم الاستراتيجي لشروط نجاحها وليس للمتعودين من السوقة على الأكلات الخفيفة في الأسواق.
والمخاطب الأساسي بهذا النص هم الثوار من الشباب بجنسيه ممن يؤمنون بحاجتهم إلى الفهم العميق لطبيعة الرسالة التي تحملهم الأمة مسؤوليتها من أجل تحقيق شروط الاستئناف الذي هو آت لا ريب فيه وعدا من الله لا يتخلف.
نعيد نشره بمناسبة احتفال مجرمي الانقلاب في مصر بما يسمونه ثورة 30 يونيو أي بالانتصار المؤقت للثورة المضادة التي جمعت من يتكلم عليهم الأستاذ هنا بوصفهم أصحاب التحديث المستبد من محاربي الثورة وممثليها بعد أن اكشتفوا أن الشعب قد رفضهم في كل المناسبات الانتخابية وأقروا العزم مع الاقرار بعورتهم الأساسية : لا يمكنهم أن يحكموا إلا بالاستبداد والفساد في الداخل والتبعية في الخارج.

تمهيد:

هدف هذه المحاولة طلب المعاني التي تحرك شباب الثورة العربية فتيات وفتيانا وذلك بتحديد المنطق الذي يجعل حدوث أحداثها قابلا لأن يكون مادة حديث ذي بنية عقلية متناسقة. فعناصر ما يحدث في أي ظاهرة تاريخية إنسانية وطبيعة اجتماعها وتراتبها وتناسقها ليس ذلك كله بالأمر البين بنفسه. إنما هي مطلوب كل فكر يصوغ نظريا ما يحصل عمليا فيسعى إلى جعل أفعاله ذات نسيج عقلي يضفي على الأحداث تناظرا بين البنية الوجودية للحدث والبنية المنطقية للحديث المتعلق به.
ذلك أن الإنسان لا يستطيع أن ينزل فعله في بنية الحدث الوجودية من دون تناظر فرضي مع بنية الحديث المنطقية الحديث الواصف للحدث تأويلا لشروط ماضيه وتحليلا لشروط مستقبله. لكن افتراض التناظر بين البنية الوجودية المعطاة أحداثا في الأعيان تفرض نفسها على التحليل والتأويل والبنية المنطقية المبدعة فيهما تصورات في الأذهان مصوغة في العبارة الرمزية ذات الفاعلية المحركة للجماهير هذا الافتراض ينبغي أن يبقى فرضية عمل ومن ثم فلا بد أن يصحبه تسليم بأن رد البنية الأولى إلى البنية الثانية فيه شيء من التعسف إذا لم يكن صاحبه مدركا للدور الفرضي الذريعي لمثل هذا التناظر.
فالتناظر بين البنيتين الوجودية في حدث الأعيان والتصورية في حديث الأذهان ضروري للفعل. لكن إطلاقه ضار بالفاعلية التي تصبح في حالة الإطلاق حبيسة لنسق فكرها. عندئذ يتحول التحليل والتأويل إلى إيديولوجيا تعمي صاحبها. فهي تصبح حينئذ بديلا من العلم الذي يهديه. وحتى لا يقع شباب الثورة فتيانه وفتياته في هذا الخطأ القاتل للعمل نقدم لهم هذا لتأويل لما مضى والتحليل لما نتوقعه مما سيصحل في صوغ لحديث يقص الحدث السالف قصا يفهمنا دلالاته فيساعدهم على إبداع حديث يكون استراتيجية للحدث الخالف الذي سيكونوا صانعيه بإذن الله وعونه. وبذلك يفهم شباب الثورة أن زمان الفعل الإنساني مخمس الأبعاد وليس مثلثها كالحال في الزمان الطبيعي :
فحدث الماضي لا يؤثر حقا إلا بالحديث الذي يتعلق به قصةً تقصها الأمة عن ذاتها لتفهم بها ماضيها.
كما أن حدث المستقبل لا يحصل حقا إلا بالحديث الذي تبدعه الأمة فيكون استراتيجية تخطط بها لتحقيق أحلام أجيالها المتعاقبة.

