لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله ابن خلدون وهيجل
المحتويات
– الفصل الأول –
– الفصل الثاني –
– الفصل الثالث –
– الفصل الرابع –
– الفصل الخامس –
– الفصل السادس –
– الفصل السابع –
– الفصل الأول –
درس ابن خلدون شروط صعود الحضارات وعلل سقوطها وقضى بأن الشروط والعلل من طبيعة واحدة: إنها تكمن في قيم الاستراتيجية السياسية تربية وحكما.
فبدا تحديده للشروط والعلل مقصورا على الثقافي أو ما يرد إلى فعل الإنسان الحر لكأن العامل الطبيعي من كيان الإنسان ومن محيطه عديم الدور فيهما.
لذلك فسأحاول البحث في هذين العاملين بعد تحديد دقيق لما ركز عليه لتحليل شروط الصعود وعلل الهبوط الحضاريين وفهم ردهما إلى السياسي تربية وحكما.
ويرد علاجه إلى نتائج استعمال الحرية الإنسانية في الاستراتيجية السياسية تربية وحكما لرعاية الإنسان تكوينا وتموينا وحمايته داخليا وخارجيا.
وأهم نتائج هذا السلوك السياسي الترف فعلا وفساد معاني الإنسانية انفعالا وبهما يفسر ابن خلدون سقوط الحضارات وفناء الجماعات وبعكسهما صعودهما.
وواضح أن تفسير الانحطاط بالترف وفساد معاني الإنسانية لتفسير الانحطاط وتفسير الصعود بالاقتصاد وبصلاح معاني الإنسانية كلاهما تفسير قرآني صريح.
كما انه من الواضح أن هذين التفسيرين يردان إلى نظرية الإنسان القرآنية-انثروبولوجيا القرآن-التي نجد في كيانه القدرة على الخير والشر: الحرية.
فالخير والشر إرادة لها لهما وقدرة عليهما مناط مسؤولية الإنسان لا ما فيه وما في عالمه من طبيعي. ابن خلدون يحمله ما يحمله إياه القرآن من مسؤولية.
وهذا يعني أن الطبيعة في الإنسان وفي العالم مبرأة وبمعزل عن الخير والشر. وهذا نقيض الرؤية المسيحية كما يعرضها هيجل: طبيعة الإنسان والعالم شر.
وما أسعى إليه الآن هو بيان علاقة فلسفة الدين بفلسفة التاريخ في القرآن بعرض ابن خلدون لفهم الفرق بينهما وبين فلسفتهما المسيحية بعرض هيجل.
وأبدأ بفلسفة الدين وبصورة أدق بمنزلة الإنسان وحياته الدنيا في فلسفة الدين القرآنية كما فهما ابن خلدون وفلسفته المسيحية كما فهمها هيجل.
ومعنى منزلة الإنسان في فلسفة الدين هو عين أساس فلسفة التاريخ بوصفه حصيلة أفعال الإنسان الذي تحدده خاصياته هذه المنزلة في فلسفة الدين.
فالفهم الخلدوني لأساس فلسفته التاريخية من فهمه لفلسفة الدين والتاريخ الإسلامية والفهم الهيجلي لهما من فهمه لفلسفة الدين لتاريخ المسيحية.
والفلسفتان متنافيتان في الدينين وعند الفيلسوفين. وما أريد تفسيره وبيان أثره على العالم هو دور علاقة الحضارتين من بداية العصر الوسيط إلى الآن.
وبهذا يكتمل بحثي في شروط الاستئناف: فالحضارة الغربية الحالية لم تتخل عن هذا المقوم إلا في الظاهر. والترجمة الفلسفية لم تغير الأعماق الدينية.
كل ما في الامر أن العلاقة التي كانت بين حضارتين تعرفان نفسيهما بالدين صارت بينهما بعد أن ترجمت أعماقها الدينية بفلسفتي ابن خلدون وهيجل.
لكن يوجد فرق كبير: فلسفة هيجل طبعت الحضارة الغربية بحق سواء بصيغتها الهيجلية الأولى أو بصيغتها الثانية وتسمى ماركسية: فهما وجهان لنفس العملة.
فلا فرق بين فلسفة التاريخ الهيجلية وفلسفته الماركسية إلا بتقديم وتأخير لعاملي التفسير المستدين من فلسفة الدين وفلسفة الفلسفة الهيجليتين.
ما الواحد؟
إنه منطق الصراع الجدلي بتقديم وتأخير بين الروحي والمادي بين الشعوب والحضارات (أرواح الشعب) أو ضمن الشعوب والحضارات (الطبقات).
كلاهما يعيد التاريخ الإنساني إلى الطبيعي بمنطق الصراع الجدلي الذي ليس هو إلا تطبيق باكر للداروينية على الظاهرات الحضارية: انتخاب طبيعي.
وهذه الصورة هي فلسفة تاريخ تترجم فلسفة دين أصلها في الانثروبولوجيا المسيحية أو في منزلة الإنسان في المنظور الديني المسيحي كما أوله هيجل.
وفي المقابل بقيت فلسفة التاريخ الخلدونية مجهولة مثلها مثل علاقتها بفلسفة الدين الإسلامية كما تحددت في فكر ابن خلدون: سر الفرق بين النموذجين.
نموذج الانثروبولوجيا المسيحية تطور بتطور قراءته الفلسفية ونموذج الانثروبولوجية الإسلامية تجمد بتجمد قراءته الفلسفية: علة إحياء ابن خلدون.
ومن يرى مستقبل الأمة في شكل الحداثة الحالي يضيقون أفق الإنسانية بوحدانية مرضية تحصره في الترجمتين الهيجلية والماركسية للرؤية المسيحية.
وهذه الترجمة -هيجلية كانت أو ماركسية-ليست إلّا صيغة فلسفية لدين العجل الذهبي لأنها مشروطة بنظرية الشعب المختار والجوهيم العالمي عبيدا له.
