لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله
محمد أحمد جميل
ولقد جاء رأي البروفيسور المرزوقي، ردا على سؤالي التالي:
” ثمة رهان في طروحاتك الفلسفية على إعادة قراءة ابن تيمية من أفق معرفي جديد كيف تشرح لنا ذلك ؟ “
فأجاب اجابة مستفيضة هي:
ينبغي أولا الاعتراف بأن النفاذ إلى فكر ابن تيمية يبدو شبه ممتنع الآن. ذلك أن الحائل الإيديولوجي والذاتي ــ وقد أصبح ورقة سياسية يستعملها حتى المنتسبون إلى مذهبه ــ تبرئة لأنفسهم من تهمتي الإرهاب والتكفير.
فعدم قابلية الرجل للخضوع إلى معايير التصنيف التقليدية التي صُبَّ فيها تاريخ فكرنا الوسيط بفروعه الخمسة ــ عمليِّها ونظريِّها ــ وبأصلهما معا وهي: الفقه وأصوله ــ والتصوف وأصوله ــ والكلام وأصوله ــ والفلسفة وأصولها ــ وأخيرا؛ أصل الأصول جميعا؛ أي الصلة الحميمة بين النص المؤسس (الأصل الرمزي الذهني) والوجود عامة والوجود التاريخي خاصة (الأصل الفعلي العيني) جعلا فهم ثورة ابن تيمية ــ التي حاولت بيانها بالتكامل مع ثورة ابن خلدون ــ غاية القرن الثامن كما كانت ثورة بدايته.
فلا يمكن أن تنسب فكر ابن تيمية العملي القانوني إلى مذهب فقهي محدد لأنه تجاوز المذهبية ليس تجاوزا تلفيقيا بانتخاب الحلول المناسبة منها جميعا.
ولا يمكن أن تنسب فكره العملي الخلقي إلى طريقة صوفية محددة لأنه تجاوز الطرق إلى المجاهدة التي تناسب فهمه العميق للقرآن الكريم.
ولا يمكن أن تنسب فكره الكلامي إلى فرقة كلامية محددة لأنه تجاوز الفرق إلى البحث في مسائل الإيمان والعقيدة تجاوزا ليس له مثيل.
ولا يمكن أن تنسب فكره الفلسفي إلى مدرسة فلسفية سابقة لأنه أنهى عصرا وفتح عصرا جديدا في الفكر الفلسفي.
لذلك فليس من اليسير التغلب على هذا العائق الموضوعي لفهم فتوحاته الفلسفية لأن جل قرائه يقتصرون على مرجعيات كلها لا تمثل إلا ماضيا تجاوزه فكره حتى وإن كان فكرهم حبيسا فيه. وأغرب أمر يحيرني هو أن المعجبين بفكر ابن رشد مثلا لم ينتبهوا أن الرجل لم يكتف بالانطلاق من محاولته استعادة الفلسفة القديمة بنقد الفلسفة العربية الإسلامية ومشاركته الكثير من مواقفه من الكلام والتصوف والفقه وحتى من الفلسفة الإسلامية عامة والسينيوية خاصة وخاصة في فهم القرآن الكريم بذاته لمشاركته نفس الموقف من التفسير المناسب لفهم القرآن الكريم.
والمعلوم أن الرجل قد خاض بحمية وحماسة نوعين من المعارك:
وسنقتصر على الثانية. ونسمي فعلية المعارك التي شارك فيها ابن تيمية بفعله وليس بفكره وكتاباته. وهي طبعا من ثمرات فكره وكتاباته. وأهمها جهاده واجتهاده في تحديد انحيازاته التاريخية. ويكفي أن نقول عنها إنها إذا قيست بما نعيش اليوم تقبل الوصف بكونها ميالة لصف الثوار منها لصف الثورة المضادة داخليا ولصف الأمة منها لصف أعدائها في عصره. وهم يكادون يمثلون نفس الصف: الباطنية والطائفية في الداخل وبقايا الصليبية الأوروبية وبربرية مغول الغرب (الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي سابقا والروس حاليا). ولا فائدة من أكثر من هذه الإشارات.