إن الأخلاف أخلاف لأنهم يواصلون دائما ملاحم الأسلاف حتى عند القطع معها. فالقطع تواصل تجاوزي لا يمكن أن يتحدد إلا بالتضايف بين الحديثين الحديث الذي يؤول الماضي تأريخا للفعل السابق والحديث الذي يحلل المستقبل تأسيسا للفعل اللاحق. وعندما يبلغ هذا اللقاء بين الحديثين ذروته فيكون تأويلا لحدث الماضي وتأسيسا لحدث المستقبل متلاحمين تلاحما صداميا تكون الأمة في مناخ ثوري. وتلك هي المهمة التي أنجزها شباب العرب الحالي وهي بداية لعودة إلى التاريخ الكوني عودة لن يوقفها شيء حتى لو تحالف كل رجعيي العالم ومصاصي دم أهله. ذلك ما نحاول المساهمة في فهمه على النحو الموالي.

المسألة الأولى: الإشكاليات ما هي؟

لو كانت العوائق التي تعترض السعي لتحقيق أهداف الثورة مقصورة على معركة بين ثورة وثورة مضادة ومنحصرة في البعد السياسي والاجتماعي من مطالب الشعب القابلة للعلاج دون طغيان البعد الدولي من أوجهها لكانت المعركة بسيطة. والمعلوم أن هذا الطغيان ذو وجهين:
الأول هو مجرد الدفاع عن الأنظمة التي قامت الثورة على جنسها كما حصل في الثورة الفرنسية التي تألبت عليها كل ملكيات أوروبا للإطاحة بها وقد فعلت لكنها لم تنجح في ذلك حقا إلا بأخذ قيم الثورة لسحب البساط من ممثليها.
والثاني الدفاع عن نمط حضاري مختلف عن النمط الحضاري الذي تمثله الثورة. وكلاهما موجود في ثورتنا لكن النوع الثاني أكثر تأثيرا رغم أن كلا الوجهين موجود وله ممثلون يخوضوع معركة كاريكاتورية من معركة الأمة.

وكلاهما متنكر في دعوى عامة :
الأولى تتكر في دعوى التحديث وحقوق الإنسان.
والثانية تتنكر التأصيل والحفاظ على الأصول.

والنجاح كان في حالة الاقتصار على المعادلة الداخلية يكون يسيرا لو لم توضع في طريقه هذه المعركة الكاريكاتورية بين منتحلين لطفي المعركة الفعلية الجامعة بين التأصيل والتحديث المبدعين. ذلك أن مجرد انقداح الشرارة الثورية هو في الغالب من العلامات على أن القوى المضادة لمطالب الشعب فقدت المبادرة فيكون الزخم الأول لحصول الثورة كافيا لجرف جل العوائق على الأقل في طور عنفوانه الأول.
ففي مثل هذه الحالات يكون بوسع الثورة في الغالب أن تطبق منطقها فتغير بصورة ثورية مناخ الفعل ومن ثم تيسر مسعاها نحو اهدافها. فالثورة في هذه الحالات يمكن أن تتصرف بحرية أكبر فلا تكون مقيدة بالقوانين التي وضعها النظام الذي ثارت عليه بل هي تكون مشرعة بإطلاق للعلاجات وللإجراءات الممكنة من تنفيذها.
لكن العوائق في حالة الثورة العربية الحالية ليست مقصورة على البعد السياسي والاجتماعي بل هي تمتد إلى البعد الثقافي والحضاري اللذين يعسر الحد من وجوههما الدولية التي تغرق البعد الأول في البعد الثاني لتعطيل النهوض. فهذا البعد الثاني دولي بالجوهر ولا يمكن للثورة أن تحصل على الاعتراف الدولي بشرعيه أفعالها- أو على الأقل على حياد القوى المؤثرة في الساحة العربية تأثيرا يكاد يكون محددا لما تستمده منها القوى المضادة للثورة-ما لم تكن مستوفية للمعايير التي تفرضها علاقات القوة الدولية على خيارات الشعوب القيمية. لذلك كانت معركة الثورة العربية معركة مضاعفة:
1-فهي معركة ضد الفساد والاستبداد في المجالين الاقتصادي والاجتماعي القابلين لتغليب الوجه المحلي فيهما على الوجه الدولي رغم أن الفساد والاستبداد يستند إلى مافيات دولية تدعم المافيات المحلية وتحاول أن تدافع عن المصالح بنقل المعركة إلى المستوى الثاني.
2-وهي معركة ضد الفساد والاستبداد في المجالين الثقافي والحضاري اللذين يجعلان العالم الإسلامي خاضعا للابتزاز وخاصة منذ أن وضعت إشكالية فرض النمط الحضاري واعتبار كل محاولة للاستقلال الثقافي والحضاري دعما لثقافة الإرهاب المزعومة.