وإذا كان هيجل قد اعتبر التاريخ قد انتهى فإن ماركس بشر بعلامات نهايته: عموم دين العجل الذهبي بكذبة التحرير وهي في الحقيقة العبودية المطلقة.
فعنده أن عموم الرأسمالية ينتهي إلى القضاء على الملكية الخاصة وعلى الدولة: وهو ما يحدث فعلافي نظام العولمة: الكل مرهون للبنوك والسيد مجهول.
والسيد هم أرباب البنوك أو سلطان التضليل المادي (اقتصاد الوهم) والتضليل الروحي (ثقافة الوهم): العولمة تديرها مافية خفية تسود بهذين الوهمين.
قلت سأبدأ بفلسفة الدين فإذا بي أتكلم على فلسفة التاريخ. والأمر مفهوم: فالتحليل يبدأ من المعلول ليكتشف العلة ثم يعود منها ليفهم المعلول.
وصفنا المعلول أي فلسفة التاريخ وأساسها انثروبولوجيا فلسفية فرضيتي أنها ترجمة لأنثروبولوجيا دينية ومنه سنعود إلى العلة: فلسفة الدين المسيحي.
وفلسفة الدين المسيحي لا افترضها ولا أدعي العلم بها أكثر من هيجل. لذلك سيكون الاعتماد عليه في بيان مقوماتها مع النصوص التي يستند إليها.
والى الآن لم أتكلم لا على فلسفة التاريخ الخلدونية ولا على قراءته لفلسفة الدين الإسلامي كما فهمها من القرآن لأن اعتماد المقدمة السنةَ قليل.
– الفصل الثاني –
تنسب نظرية موت الله إلى نيتشة عادة. لكن صاحبها الحقيقي هو هيجل: وعليها يؤسس فلسفة التاريخ نفيا لما بعده وجعلا له الحكم النهائي بين الأمم.
وهو يستمد هذه النظرية من حصيلة الحروب الصليبية: فعنده أن المسيحيين بعد هزيمتهم فيها تأكدوا من موت الله واكتفوا بخليفته: دور أمته في التاريخ.
ودور الامة مبني على فكرتين:
الطبيعة الخارجية شر.
ولا تحرر من الخطيئة الموروثة إلا بوساطة نائبي المسيح: الكنيسة (الروح) والدولة (العقل).
وهاتان الفكرتان هما أساس لصراع دائم بين ارواح الشعوب في تاريخ هو الحقيقة الوحيدة والحكم النهائي بين البشر لكأنه انتخاب طبيعي ليس له ما بعده.
ومن فهم هيجل للمسيحية يدرك أن ماركس لم يضف إليها إلا الإعلان الصريح على أن هذا التصور وهي مادية غير معلنة قيلت باصطلاح ديني ناف للأخرى.
وكلاهما يعتبر التطور التاريخي خاضعا لحتمية تاريخية هي ما يصح وصفه بكونه تاريخا طبيعيا سواء صراعا بين ارواح الشعوب أو صراعا بين طبقاتها.
لن أكثر من الشواهد. سأكتفي بنص واحد جامع لما حاولت شرحه: Weil der Geist aber nicht natürlich, sondern nur das ist wozu er sich macht, so ist erst der Process in sich diese Einheit hervorzubringern, das Geistige.Zu dieser geistigen Einheit gehört die Negation derNatürlichkeit , des Fleiches, als worin der Mensch nicht bleiben soll; denn die Natur ist böse von Hause aus.Ebenso ist der Mensch von Natur böse ; denn Alles was der Mensch Boses tut commt aus einem natürlichem Triebe. Da nun der Mensch ans sich das eben bild Gottes, in der Existenz aber, nur natürlich ist so soll das was an sich ist , hervorgebracht, die erste Natürlichkeit aber aufgehoben werden.Um so mehr wird der Mensch erst gistig und gelangt zur Wahrheit durch Erheben über das Natürliche, als sogar Gott selbst nur so ein Geist ist, dass er das Eine Eine Verslossene zur Andern seiner selbst machte, um aus disem Andern weider in sich zurüchzukehren”
وقد ورد هذا النص لتعليل مقابلة مهمة.
والمقابلة هي بين منطلق الفلسفة المسيحية ومنطلق الفلسفة اليونانية: Vom Christentum aus, innerhalb dessen wir jetzt stehen, has sich die Philosophie wiederzustellen.1-Im Heidentum war die Wurzel des Erkenntnis die aüsere Natur als selbstlose Denken, und die subjektive Natur als das innere Selbst. Sowol die Natur, als das narürliche Selbst des Menshen, ebenso das Denken haben dort affirmative Bedeutung behat, alles dieses war daher gut.2- Im Christentum hat die Wurzel der Wahrheit aber einer ganz andern sinn, es war nicht nur die Wahrheit gegen die Natur, gegen das unmittelbare Bewusstsein des Menschen. Die Natur ist das nicht mehr gut, sondern nur ein Negatives. Das Selbstbewusstsein erhält eine negative Stellung in dem Christentum”
ولأكتفي بترجمة النصين بدأ بالذي قدمته رغم أنه بعد هذا النص الثاني وتعليل ما ورد فيه حول موقف المسيحية السلبي من الطبيعة: “ولكن لما كان ليس بالأمر الطبيعي بل إنما هو ما سيجعل من نفسه لم يكن الروحي إلا هذه العملية المنتجة للوحدة في ذات الروح. وتنتسب هذه الوحدة الروحية إلى نفي الطبيعة ونفي الجسد بصته ما على الإنسان أن يتخلص منه. وذلك لأن الطبيعة من أصلها شريرة بل إن الإنسان ذاته شرير من أصله: ذلك أن كل شر يفعله الإنسان مصدره غريزة طبيعية. ولما كان الإنسان من حيث هو ما في ذاته (أي ما هو بالقوة) صورة الإله عينها وكان في تعينه الوجودي مجرد كائن طبيعي كان من الواجب على ما هو في ذاته أن يتحقق فيتجاوز الطبيعة الأولى. فالإنسان يصير روحانيا ويرقى إلى الحقيقة من خلال تجاوز الطبيعة بقدر كون الله ذاته ليس إلا روحا خالصا وكونه الواحد المنطوي على ذاته والذي يجعل ذاته غيرا حتى يعود إليها من خلال هذا الغير”.