ولنأت إلى معارك ابن تيمية الفكرية التي هي معارك تجاوز فيها الوجه الجدلي الناتج عن الخصام الإيديولوجي إلى ما بعده التأسيسي فعالجها علاجا نظريا فلسفيا. وهذه المعارك تقبل الرد إلى ما ترد إليه أهم مباحث الفكر الإسلامي عند تصنيفه تصنيفا عقليا جامعا مانعا:
– في نظرية اللسان المحررة من خرافة المقابلة بين الحقيقة والمجاز بالمعنى الكلامي وكيف يمكن الاستغناء عنها بنظرية جديدة في اللغة تجعل دلالات اللغة استعمالية ولعل الموقف الأصح أنها كلها مجازية بمعنى أنها دلالة الدليل اللساني تحكمية يحددها الاستعمال والعادة وليست حقيقة الأشياء المسماة بأسماء بعينها.
– في ونظرية التطبيق الفقهي لمصدري التشريع (القرآن والسنة) ولنوعي التعامل معهما (الاجماع والاجتهاد) دون التقيد بتقاليد المذاهب التي صارت بديلا من المصدرين والتعاملين ومن بقاء النصين المرجعين حيين دائما ومصدرا مباشرا لئلا يتحول الاجتهاد السابق من سابقة تطبيقية إلى تشريع من جنس التشريع الأصلي.
معارك المباحث الصوفية. ولا ينبغي حصرها في مواقفه من متصوفة عصره وخاصة من متحيل دمشق شارح مدارج السالكين للهروي بمنطلق وحدة الوجود (التلمساني) الذي رد عليه تلميذه بدحض شرحه أو من ابن عربي وغيره. فما يعنينا هو ما يمكن رده بمصطلح ابن خلدون في شفاء السائل إلى التمييز بين المجاهدتين المشروعتين عقلا ونقلا أعني مجاهدتي التقوى والاستقامة وبيان أوهام ودعاوى الكشف القصدي الذي ينتهي إلى ما يخفي نقيضيهما أعني التقية بدل التقوى والنفاق بدل الاستقامة. فيصبح التصوف المنحرف في غايته ما يسمى بالتصوف الفلسفي القائل بوحدة الوجود والنافي للغيب بوهم العلم اللدني المتجاوز لعلم الأنبياء والمؤسس للكنسية الصوفية ولعبادة الوسطاء أحياء كانوا أو أمواتا.
معارك المباحث الكلامية. وهذه هي التي يغلب اللغو واللغط حولها. فالكثير يناقش ابن تيمية معتبرا إياه متكلما بالمعنى التقليدي للكملة. وقد يكون لردوده على المتكلمين بمنطقهم ما يوحي بأنه واحد منهم وإن كان أقوى حجة. فلجوؤه لإفحام الخصوم بمنطقهم قد يوهم أصحاب العجلة في الحكم إلى أنه متكلم. لكنه في الحقيقة ينفي شروط إمكان الكلام الفلسفي أو العقلي ولا يقول إلا بالكلام التاريخي النصي: تاريخي بمعنى أحداث النبوات والتجارب الحاصلة فعلا والنصي بمعنى القرآن والسنة وحتى الكتابين السابقين اللذين يقرهما ابن تيمية فيما يقرهمها عليه القرآن الكريم أعني في كل ما لم يصححهما فيه استنادا إلى مبدأ التصديق والهيمنة.
وثورته فضلا عن تجاوزه المتكلمين في فنهم رغم كونه ينكر عليه العلمية والمتانة المنطقية ورغم كونه من أعلم مؤرخي الفكر الكلامي ربما على الإطلاق فإنه لا يعتد به ويهتم خاصة بنوع جديد من علم الكلام التاريخي النصي وبما يتصل به من بدايات أو إرهاصات الأدوات المنطقية التي تعالجه أعني تاريخ النص وفيلولوجاه شرطي التأويل ليس بالمعنى الكلامي وليس بمعنى التطبيق على تاريخ الأحداث والنصوص.