فيكون الإشكال جامعا للأبعاد التالية:

1-البعد الأول:

كيف نتجنب عودة فكر الثورة إلى مبدأ الصراع الطبقي فنحكم على الاقتصاد التونسي بالذهاب إلى الإفلاس المادي المحقق بدعوى تحقيق العدالة الاجتماعية كالحال عند الشعوب التي ما تزال تتمسك بنهج توزيع الثورة المستبد المشروط بتجفيف منابع الإبداع المادي؟
ويمثل هذا التوجه القطب الثالث في جل البلاد العربية التي حصلت فيها ثورة الربيع العربي أو ما يسمى بالحركات الشعبية التي تألفت أخيرا وتكاد هذه الحركات أن تجعل الثورة مقصورة على المطالب المباشرة أعني المطالب الاجتماعية والاقتصادية. ويمكن أن تدعي أنها تدافع عن المستضعفين شعبيا وعن الجيل الثاني من حقوق الإنسان نخبويا. لكنها في الحقيقة لا تدافع عن أي منهما لأنها في الغاية فسدت بعد أن تعينت حقيقتها في مجرد الدور الأيديولوجي للنخب التي تريد أن تستمتع بوهم الدور الثوري دون ما يترتب عليه من تحقيق لشروط نجاحها شروطه المتنافية مع رفاههم أعني ما به يستتبعهم أصحاب المال والأعمال. ومن ثم فهم في الغاية مجرد واجهة أو فترينة للجمع المخادع بين الخطاب الثوري والسلوك المضاد لقيم الثورة.

2-البعد الثاني:

كيف نتجنب عودة فكر الثورة إلى مبدأ الصراع الحضاري فنحكم على الثقافة التونسية بالذهاب إلى الإفلاس الروحي المحقق بدعوى تحقيق الحداثة الحضارية كالحال عند الشعوب التي ما تزال تتمسك بالتحديث المستبد المشروط بتجفيف منابع الإبداع المشروط بعدم التبعية الروحية؟
ويمثل هذا التوجه القطب الثاني أو ما يسمى بالنزعة الحداثية الليبرالية التي هي بصدد التألف. وتكاد هذه الحركات أن تجعل مطالب الثورة مقصورة على المطالب غير المباشرة السياسية والثقافية. ويمكن أن تدعي أنها تدافع عن الحريات شعبيا وعن الجيل الأول من حقوق الإنسان نخبويا. والحال هنا كذلك من نفس الجنس رغم أن النخب هنا أبعد عن الحس الشعبي من النخب هناك. لكن هذا البعد لا يلغي أن منطق الاستتباع بسد الحاجة المباشر يجعلهم هم الموظفين للنخب السابقة في عملية التغطية على الثورة المضادة والسعي لاستعادة النظام الذي وقعت عليه الثورة.
وبذلك فكلا الصفين اللذين يدعيان تمثيل الشعب أدناه وأعلاه اجتماعيا أعني النخب اليسارية والنخب الليبرالية المزعومتين اللتين يوحد بينهما موقف عدائي صريح أو ضمني للأمة واستئناف دورها يعتبر الإسلام السياسي معاديا لحقوق الإنسان بجيليهما وذلك لتقديمه الجيل الثالث في شكل معكوس إذ هو لا يدافع عن ثقافة أقلية مغلوبة ضمن ثقافة أغلبية غالبة بل هو يدافع عن ثقافة الأغلبية المغلوبة ضمن ثقافة أقلية غالبة (وطنيا ودوليا).
لكن كلتا النخبتين اليسارية والليبرالية تتستر عن خيارها العميق الذي يتثمل في العداء المبدئي للحضارة العربية الإسلامية لئلا تظهر موقفها الاستئصالي إزاء كل ما هو إسلامي مواصلين سياسة تجفيف المنابع والتحديث المستبد الذي هو الشكل الذي أصبح عليه لما كان المستعمر قبل الاستقلال يسميه المهمة التحضيرية للبدائيين من أهل البلاد المستعمرة.