ذلك هو تعليل هيجل لرؤية المسيحية السلبية من الطبيعة الذي أخرناه لنبين أنه به يعرف “الفلسفة المسيحية” فانطلاقا منطلق المسيحية التي نوجد فيها الآن أصبح على الفلسفة أن تعيد النظر في موقفها: ففي عصر الوثنية كان أصل المعرفة هو الطبيعة الخارجية بما هي عديمة الفكر وكانت الطبيعة الذاتية هي باطن الإنسان نفسه. فكانت الطبيعة مثلها مثل ذات الإنسان الطبيعية وكذلك الفكر جميعها ذات دلالة إيجابية ومن ثم فالكل كان خيرا.
أما في المسيحية فإن أصل الحقيقة له معنى آخر مختلف تمام الاختلاف. فليس هو الحقيقة المضادة للطبيعة والوعي الإنساني المباشر فحسب وليست الطبيعة ما ليس بخير فحسب بل هي أمر سلبي. إن الوعي بالذات في المسيحية يحتوي على موقف سلبي (من الطبيعة)”. لا يوجد ما هو أكثر وضوحا من هذا.
– الفصل الثالث –
الطبيعة شريرة والإنسان الطبيعي شرير. والخير هو قتل الطبيعتين بـ”التذويت”. وهو انتقال من الإنسان “في ذاته” (ذات بالقوة) إلى “ذاته”(ذات بالفعل).
وهذا الانتقال هو تخليص الطبيعة من طبعيتها والإنسان من طبعيته: تماما عين من نراه في وضعية الإنسان الحالي الذي صحر الطبيعة الخارجية وطبيعته.
وسنرى الآن أن ابن خلدون يرى عكس ذلك تماما لإيمانه بأن الطبيعة الخارجية والطبيعة الإنسانية (الفطرة) خيرتان وأن غاية التخلص منهما الترف القاتل.
وتلك هي نظرية الإنسان الإسلامية أو الانثروبولوجيا القرآنية التي تعتبر الطبيعة الخارجية خيرة وطبيعة الإنسان خيرة ولا تؤمن بالخطيئة الموروثة.
ولنورد نصوص ابن خلدون التي تناقض نصي هيجل عنصرا بعنصر تقريبا حتى نفهم الرؤيتين الإسلامية والمسيحية في مرآة فيلسوفين ممثلين لهما أفضل تمثيل.
ولنشر إلى حقيقة قالها هيجل مقارنة الفلسفة المسيحية بالفلسفة الوثنية (يقصد اليونان) في تأسيس المعرفة: علة رؤية المسيحيين للإسلام كدين وثني.
ذلك أنه صحيح أن نظرة الإسلام للطبيعة ولطبيعة الإنسان مجانسة للرؤية اليونانية: فهو لا يتنكر للدنيا وخاصة للجمال والجنس رمزيها الأبرزين.
والداري بفلسفة نيتشة يفهم اعجابه بالإسلام وبحضارته: فهو يعتبرها مثل الحضارة اليونانية ذات علاقة إيجابية بالطبيعة والحياة ورمزيهما الأبرزين.
ولو لم يكن لينتشه رؤية إلحادية لان يقبل بها الإسلام لكان رده على المسيحية التي هي أفلاطونية شعبية كافيا ولأغنانا عن تأويل ابن خلدون.
فالمشترك بين اليونان والعرب ليس مطلقا. فما يبنيه اليونان على الوثنية يبينه الإسلام على الدين الخاتم لأنه إصلاح للأديان الطبيعية والمنزلة.
وهنا نصل إلى المقارنة التي ينبغي تقديمها على استعراض نصوص ابن خلدون التي تقابل نصوص هيجل مقابلة تامة بخصوص الطبيعة الخارجية وطبيعة الإنسان.
ومرة أخرى نعود إلى هيجل فهو استنتج من موقف الإسلام الموجب والمشترك مع التنوير من الطبيعة وطبيعة الإنسان أنهما يتحدان في منافاة المسيحية.
الانثروبولوجيا القرآنية لا تبدأ بخطيئة موروثة بل هي تبدأ وتنتهي بمشهدين يلغيانها ويحرران الإنسان: مشهد الاستخلاف قبلها ومشهد الاجتباء بعدها.
والمشهدان يمثلان بداية الإصلاح الثوري الذي أنسبه إلى الإسلام: فصورة آدم الشرير قدمتها الملائكة وصورة الإنسان الوارث للخطية قدمها إبليس.
والاستخلاف رغم دعوى الملائكة ثم العفو والاجتباء رغم دعوى إبليس يعنيان أن الإسلام يؤسس نظرية الإنسان “الانثروبولوجيا” متحررة من الدعويين.
ولا يعني ذلك أن الإنسان منزه عن الشر ولا عن الخطأ لكنه أهل للاستخلاف وقابل للتوبة ما يجعل معدنه خيرا وهو معنى الفطرة والشر عرضي في حياته.
والخطير في نظرية شرية الطبيعة وشرية الإنسان يجعل الإنسان بحاجة إلى ما يلغي الحريتين: وساطة الكنسية والحق الإلهي في الحكم (وبهما يؤمن هيجل).
لكن القرآن يلغي الوساطة بين المؤمن وربه (الكنسية) ويلغي الحق الإلهي في الحكم (الحاكم أعلى من المحكوم) ويجتمع الأمران فيما تنزيه المسيح.
