ه
ذكر ابن خلدون أن من فوائد علم التاريخ تمكين من بيدهم الدولة من معرفة “معتبري الزمان” أعني:
- من يفيد الدولة في وظيفة حمايتها للجماعة بالعصبية التي ينتسب إليها “معتبرو الزمان” بلغة الغزالي.
- من يفيد الدولة بالكفاءة التي يتميز بها “معتبرو الزمان” بنفس اللغة في وظيفة رعاية الدولة للجماعة.
فالدولة أي دولة تستمد شروط قيامها:
- من مقومات شوكتها للحماية ولا حماية من دون قوة سياسية أو بلغة ابن خلدون “عصبية”.
- ومن مقومات شرعيتها للرعاية من دون قوة معرفية خلقية بنفس لغة ابن خلدون.
والأولى أصلها قوة سياسية أو عصبية ذات دور في تاريخ الجماعة أو على الأقل في تاريخ الدولة.
وهي في عصرنا عادة ما تكون حزبا ذا تاريخ في رعاية الصالح العام وقدرة فعلية عليها ما يشهد لها بها التاريخ.
والثانية أصلها قوة فنية أي المعرفة والخبرة وتطبيقاتهما.
وهي في عصرنا عادة ما تكون نخبة ذات تخصص متين في التنمية المادية والتنمية الروحية للجماعة.
وكلتاهما صارت متجاوزة للحدود في جماعة الاختصاص الذي له تاثير مباشر على قيام الأمم المادي والروحي ولا تقتصر على شائعات الإعلام المتخلف.
فماذا كان يمكن أن يقول لو عاش في وقتنا؟
أظن أنه لو تابع ما يجري في دار الضيافة لغير نظريته ولاعتبر كل ما قاله سابقا خطأ في خطأ لان العرب عامة والتونسيين خاصة وضعوا سننا أخرى تتحدى كل المعايير العالمية في المجالين.
وليس كلامي على ما يجري اليوم فحسب بل في الحالات الأربعة التي مرت بها تونس:
مرتين للصيد
ومرتين للشاهد
والخامسة هي التي نشاهدها الآن.
وهي ما تزال جارية بقيادة المكلف الحالي.
وقد تتكرر ثلاث مرات أخرى بعد هذه.
إذ قد يأخذ الفرصة الثانية ثم يأخذ من يعينه الرئيس بديلا منه الفرصتين.
وبذلك يتحقق ما حققه السبسي من تضييع الوقت على العمل مرتين في خرافة قرطاج 1 وقرطاج 2 مع الشاهد.
وكان في كل مرة قد ضيع نصف سنة في الأخذ والرد باسم الأصلاح وهي في الحقيقة لحماية الفساد.
ولم يكن من ذلك بد لأن كل النخب السياسية لا تريد أن تصارح الشعب حقا بما يجري فعلا في البلاد على الأقل منذ أن حكمتها مافية ابن علي وزوجته وأسرتيهما اللتين حولتا تونس إلى مرتع التدخلات الاجنبية وسوقا للتهريب والمخدرات وتبييض الأموال وتجارة الجنس والملاهي وهلم جرا من كل الموبقات التي أصبحت علنية باسم الحريات الشوهاء.
لو كان ابن خلدون بيننا الآن لغير فلسفته كلها ولأقدم على تبني الفكر الرصين للنخبة السياسية التونسية التي عرفت بعبقرية تدبير الراس حتى لو وحلت الفاس في الراس:
- كان سيقدم على استبدال المعرفة التاريخية بالعصبية للحماية بالسمع والطاعة للمافيات التي تمخضت على الحكم الرشيد خلال العقود الأربعة الاخيرة من حكم تونس والتي هي العصبية الوحيدة الثابتة فيها منذ أن ترهل الحزب الذي كان يعيش على شرعية التحرير رغم كونه منقوصا.
- ولأقدم على استبدال المعرفة والخبرة بالشهرة الاعلامية التي هي الركح الوحيد المرشح للشهرة والخبرة التي لها علامات كونية ولاكتفى بالعلامات العربية عامة والتونسية خاصة:
الشائعة كافية شهادة على التمكن من كل شيء كما هي الحال لدى خبراء الفضائيات العربية عامة والتونسية خاصة.