3-البعد الثالث:

والمشكل الجامع بوجهه الموجب بالنسبة إلى الحركات الإسلامية التي لا تزال عاجزة دون تحقيق الصلح بين القيم التي تدافع عنها والتي تقبل الرد إلى الجمع بين فاعلية النظام الرأسمالي اقتصاديا وفاعلية النظام الاشتراكي اجتماعيا جمعا يتأسس على قيم الإسلام التي يمكن اعتبارها عين المرجعية التي من دونها لا معنى لسياسة إسلامية. وذلك بصرف النظر عن اعتدال هذه الحركات أو عدم اعتدالها هو أنها تشترك:
1- مع الصف الأول في مطلب العدالة الاجتماعية أو الجيل الثاني من حقوق الإنسان. لكنها تفعله بصدق وليس مجرد شعار سياسي في الخطاب المنافي للسلوك الفعلي لأن هذا الصف متحالف بالجوهر مع العسكر ومع الليبرالية في معاداتهما للقيم الإسلامية وللنهضة العربية الإسلامية غير التابعة.
2- وتشترك مع الصف الثاني في مطلب الحريات والاقتصاد الحر أو الجيل الأول من حقوق ا لإنسان. لكنها تفعله بصدق وليس مجرد شعار سياسي في الخطاب المنافي للسلوك الفعلي لأن هذا لاصف متحالف بالجوهر مع من يجعلهم في خدمة ليبرالية مسيطرة عليهم بصورة تفقدهم المبادرة والطموح والاقتصار على الاقتصاد التطفلي العائش على فضلات الاقتصاد الاستعماري.

4-البعد الرابع:

والمشكل الجامع بوجهه السالب بالنسبة إلى الحركات الإسلامية التي وصفنا تعثرها النظري وعلل عجزها عن تحقيق الصلح بين الأصالة والحداثة المبدعتين تحقيقا ينزع أسلحة أعدائها الذين يستأسدون عليها بالسند الغربي يتمثل في كونها:
1- تختلف مع الأول برفض الاستبداد السياسي وسيطرة النموذج البلشفي لإيمانها بالدور الأساس للمجتمع المدني بمعناه الأهلي لا بمعناه المستورد.
2- وتختلف مع الثاني برفض الاستبداد الثقافي وسيطرة النموذج الغربي لإيمانها بالدور الأساس للقيم الروحية والخلقية النابعة من التجربة التاريخية للأمة.

5-البعد الأخير:

فكيف يتعين الوجه الموجب وكيف يتعين الوجه السالب في التاريخ الفعلي ليتحقق الصلح بين قيم الإسلام المتحررة مما علق بها خلال عصور الانحطاط وقيم الحداثة المتحررة من منطق الاستعمار: ذلك هو المقصود بتحقيق أهداف الثورة التي هي في الحقيقة أهداف حركة الإصلاح المتقدمة على ما يسمى بحركة النهضة في القرن التاسع عشر أعني الحركة التي بدأت مع تجاوز الصراع بين الكلام والفلسفة في النظر وبين الفقه والتصوف في العمل لتأسيس فلسفة الدين وفلسفة التاريخ المبنيتين على مفهوم الحرية والمسؤولية وكونية المناهج النظرية والقيم العملية في التاريخ الإنساني (أي في القرن الثامن الرابع عشر بفضل ثورتي ابن تيمية في النظر والعقيدة وابن خلدون في العمل والشريعة).