فلنمر إلى فلسفة ابن خلدون التاريخية التي تعتمد على نظرية الإنسان القرآنية التي تقول بخيريته الفطرية الرد أسفل سافلين ثقافي وليس طبيعيا.
إنه تحريف وليس فطرة انسانية التي هي الاصل والتحريفات هي التي تغير “أحسن التقويم” فترده أسفل سافلين: والرسالة علاجها بالتذكير وليس بالسيطرة.
سأورد نصين لابن خلدون كذلك واحد يتعلق بنوعي العمران البدوي القريب من الطبيعة والحضري الابعد منه عنها والثاني حول الغرائز والدوافع الطبيعية.
الباب الثاني الفصل الرابع: “في أن أهل البدو أقب إلى الخير من أهل الحضر. وسببه أن النفس إذا كانت على الفطرة الأولى كانت متهيئة لقبول ما يرد عليها وينطبع فيها من خير او شر. قال صلى الله عليه وسلم “كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه”. وبقدر ما سبق إليها من أحد الخلقين تبعد عن الآخر ويصعب عليها اكتسابه. فصاحب الخير إذا سبقت إلى نفسه عوائد الخير وخلصت لها ملكته بعد عن الشر وصعب عليه طريقه وكذا صاحب الشر إذا سبقت إليه أيضا عوائده. وأهل الحضر لكثرة ما يعانون من فنون الملاذ وعوائد الترف والإقبال على الدنيا والعكوف على شهواتهم منها قد تلوثت أنفسهم بكثر من مذمومات الخلق والشر وبعدت عليهم طرق الخير ومسالكه بقدر ما حصل لهم من ذلك. حتى لقد ذهبت عنهم مذاهب الحشمة في أحوالهم فتجد الكثير منهم يقذفون في أقوال الفحشاء في مجالسهم وبين كبرائهم وأهل محارمهم لا يصدهم عنه وازع الحشمة لما أخذتهم به عوائد السوء في التظاهر بالفواحش قولا وعملا وأهل البدو وإن كانوا مقبلين على الدنيا مثلهم إلا أنه في المقدار الضروري لا في الترف ولا شيء من أسباب الشهوات واللذات ودواعيها. فعوائدهم في معاملاتهم على نسبتها وما يحصل فيهم من مذاهب السوء ومذمومات الخلق بالنسبة إلى أهل الحضر أقل بكثير. وهم أقرب إلى الفطرة الأولى وأبعد عما ينطبع في النفس من سوء الملكات بكثرة العائد المذمومة وقبحها فيسهل علاجهم عن علاج الحضر وهو ظاهر. وقد يتوضح فيما بعد أن الحضارة هي نهاية العمران وخروجه إلى الفساد ونهاية الشر والبعد عن الخير. فقد تبين أن أهل البدو أقرب إلى الخير من أهل الحضر”.
لا ننسى هنا كلام ابن خلدون على “العرب” مفهوما انثروبولوجيا يفيد المرحلة الأولى في البداوة التي تمر بها جميع الأمم وهو غير المقصود هنا.
أن الفطرة بمعزل عن الخير وأنهما مكتسبان وليسا طبيعيين وأن الامر كله متعلق ببعدي السياسة أي التربية والحكم ما يترتب على ترف غاية الحضارة.
– الفصل الرابع –
لا بد من ملاحظتين حتى نفهم حقيقة المقابلة بين فلسفتي التاريخ الخلدونية والهيجلية:
تتعلق بالتمييز الخلدوني بين التاريخين القصير والمديد.
أما الثاني فيتعلق بالخلاف حول دور الفطري (الطبيعة ودور المكتسب (الثقافة) في الخير والشر وهل الروحي هو التذوت المكتسب(هيجل)أم هو من الطبيعي.
والسؤال هو: هل الخير والشر من طبيعة العالم والإنسان(هيجل)؟ أم أن الطبيعتين بمعزل عنهما والأمر ناتج عن نوع علاقتهما وأثره المديد (ابن خلدون).
ونوع العلاقة وحصيلتها في التاريخ المديد هو أثر السياسي تربية وحكما في تحديد العلاقتين الأفقية بين البشر والعمودية بينهم وبين الطبيعة.
ففلسفة ابن خلدون التاريخية بخلاف فلسفته الهيجلية تعتبر التاريخ المديد هو الحكم على عملية التفاعل بين الطبيعة والثقافة: السياسة تربية وحكما.
والتعليل الخلدوني لمآل الإنسانية في التاريخ المديد أقرب إلى الحقيقة: فتضاءل قوى الإنسان الحيوية متناسب مع تزايد الحضارة وتجديدها من خارجها.
ورغم أن الحضاري يحاول تعويض البايولوجي بالتكنولوجي فإن هذه القوة مادية خالصة وليست حيوية. وله علامتان بينتان: الترهل البدني والبرودة الجنسية.
ولذلك فتجدد الأجيال والتكاثر الديموغرافي ينتهي إلى شيخوخة عضوية وروحية يغلب عليهما اليأس وفقدان المعنى والتشاؤم الحضاري والتعويض الوهمي.
لذلك فالحاجة إلى المهاجرين في المجتمعات الباذخة والمترفة من ضرورات التاريخ المديد. وما يعلمه ابن خلدون هو غزو الأقل تحضرا للأكثر في عصره.
ويتبين ذلك خاصة في السياحة: فالغرب يريد بعث حيويته الجنسية خاصة بما يجده عند شباب الشرق والشرقي يريد أن يشبع حيويته الجنسية عند شباب الغرب.
فيكون الغربي منفعلا والشرقي فاعلا بالمعنى البايولوجي الطبيعي.
الأول يتحرر من فائض المكتسب والثاني من فائض الطبيعي: علاقة بايولوجي بتكنولوجي.
لكن عند النظر إلى الأمر من منظور التاريخ القصير ينعكس الوصف بالفعل والانفعال. فالتكنولوجي-المكتسب من الحضارة- أقوى بالأدوات رغم ضعف الغايات.