والشواهد في ذلك كثيرة ويكفي شاهدين: أحدهما في الرد على ممثل المذهب الأكثر تمثيلا للتشيع في عصره أي المطهري في منهاج السنة. والثاني في الرد على ممثل المذهب الأكثر تمثيلا للتسنن في عصره أي الرازي في الدرء وفي الرد على التنزيه. وكانت طريقة ابن تيمية في علاج القضايا التي حقق فيها ثورته فكانت تتجاوز الحجاج بمنطق علم الكلام رغم إفحامهما به إلى النقاش المعرفي الموضوعي بالاستناد إلى النقد التاريخي للأحداث والنصوص والنقد العلمي لطرق التعامل معهما من قبل الذين يحاورهم ليدحض حججهم ليس بالتشقيق اللفظي والمهارب البيزنطية الكلامية بل بوقائع التاريخ ومعطيات الظاهر التي يدور عليها الكلام سواء كانت حدثا أو نصا أو علاقة بينهما فضلا عن النفاذ الحدسي العجيب للمعاني التي لدقتها لا ينالها إلا قلة من العقول المتميزة.
معارك المباحث الفلسفية. وهذه المعارك لم تكن مباشرة أبدا. فهي إما ضمن الفنين السابقين (الكلام والتصوف) أو ضمن فن المنطق واساسه الميتافزيقي. ومعنى ذلك أن ابن تيمية كان شديد الدراية بالطابع المابعدي للفلسفة أعني أنه لا يعتبرها علما بل ما بعد علم إما دخيلا في علوم الملة مثل التصوف والكلام أو في علوم النظر بأصنافها الثلاثة (إلهيات ورياضيات وطبيعيات= وعلوم العمل بأصنافها الثلاثة (السياسيات والأخلاقيات والاقتصاديات).
ويتبين ذلك خاصة من كلامه في المنطق. فهو لا يناقشه منطقيا فحسب بل وكذلك بمقتضى ما يترتب عليه في رؤية الوجود والعالم ومن ثم بمقتضى ما يؤسسه ويؤسس ما يجعله مؤديا إلى ما يترتب عليه. مثال ذلك أنه يبين أن المنطق بأساسه الميتافيزيقي الموروث عن أفلاطون وأرسطو يؤدي حتما إلى جعل الإنسان مقياس كل شيء. ذلك أن ظن علم الإنسان بالوجود على ما هو عليه ومن ثم مطابقا له مطلق المطابقة يجعل العلم مقياس الوجود بدلا العكس. وتلك هي علة إعادة تأسيس المنطق على ميتافيزيقا جديدة تمكن من تأسيس العلم النظري بالتحرر من السفسطة والعلم العملي بالتحرر من الزندقة دون أن تجعل الإنسان مقياس كل شيء. وطبعا فالسخفاء من المتكلمين في ابن تيمية يقتصرون على: من تمنطق فقد تزندق ويغفلون كل هذا التحليل التيمي العميق لأنهم عاجزون عن القراءة المتأنية والصبر: لم يتواصوا بالحق ولم يتواصوا بالصبر.
5. أما معارك المباحث الجامعة فتتعلق بالأصل الواحد لكل هذه المباحث أعني ما يجعل هذه المباحث تكون مقومة لحضارة معينة في لحظة من لحظات تكوينيتها. وهذه المباحث الجامعة من حيث الطبيعة واحدة في كل الحضارات. لكنها متعددة تعدد المضمونات العينية والمراحل التاريخية. وحتى نفهم القارئ دقة هذا المفهوم فلنضرب مثالا باللغة. فكل البشر ناطقون. ومن ثم فاللغة ظاهرة كونية. لكن كل لغة تعين من الظاهرة الكونية اللغوية: وكونية اللغة تجعل كل اللغات مشتركة فيما لأجله سميت لغة ومختلفة بمادتها وبكيفية التناظر بين مادتها وما تعبر عنه من التجارب التي هي محكومة بالمضامين والمراحل
الكتيب