المسألة الثانية: هوية الثورة والثوار ما هي؟

للخلاف حول هوية الثورة العربية التي بدأت في تونس وحول تحديد الثوار مستويان متوالجان يحولان دون تحديد هذه الهوية تحديدا قابلا لفهم الأحداث ومجراها فيهدينا في حديثنا حولها وبيان أهميتها في تاريخ الأمة باعتبارها تمثل بداية العودة إلى التاريخ الكوني العودة المسهمة بصورة فعلية والمحررة من الاقتصار على الانفعال:

هوية ما حدث في الربيع العربي

فالمستوى الأول يتعلق بهوية ما حدث في الربيع العربي هل هو ثورة أم مؤامرة (كما يدعي أعداء تحرر الشعب العربي والأمة الإسلامية) ومن ثم فهو مستوى يتعلق بسلب نسبتها إلى العرب بمعنيين أي:
1-نفي أن يكونوا هم الفاعلين بل الفاعل أجنبي (نظرية المؤامرة الخارجية) وإن بأيد عربية هي في العلن الشباب الذي جندته أدوات التواصل الاجتماعي وفي الخفاء النخبة الإسلامية التي جندتها أجهزة الاستعلامات الغربية.
2-وحتى الأدوات فهي منفي عنها كونها انفعلت بوصفها عربا بل إن أهل كل قطر قاموا بثورتهم انطلاقا من هويتهم القطرية فتكون الثورة تونسية ومصرية وليبية إلخ….ومن ثم فليس لها بعد عربي فضلا عن البعد الإسلامي.

هوية الدافع الذي حرك الشعوب العربية

والمستوى الثاني يتعلق بهوية الدافع الذي حركها هل هو فكر ثوري حقيقي يشمل كل مقومات البناء الحضاري والروحي للأمة أم هو مجرد رد فعل على وضع اجتماعي واقتصادي. ومن ثم فهذا المستوى يتعلق بسلب نسبة الثورة إلى خاصية مميزة لفكر معين من أطياف الفكر العربي الحالي بمعنيين كذلك أي :
1-نفي علاقة الشعارات التي رفعت في الثورة بنواة محددة قابلة لأن تؤول تأويلا يمكن من تحديد نوع من الفكر كان وراء الحركة التي سميت بالربيع العربي حصرا إياها في علاقة مباشرة بالمؤثر الاقتصادي الاجتماعي.
2-وبصورة خاصة نفي أي علاقة بين هذه الشعارات وقابليتها لتأويل يصل دوافع الثورة بما نتج عنها في ما ولاها من احداث أهمها نتائج الانتخابات واختيار الشعب لمن يتولى الحكم باسم مطالب الثورة.

ولعل الشعار الجامع لهذين السلبين هو نفي أن تكون الثورة ذات مضمون فكري معين يحدد طبيعة القيادة الفعلية للثورة قصرا لها على الوجه الاقتصادي الاجتماعي من الهموم التي حركت العاطلين عن العمل في الجهات المحرومة خاصة.

مضمون النقاش

وما أريد مناقشته لإثبات عكسه بالأدلة العقلية والتاريخية هو هذين التعريفين السلبيين بفرعيهما كليهما وصولا إلى بيان سطحية الشعار الجامع بين السلبين وبحثا عن العلل العميقة لحدوث الثورة في الوطن العربي وعلى النحو الذي وقعت عليه وما أدت إليه من نتائج كانت قبل الانتخابات الدور المؤثر والحاسم للحركات الإسلامية في تواصل الفعل الثوري وبعدها حصول هذه الحركات على الأغلبية البينة رغم كل المناورات التي جمعت بين الثورة المضادة ومن يحاول أن ينسب الثورة إليها من المزعومين حداثيين وتقدميين سواء انتسبوا إلى اليسار أو إلى الليبرالية أو إلى القومية العربية.