ومثلما رأينا تعليل هيجل نظريته في نصيه بنسبة الشر إلى الطبيعة فسنرى ابن خلدون يعلل نظريته بنسبته إلى الثقافة الناتجة عن طبيعة العلاقتين.
والقصد بالعلاقتين كما أسلفنا في أكثر من موضع هو علاقة البشر بعضهم بالبعض (جوهر السياسة تربية وحكما) وعلاقة البشر بالطبيعة معين الحياتين.
فالطبيعة الخارجية هي شرط الحياة العضوية وطبيعة الإنسان أو فطرته هي شرط الحياة الروحية: وكلتاهما خير بالأصالة وشر بعلاقة البشر بعضهم بالبعض.
فيكون دور الرسالة الخاتمة هي وضع قيم العلاقتين بالطبيعة الخارجية (العمودية) وبالطبيعة الذاتية (الأفقية)بمنطق التكامل لا الصراع الهيجلي.
وقد يبدو هذا الفهم الخلدوني متناقضا: إذا كانت الطبيعة خيرة والفطرة خيرة فكيف يكون اللقاء بينهما مصدرا للشر الممكن الذي تتصدى له الرسالة؟
والسؤال هو في الحقيقة من أين يأتي التصور الهيجلي المترجم لرؤية الدين المسيحي (المحرف من منظور القرآن): من الانثروبولوجيا المسيحية.
فالفرد غاية لحياته الفردية ووسيلة لحياته النوعية والجهل بهذا القانون يعكس العلاقة بين الحياتين ولا نرى النتيجة إلا في التاريخ المديد.
أما في التاريخ القصير فتبدو العلاقة السوية بين الحياتين شرا: فالموت يبدو شرا مطلقا ينسب إلى الطبيعة فيظن توق الروح إلى الخلود غير طبيعي.
فلنصل هذا التوق للخلود بدور الحياة النوعية غاية للحياة الفردية وسنفهم أنه هو عينه حضور النوع في روح الفرد المتجاوز للبدن: المديد في القصير.
ومعنى ذلك أن الروح ليست مكتسبا وليست بالقوة بل هو دائما بالفعل في البدن نفسه ولذلك يبعثان معا في الرؤية الإسلامية والموت ليس نهاية الحياة.
فهم الرؤية الإسلامية يقتضي حياتين. فالفناء الدنيوي لا يلغي البقاء الأخروي. وبذلك لا بد مما هناك وراء ما هنا بخلاف راي هيجل: للتاريخ ما وراؤه.
وهنا تتبين حقيقة المعادلة الوجودية: لابد من قطبين الله والإنسان وبينهما الطبيعة والتاريخ مع تواصلين مباشر بين القطبين وغير مباشر بتوسطهما.
والقطب الأول مستخلف والقطب الثاني خليفة. والتواصل المباشر مستغن عن الوسيط السلطوي روحيا وسياسيا ومكتف بالطبيعة والتاريخ مجال الاستخلاف.
وهذه العلاقة تحدد دلالات التاريخ المديد الذي لا يقاس بأعمار الأفراد بل بأعمار الحضارات المتوالية في تاريخ الاستعمار في الارض والاستخلاف.
والتاريخ المديد لا يتعلق بحضارة واحدة بل بتراكم التراث الحضاري مع توالي الحضارات المتوارثة له اعتمادا على التجدد العضوي والروحي للإنسانية.
والتاريخ المديد لا يعتمد على الأوفهيبونج (Aufhebung) الهيجلية بل على تجدد الأجيال عضويا وروحيا لبقاء الجنس (الإرث البايولوجي) دون عنصرية.
ومعه توارث الحصيلة الحضارية (الإرث الحضاري) دون تفاضل. فالعلاقة الأفقية بين البشر (أسرة واحدة) وبينهم وبين الطبيعة (مصدرا واحدا) من جنس واحد.
وهذا التصور للتاريخ المديد شامل للإنسانية ككل وللعالم من حيث هو محل قيامها ومصدر رزقها الذي لا بديل عنه كما يبين التاريخ وكما تذكر الرسالة.
وهذا الفصل الرابع هو القلب من الفصول السبعة التي ندرس فيها هذا التقابل بين المرجعيتين وقراءتيهما الفلسفيتين في فكر ابن خلدون وفكر هيجل.
بقيت ثلاث فصول: الخامس للعلاقة العمودية والسادس للعلاقة الأفقية والأخير لأثر العلاقة الأفقية في العلاقة العمودية بمنطق التحريف وبمنطق القرآن.
ولا تفهم رؤية ابن خلدون من دون أمرين مضمرين:
الأول أن الحضارات تتواصل بالممارسة المعيشة أولا ثم بوسائط التواصل الرمزية التي تحتاج للترجمة.
والثاني أن للتاريخ خمس مستويات:
اثنان قصيران
واحد لعصبية واحدة
اثنان لعصبيات جماعة واحدة.
و2طويلان 3-للأقوام 4-ثم لحضارة نفس الأقوام 5-تاريخ الإنسانية.
– الفصل الخامس –
الفصل الخامس يعالج العلاقة العمودية من منطلق تأثير المحيط الطبيعي في الإنسان بالتفاعل مع الحضارة: المقدمات 3و4و5 خاصة من باب المقدمة الأول.
يدخل ابن خلدون في فلسفة التاريخ عامل الأيكوسيستام أو النظام البيئي الطبيعي وتأثيره على الإنسان كيانه البدني والروحي وعلى تعامله مع شروطه.
وبهذا التعامل يتحدد مجال الاكتشاف الخلدوني موضوعا لفلسفة التاريخ من منطلق الانثروبولوجيا الفلسفية المحددة لمقومات وجود الإنسان وأبعاده.