فالمافية هي التي تحمي الدمى.
وهي التي تحقق لهم الشهرة في اي اختصاص وفن.
ولما كانت المافية تملك “معدن العجل وتشتري خواره” (قصة العجل في القرآن) فإنها هي التي تؤدي هذين الدورين ولا حاجة لا لقوة سياسية ولا لخبرة فنية.
فهي التي تخلق ببيادقها الاعلامية وبتمويلاتها الحزبية ما كان من بيدهم مصير الدولة يحتاجون إليه ويستمدونه من المعرفة التاريخية بجماعتها وانتخاب من يصلح لحمايتها ورعايتها بالفعل وليس بظاهر من العنتريات والأكاذيب التي تتصف بها نخب “بودورو” من ورثة الفاشيات العربية سواء المحلية أو الاقليمية الذي صار بيدهم الحل والعقد.
وإذا لم تكتف المافية الداخلية وسند الخارجية فإن الحكومات الاستعمارية يمكن أن تختار بدلا منها وأن تعطي الشهادة “ليس الهونوريس” فحسب بل بإبراز “كبار” المصلحين للإسلام والثوار من الحداثيين الذين فاقت حداثتهم حداثة كل حداثيي الغرب لأنهم “يزيدون” في العلم بمجرد الإكثار من ذكر أسمائها في خطابهم.
لذلك فالحكام يكفيهم الفايس بوك والشهرة في اعلام المافيات المحلية والاجنبية المساندة.
وهي شهرة لا تختلف عن الشائعة.
وقد خصص ابن خلدون للشهرة المبنية على الشائعات ملاحظات شديدة العمق.
لكنه تكلم على شهرة الابطال التي تضخمها الشائعات وليس على شهرة الأقزام الذين سيزيدون تونس تقزما لأن زعماءها صاروا مثل “المرحوم ياسر عرفات” يحيطون أنفسهم بسلطانهم على “بيت المال” بمن سمموه في النهاية ليردوا المقاومة إلى ارتزاق عند العدو نفسه ومن يحميه من القوى العظمى.
فمن أصبحوا “أهل الحل والعقد” ليس لهم الوقت لا للمعرفة ولا للخبرة ولا لوصل العاجل بالآجل بل هم غارقون في العاجل “صم بكم عمي لا يعقلون” لغياب رؤية الآجل حتى يسقطوا في كل مطبات التاريخ القصير.
ولسوء الحظ فنحن في لحظة قد يكون مآلها الانهيار الشامل لآخر قلاع حماية تونس.
لا حاجة للخبرة ولا للتاريخ ولا للاستراتيجيا.
فالتكتيك و”الكو بار كو” كافية وزيادة.
ولعلهم مطمئنون لمن يفكر لهم ويخطط فيغنيهم عن التفكير ويقتصر عملهم على آخر مراحل الفعل السياسي بحيث إن القوة السياسية أو الحزب يصبح مجرد ثرثرات سياسية ظرفية ليس وراءها الا فتاوى بدائية يسمونها فكرا تبنى به الأمم.
لذلك فهم ينتهون إلى وضع البيادق والدمى في يد مافيات داخلية هي بدورها دمى في يد مافيات أجنبية تواصل علاقة المحمي بالحامي القديمة بل وتزيدها تعميقا فتصبح مسيرة عن بعد لكل شيء من سفاراتها ومراكز بحثها وتمويلها لجواسيسها في ما يسمى بالمجتمع المدني.
ذلك هو سرطان المحميات التي تسمى دولا في اقليمنا ومن ثم فكل كلام في السياسة تحول إلى مسرح دمى تحركها مافيات التمويل والدعاية الاعلامية التي ينتدبون إليها طبالين:
والمثال الأوضح هو الحال التي آلت إليها البلاد في ستين سنة من “تدبير الراس” حتى وحلت الفاس في الراس.
ولن يخرجنا من هذا المأزق إلا معجزة قلما تحدث في التاريخ..