الاستدلال بالخلف

سأعتمد منهج الخلف لدحض الشعار الجامع بين هذه السلوب كلها منهجا يمكن تلخيصه في هذه المفارقة. فإذا كانت الثورة خالية من المضمون الفكري وعديمة القيادة فكيف يمكن تفسير ما جرى:
أ-بعد ذروتها التي أطاحت برؤوس الأنظمة العربية في تونس وفي مصر وفي ليبيا وفي اليمن وهي ذاهبة إلى الإطاحة برأس النظام في بقية البلاد العربية كما هو بين مما يجري حاليا في سوريا.
ب-وخلال تواصلها على بقايا النظام إلى أن فرضت العدوى التي جعلتها في طريقها إلى شمول كل الوطن العربي فيحصل الامتحان الديموقراطي الذي يعين القوى السياسية المؤثرة في المجرى السياسي للشأن العام ؟

فرضية العمل التي أقدمها هنا استمد منها تفسيرا مقبولا عقلا لكونه يمكن من وصل الأحداث بعضها بالبعض ومن ثم فهي فرضية تمكن من فهم معنى الأحداث ومغزاها. وسأضعها في شكل سؤال أصوغه إيجابا وسلبا:
1-فإيجابا ألا يمكن تفسير هذه النتائج بكون الفاعل الحقيقي في أحداث الثورة هو عينه الفاعل الذي تمكنت الثورة بفضله من التواصل إلى أن حصلت الانتخابات التي حددت ما كان خفيا أعني الفائز فيها باعتباره الفاعل الحقيقي خلال كل الأحداث السابقة؟
2-وسلبا لو كان غيره- الذي يدعي أنه هو الفاعل الحقيقي- هو حقا الفاعل الحقيقي فكيف نفهم وزنه الملاصق للصفر كما أظهرته الانتخابات وكيف يمكن أن يكون قبل الثورة أقوى مما أصبح بعدها أم إن معجزة حصلت فجعلته رغم خفة وزنه محركا للتاريخ في الثورة وعاجزا دون أي وجود ذي دلالة بعدها مباشرة ؟

والشكل السلبي يمكن صاحب الفرضية من الرد على المعترض على الفرضية بعدم بروز الصفة الإسلامية للفاعل قبل الحدث السنام أعني سقوط رؤوس الأنظمة الرد بأن الفاعل الحقيقي في الثورة قد اختار سرية العمل التي اعتاد عليها في الوضع المتقدم عليها فلم يبرز هويته لعلتين : 1-إحداهما تخص الموقف من تناقض القوى العلمانية التي كانت حليفة النظام ثقافيا رغم كونها خصيمته سياسيا. 2-والثانية تخص الموقف من بطش النظام الذي كان حائلا دون العمل السياسي العلني للقوى الإسلامية:
فأولا كان التخفي طريق الحركة الإسلامية لتجنب خوض معركة مع حلفاء النظام ثقافيا رغم معارضتهم السياسية له أعني الحداثيين سعيا لتحقيق الإجماع حول أهداف الثورة المشتركة بين كل القوى السياسية في المجتمع تجنبا للخلافات الإيديولوجية التي كانت متوقعة وهي قد حدثت فعلا بعد الثورة: فمن دون هذا الشرط كان تحقيق الجبهة الثورية شبه مستحيل.
وثانيا كان التخفي طريقا لتجنب سطوة النظام الحائلة دون هذا الفاعل ومجرد الوجود فضلا عن البروز في قيادة الثورة فكان من المفيد للقوى الإسلامية التخفي والاقتصار على الوجه الاقتصادي والاجتماعي وخوض المعركة السياسية مع النظام بصفة مدنية خالصة: ومن دون هذا الشرط كانت المشاركة الجماهيرية تكون مستحيلة بعد ما أصاب الإسلاميين من عنت وتعذيب.