ولنبدأ بهذا التعريف: “ونحن نبين في هذا الكتاب ما يعرض للبشر في اجتماعهم من أحوال العمران في الملك والكسب والعلوم والصنائع بوجوه برهانية يتضح بها التحقيق في معارف الخاصة والعامة وتدفع بها الأوهام والشكوك ونقول: لما كان الإنسان متميزا عن سائر الحيوانات بخواص اختص بها.
فمنها العلوم والصنائع التي هي نتيجة الفكر الذي تميز به عن الحيوانات وشرف بوصفه على المخلوقات.
ومنها الحاجة إلى الحكم الوازع والسلطان القاهر إذ لا يمكن وجوده دون ذلك من بين سائر الحيوانات كلها إلا ما يقال عن النحل والجراد وهذه وإن كان لها مثل ذلك فبطريق إلهامي لا بفكر وروية.
ومنها السعي في المعاش والاعتمال في تحصيله من وجوهه واكتساب أسبابه لما جعل الله فيه من الافتقار إلى الغذاء في حياته وبقائه وهداه إلى إلى التماسه وطلبه قال الله تعالى “أعطى كل شيء خلقه ثم هدى
ومنها العمران وهو التساكن والتنازل في مصر أو حلة للأنس بالعشير واقضاء الحاجات لما في طباعهم من التعاون على المعاش كما سنبينه. ومن هذا العمران ما يكون بدويا وهو الذي يكون في الضواحي والجبال وفي الحلل المنتجعة في القفار وأطراف الرمال ومنه ما يكون حضريا وهو الذي بالأمصار والقرى والمدن والمدر للاعتصام بها والتحصن بجدرانها.
وله في كل هذه الأحوال أمور تعرض من حيث الاجتماع عروضا ذاتيا له فلا جرم انحصر الكلام في هذا الكتاب في ستة فصول:
في العمران البشري على الجملة وأصنافه وقسطه من الأرض
في العمران البدوي وذكر القبائل والامم الوحشية
في الدول والخلافة والملك وذكر المراتب السلطانية
في العمران الحضري والبلدان والأمصار
في الصنائع والمعاش والكسب ووجوهه
في العلوم واكتسابها وتعلمها”.
ثم يعلل ترتيب الأبواب “وقد قدمت العمران البدوي لأنه سابق على جميعها كما نبين لك بعد وكذا تقديم الملك على البلدان والامصار وأما تقديم المعاش فلأن المعاض ضروري وطبيعي وتعلم العلم كمالي أو حاجي والطبيعي أقدم من الكمالي وجعلت الصنائع مع الكسب لأنها منه ببعض الوجوه ومن حيث العمران كما نبين لك بعد”. ولهذه المقومات والترتيب مستويان.
بشرط وساطة بينهما هي توارث الحضارات المباشر بالممارسة وغير المباشر بتواصل الترجمة.
والدليل أن ابن خلدون رغم كون جل الأمثلة التي يضربها من التاريخ الإسلامي فإن المقصود ليس التاريخ الإسلامي وهو لا يستقرئ التاريخ بل يستنتجه.
وإذن فنقد عبد الرحمن بدوي لا محل له لأن البحث الخلدوني لا يمكن أن يعاب عليه طابعه الناقص ككل استقراء بل هو استنتاجي من مفهوم الإنسان.
وكل قارئ فطن يلاحظ أن كلمة “عقل” لتعريف الإنسان الذي استنتج منه مجالات البحث بل الفكر والروية مع إحالات إسلامية تبين انثروبولوجيته.
وهو ما سيتضح من استعماله كلمة “الاستخلاف” في دلالاتها الثلاثة وفي الوسطين بين الأول والثاني وبين الثاني والثالث كما بينا ذلك في غير موضع.
وفي هذا النص المحدد لمجال البحث بفروعه الخمسة (من 2 إلى 6) وبأصلها (1) علامتان:
واجتماع معنيي الاستخلاف النظري والعملي ينتج عن قابلية الجماعات لأن تستخلف في الأرض وهو المعنى الثاني وقابلية الأفراد للخلافة كحكم الجماعة.
والوسيطان بين الاستخلاف العام لكل البشر والاستخلاف الخاص للأفضل منهم عند الله والاستخلاف كحكم لمن تختاره الجماعة هو صفتا العمل والنظر.
فالعمل أو الرئاسة بالطبع هي الحرية اثباتا لجدارة بالاستخلاف العام: بين 1و2.
والنظر أو التدبير السياسي إثباتا لجدارة الحكم: بين 2و3.
– الفصل السادس –
وصلنا الآن إلى مدخل العلاقة الأفقية بين البشر بعد العلاقة العمودية بينهم وبين الطبيعة: دراسة أثر بعدي السياسية الحكم والتربية في الإنسان.
النص:
المقدمة اا.6:
“فقد تبين أن الأحكام السلطانية والتعليمية مفسدة للبأس لأن الوازع فيها أجنبي وأما الشرعية فغير مفسدة لأن الوازع فيها ذاتي ولهذا كانت الأحكام السلطانية والتعليمية مما تؤثر في أهل الحواضر في ضعف نفوسهم وخضد الشوكة منهم بمعاناتهم في وليدهم وكهولهم والبدو بمعزل عن هذه المنزلة لبعدهم عن أحكام السلطان والتعليم والآداب”.
هذه هي النتيجة التي تكون فيها العلاقة بين الناس حكما وتربية مفسدة لطبيعة الإنسان.
وقد يفهم الكلام على أن ابن خلدون ضد التربية والحكم عامة. لذلك لا بد من إيراد ما تقدم من النص كاملا: “في أن معاناة أهل الحضر للأحكام مفسدة.
للبأس فيهم ذاهبة بالمنعة منهم. وذلك أنه ليس كل أحد مالك أمر نفسه إذ الرؤساء والامراء المالكون لأمر الناس قليل بالنسبة إلى غيرهم. فمن الغالب أن يكون الإنسان في ملكة يره ولا بد. فإن كانت الملكة رفيقة وعادلة لا يعني منها حكم ولا منع وصد كان من تحت يدها مدلين بما في أنفسهم من شجاعة أو جبن واثقين بعدم الوازع حتى لهم الإدلال جبلة لا يعرفون سواها. أما إذا كانت الملكة وأحكامها بالقهر والسطوة والإخافة فتكسر حينئذ سورة بأسهم وتذهب المنعة عنهم لما يكون من التكاسل في النفوس المضطهدة كما نبينه. وقد نهى عمر سعدا رضي الله عنهما عن مثلها لما أخذ زهرة بن جوية سلب الجالنوس فانتزعه منه سعد وقال “هلا انتظرت في ابتاعه إذني؟”. وكتب إلى عمر يستأذنه فكتب إليه عمر: تعمد إلى مثل زهرة وقد صلى بما صلى به وبقي عليك ما بقي من حربك وتكسر فوقه وتفسد قلبه. وأمضى له عمر سلبه. أما إذا كانت الأحكام بالعقاب فمذهبة للبأس بالكلية لأن وقوع العقاب به ولم يدافع عن نفسه يكسبه المدلة التي تكسر سورة بأسه بلا شك. وأما إذا كانت الاحكام تأديبية وتعليمية وأخذت من عهد الصبا أثرت في ذلك بعض الشيء لمرباه على المخافة والانقياد فلا يكون مدلا بنفسه. ولهذا تجد المتوحشين من العرب أهل البدو أشد بأسا ممن تأخذه الاحكام. ونجد أيضا الذين يعانون الأحكام وملكتها من لدن مرباهم في التأديب والتعليم والصنائع والعلوم والديانات ينقص ذلك من بأسهم كثيرا ولا يكادون يدفعون عن أنفسهم عادية بوجه من الوجوه. وهذا شأن طلبة العلم المنتحلين للقراءة والأخذ عن المشائع والأئمة الممارسين للتعليم والتأديب في مجالس الوقار والهيبة فهم هذه الأحوال وذهابها بالمنعة والبأس. ولا تستنكر ذلك بما وقع في الصحابة من أخذهم بأحكام الدين والشريعة ولم ينقص ذلك من بأسهم بل كانوا أشد الناس بأسا لأن الشارع صلوات الله عليه لما أخذ المسلمون عنه دينهم كان وازعهم فيه من أنفسهم لما تلا عليهم من الترغيب والترهيب ولم يكن بتعليم صناعي ولا تأديب تعليمي إنما هي أحكام الدين وآدابه المتلقاة نقلا يأخذون أنفسهم بها بما رسخ فيهم من عقائد الإيمان والتصديق. فلم تزل سورة بأسهم مستحكمة كما كانت ولم تخدشها أظفار التأديب والحكم. قال عمر رضي الله عنه” من لم يؤدبه الشرع لا أبه الله” حرصا على أن يكون الوازع كل أحد من نفسه ويقينا بأن الشارع أعلم بمصالح العباد. ولما تناقص الدين في الناس وأخذوا الأحكام الوازعة ثم صار الشرع علما وصناعة يؤخذ بالتعليم والتأديب ورجع الناس إلى الحضارة وخلق الانقياد إلى الأحكام نقصت بذلك سورة الباس فيهم”. فيتبين الأمر بنوعي الوزع أن الأمر لا يتعلق بمقابلة بين البدو والحضر إلا للتمثيل لأن المشكل هو التمييز بين نوعين من السياسة في الحكم وفي التربية: مناط المقابلة مع هيجل.
فهيجل يعتمد جدل السيد والعبد لتحقيق الحرية وابن خلدون يعتبر الحرية طبيعية للإنسان. جدل السيد والعبد لا ينتج أخلاق الأحرار بل أخلاق العبيد.
وقد سبق فبينا أن عصر العجل الذهبي يوهم الناس بالحرية لكنه في الحقيقة عصر العبودية العامة: لأداتي الفعل الرمزي المضلل أي العملة والكلمة.
ومجرد بناء فلسفة التاريخ على الصراع بين السيد العبد كاف وزيادة لفهم الفرق بين الفلسفتين الإسلامية والمسيحية: هذه تحتاج هذه الرؤية للتحريفين.
الإسلام بخلاف المسيحية يؤمن بخيرية الفطرة ويؤمن ببراءة آدم. فقرار الاستخلاف متقدم على ما تعتبره المسيحية خطيئة موروثة تحتاج لشفيع فآدم عفا عنه ربه واجتباه وكرمه بالاستخلاف ولا يمكن أن يكون وارثا لخطيئة تلعن شرطي الحياة أي الدنيا والجنس وبحاجة لإله ابن يضحي من أجله لذلك فليس قصدي الكلام على سبق على هيجل أنسبه إلى ابن خلدون كعادة أصحاب المقارنة الدالة على عقدة غربية يقيسون بها قيمة حضارتنا بقيمة غيرها.
فقصدي بيان فضل ابن خلدون وليس مقارنته بهيجل والفضل للأول علته فضل الإسلام على تحريف المسيحية بأن بينه وحذر من ثمرته في فلسفة التاريخ نظرية أرواح الشعوب عنصرية تنسب إلى الألمان صفة شعب الله المختار فلسفيا قياسا على صفة شعب الله المختار دينيا: والجامع دين العجل الذهبي.
والشعب المختار فلسفيا (الألمان) قياسا إلى الشعب المختار دينيا (بني إسرائيل) نظرية وردت صراحة في مقدمة هيجل لتاريخ الفلسفة وكأنها عقيدة.
وكلتا الخرافتين مبنية على موقف عنصري وجدلي. لكن ابن خلدون يقتصر على تأثير النظام البيئي والنظام السياسي في الإنسان ولا يهمه العرق أو الروح.
– الفصل السابع –
الفصل السابع والاخير من المحاولة يعالج قضيتين:
وبعبارة عكسية هل دحض التاريخ المديد رؤية هيجل ومن ثم فيم تعارض نظرية الذوق والعلم بمستوييهما التي حللنا بها صوغ فلسفة التاريخ القرآنية.
سأفترض أن القراء درسوا مقدمة ابن خلدون. فالباب الاول منها يضع نظرية العلاقتين وما وراءهما:
والماوراء علته حسب المقدمة هي توقع المستقبل خوفا من مفاجآت الطبيعة والتاريخ وربطهما بالماوراء فيكون الماوراء اساسا لعلاقة الذوق بالعلم في مستواهما الأول ويكون مدار العلاقة العمودية الرزق والملكية ومدار العلاقة الثانية الجنس والمرأة.
وينتج عن ذلك تقسيم العمل بين الجنسين: المرأة للرعاية والرجل للحماية شرطي بقاء الجماعة. فيبدو السلطان العنيف للرجل والسلطان اللطيف للمرأة.
والسلطان اللطيف أقوى من العنيف لأنه سلطان على صاحبه. وغالبا ما يكون السلطان الرمزي والروحي بيد المرأة لسكناها أحلام الرجل: الكاهنات.
وابن خلدون لا يتكلم على هذا البعد الأنثوي من السلطان مباشرة لكنه يتكلم على عصبية الدم والأنساب مقومين أساسيين لشكل العمران الأول: البدوي.
وهو يستبق نتيجة البحث في المقدمة فيتكلم على الوحي والفنون الاكتسابية لتوقع المستقبل وصلا بين البداية والغاية بتوسط التصوف والعلوم الزائفة.
لأن ذلك كان شرطا في الكلام على العلاقة بين الذوق والعلم في مستوييهما الأولين وفي العلاقة العمودية بين البشرية والطبيعة والأفقية بين البشر.
وذلك من خلال بيان دور الطبيعة في كيان الإنسان البدني والروحي ودور الثقافة فيما يمكن أن يطرأ على دورها من تحريف يؤدي إلى الأمراض الإنسانية.
وبذلك يبدأ نسيج المقدمة لأن الباب الأول منها هو نظير الحدود والقوانين والمسلمات في كتاب اقليدس: هو وضع الأكسيومية التي تؤسس لبقية المقدمة.
فالباب الثاني في العمران البدوي هو الذي يمثل المستوى الأول من الذوق والعلم أي من علاقة الإنسان بالرزق (مع الطبيعة) وبالبحث عنه (مع الجماعة).
وهذا العمران متقدم على نشأة الدولة بشكل فرض الكفاية. والجماعة ككل تؤدي وظيفة الدولة رغم عدم وجودها الشكلي: الرعاية للنساء والحماية للرجال.
وهكذا فالعمران البدوي يتحدد بدور الذوق الاول (الغذاء والجنس خاصة) وبدور العلم الأول السردية الواصلة بين الارض والسماء والبحث عن سد الحاجة.
وينتهي ذلك إلى نوعين من المعتقدات غير الواعية بعلتها النظرية:
فتكون الجماعة كأمة بذرة أمة سابقة عن الجماعة ككيان سياسي ذي دولة محايدة لغيرها من الجماعات وذات علاقات سلمية وحربية معها: طلب الاستقرار.
عندئذ تتحدد الاحياز: الجغرافيا وقبلها تاريخ بذرة الأمة بسردية مؤسسة للذات وهي ايام الجماعة الدنيوية وعلاقتها بالماوراء: التراث قبل الثروة.
وباجتماعهما تنشأ المدينة التي هي مركز الدولة وأصل القرى التي تتبعها في جغرافيتها (المكان) وتاريخها (الزمان): التراث والثروة المشتركين.
كانت الطبيعة مقدمة في العلاقتين بعبارة الذوق والعلم في مستوييهما الأولين وتكون المدينة مقدمة في العلاقتين بعبارهما في مستوييهما الثانيين.
وإذن فالعمران البدوي يبدأ بالعلاقة العمودية مع الطبيعة خاصة وينتهي بنشأة المدينة التي تبقى شبه مركز للعمران غاية للبدوي وبداية للحضري.
والعمران الحضري يبدأ بنشأة المدينة وينتهي بالعلاقة الأفقية بين البشر: الدولة وسيط بين بداية البدوي وغايته والاقتصاد بين بداية الحضري وغايته.
فالذوق والعلم بمستوييهما الاولين هما محور العمران البدوي وهما بمستوييهما الثاني محور العمران الحضري. وتلك هي فلسفة التاريخ الخلدونية.
وهي في الحقيقة قراءة خلدونية لفلسفة التاريخ الإسلامية وصلتها بفلسفة الدين وهي نقيض فلسفة هيجل التاريخية قراءة لفلسفة التاريخ المسيحية.
والعمران البدوي ينتهي بجعل الجماعة العضوية ذات حكم: بعد الدولة الأول. والعمران الحضري ينتهي إلى جعلها ذات تربية: بعد الدولة الثاني.
فيكون المستوى الأول من الذوق والعلم أصلا للحكم ومداره شرطا الحياة: الغذاء والجنس. والمستوى الثاني منهما أصلا للتربية ومداره التراث ومداره معناهما.
لذلك كانت الدولة بما هي حكم ذات صلة مباشرة بالثروة والمرأة وكانت بما هي تربية ذات صلة مباشرة بالتراث المتعلق بمعناهما رؤية لمنزلة الإنسان.
ورؤية منزلة الإنسان تتضمن بالضرورة عناصر المعادلة الوجودية: الإنسان والله والعلاقة المباشرة بينهما وغير المباشر بتوسط الطبيعة والتاريخ.
وسأقف عند هذا الحد إذ أن ما قلته في فلسفة هيجل التاريخية كاف فالقصد ليس الكلام عليها بل بيان الفرق بين التأسيسين بدين العجل وبالدين القيم.
الكتيب