وهذه الفرضية تحققت في كل الحالات التي تنتسب إلى الربيع العربي أي في تونس ثم في مصر ثم في ليبيا (رغم تقدم الليبراليين في الانتخابات لأن الليبرالي الليبي أكثر تشبثا بإسلامية الثورة الدولة من الإسلامي في تونس حتى لا يسيء التأويل بعض علمانيينا في فهم ما يجري في ليبيا) ثم في سوريا ثم في اليمن.
وإذن فالثورة إسلامية الجوهر لكن بإسلام غير استئصالي للعلمانية والليبرالية بخلاف الموقف المقابل أي إن العلماني والليبرالي استئصالي لأنه يعلم أنه لا حظ له في الوصول إلى الحكم ديموقراطيا لعدم قبول الشعب بأفكاره وخياراته قبولا طوعيا ومن ثم لحاجته إلى الاستبداد والفساد طريقين لحكم الجماعة عنوة.
ذلك أن الحركات الإسلامية التي ولت حقبة الشتات وعانت من عنف الأنظمة المستبدة والفاسدة في النصف الثاني من القرن الماضي اكتشفت أن الفصل بين الوجهين السياسي المدني والثقافي الروحي ليس شرطا مقصورا على مسالمة القوى السياسية العلمانية في الداخل (وهي لا وزن لها إن نظر إليها معزولة عن سندها الخارجي) بل هو بات شرطا في وجودهم السياسي وبصورة أدق في الاعتراف الدولي به وخاصة منذ أن أصبح العالم الإسلامي محوطا بالأقطاب الأربعة المتنافسة على استعماره من جديد والمساندة للقوى العلمانية في الوطن العربي ليس حبا في العلمنة بل موطئ قدم للحيلولة دون وحدة العرب والمسلمين: أمريكا بمعية إسرائيل ثم أوروبا بمعية إسرائيل ثم الصين بمغازلة إسرائيل والهند بنفس المغازلة.
وبذلك يتبين أن إسرائيل صارت اللاعب الأساسي في كل ما يجري في الوطن العربي من مفاعيل الثورة المضادة وبات حلفاء حلفائها الذين لا يستمدون الوجود إلا من ولائهم لهم يتهمون الحركات الإسلامية بالتحالف الخفي معهم لظنهم أن قبول الغرب بالإسلام السياسي أمرا كان الغرب فيه مختارا وليس خاضعا لواقع الأمر بعد أن أفلست القوى التي حاول مساندتها إلى أقصى حد وهي القوى التي كان جل اليسار الذي صار ليبراليا بعد سقوط الاتحاد السوفياتي حليفا لها.
فعميل الغرب وإسرائيل من العلمانيين والليبراليين العرب عميلهما بالجوهر بات يلقي بأوصافه تهما على غيره -أي على الإسلاميين خاصة وعلى الثائرين عامة-بفعل إسقاط يكفي لدحض القول السخيف به أن يكون مدعونه لا شرعية لهم إلا ما يستمدونه من تأييده لهم بما يملكه منه سلطان على الإعلام والاستعلام وتلميع القيادات الزائفة التي تدعي الدفاع عن حقوق الإنسان بشرط ألا يكون من الأنديجان (=أهل البلد الأصليون المظنونين متخلفين وبحاجة إلى رسالة الاستعمار التحضيرية).
وكل محاولات التركيز على إحراج الحركات الإسلامية التي نجحت في الانتخابات بطلب سياسية هوجاء إزاء التعامل مع وقائع السياسة الدولية-مثل مطالبة إخوان مصر بالتنصل من اتفاقية منتجع داود- ليس إلا من المناورات السفيهة التي تتهم أصحابها أكثر من اتهام من يحاولون إحراجه بها. وهذا هو الجديد الذي ينبغي شرحه بعد تقديم الأدلة على صحة توصيفنا للقوى العلمانية ليبرالية كانت أو من بقايا الاشتراكية.

رجعية أصحاب التحديث المستبد والفاسد فيم تتمثل؟

فمن المفارقات الغريبة أن مدعيي تمثيل الفكر الحداثي في بلدنا خاصة وفي كل البلاد العربية عامة-العلمانيون والليبراليون والقوميون- قد جمعوا كل الخصائص التي تحشرهم في تمثيل الرجعية بكل المعاني السياسية والاجتماعية والقيمية ما يجعل تحالفهم البين مع بقايا النظام الذي أزاحته الثورة يصبح أمرا مفهوما خاصة وقد صاحبه لومهم الصريح والملح للغرب الذي قبل مضطرا وجود الإسلاميين السياسي حتى بعد أن تبين أنهم أقرب الجماعات السياسية القادرة على الحكم الديموقراطي لعدم الحاجة إلى الاستبداد والفساد في ظل القبول الشعبي لبرنامجهم.
لذلك ترى أصحاب التحديث المستبد -العلمانيون والليبراليون والقوميون-لا يكتفون بهذا اللوم بل هم يدعون الغرب للتدخل من جديد كما فعل في الجزائر وغزة إما صراحة أو بالتشويه النسقي لما يجري من خلال تهويل بعض مظاهر العنف الملازم لكل الثورات في التاريخ الإنساني.
ويمكن أن نحصي هذه الخصائص بصورة نسقية تصلها بمنبعها وبمصبها. ولكل من المنبع والمصب خاصيتان. والخصائص الأربع تحدد الوجه الغالب على الحياة السياسية في الأقطار التي حدثت فيها ثورة الربيع العربي وخاصة بعد ما بينت الانتخابات أنهم لا وزن لهم سياسيا رغم استحواذهم على الواجهة الإعلامية وكثرة ضوضاهم الشائعاتية:
1-فأما خاصيتا المنبع فتحددان هوية هذه الطائفة والأساس الذي تعلل به وجودها الطائفي. إنهما خاصية الدغمائية المعرفية (دعوى العقلانية المطلقة القائلة بمركزية اللوغوس دون فهم للمتربات عليها) وخاصية الدغمائية العقدية (دعوى حقوق الإنسان القائلة بمركزية الإنسان دون وعي بما يترتب عليها من تهديم نسقي للكون وللثقافات المختلفة عن الثقافة المهيمنة).
2-وأما خاصيتا المصب فتحددان سلوك هذه الطائفة السياسي والخلقي وهما التعالي على الشعب (دعوى النخبة القائدة) والانغلاق القطري (دعوى المواطنة القطرية).

وتعود كل هذه الخصائص إلى جذر وحيد هو استبطان ذهنية المستعمر وتحولها إلى اغتراب مطلق في التطابق الهووي معه. فكان المآل نوعا من الوجود التابع تحول إلى جوهر ثابت هو التبعية الحضارية التي أدت إلى سلوك استعماري يعامل المواطنين باعتبارهم أهالي من طبقة دنيا أو بلغة استعمارية قحة هم “انديجان”. وهذا الموقف المتعالي على الشعب هو أساس النزعة الاستبدادية القائلة بالمهمة التحضيرية التي كلفوا بها لتحويل مقومات الأمة الحضارية بدعوى تحضيرها وتحقيق الحداثة.
لذلك فكل القيم الحداثية التي يدعون تمثيلها لا يتصورونها حقا مشاعا للبشر جميعا بل هي لا تكون عندهم مستحقة إلا لمن أصبح مثلهم مستعمرا ذهنيا بمعنى أنه لا يعد إنسانا إلا إذا كان شبيها بمن احتل أذهانهم. فيكون التعريف الحقيقي للمواطن عندهم هو كل من قبل بأن يصبح مثلهم عبدا لسيدهم لفرحهم بوظيفة الوسيط الأسياد والانديجان. وفي ذلك يكمن دورهم مواصلة للمهمة التحضيرية للانديجان.
ويكفي أن ينظر المرء بتجرد للقصة التي ختم بها السبسي خطابه الأول قبل تولي مهمة رئاسة الوزراء الثالثة للثورة المضادة حتى يعلم أن الشعب في رايهم ليس جديرا بأن يحكم نفسه بنفسه. وما حجج حصر الكفاءة والقدرة على الحكم في التكنوقراط الذين ينتسبون إليهم إلا من ثمرات هذا التصور التحقيري للثورة وما أفرزته من قيادات جمعت بين شرعية المقاومة المتقدمة على الثورة وشرعية الانتخاب الموالية لها.


احتفال مجرمي الإنقلاب المؤقت و نفس الثورة الثاني – أو شرط انتصار الثورة في معركتيها المتوازيتين – أبو يعرب المرزوقي

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي