لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله
عنوانان من المقدمة يبدوان متناقضين: “في أن الدعوة الدينية من غير عصبية لا تتم” و “في أن الدعوة الدينية تزيد الدولة قوة على قوة العصبية”.
لكنهما في الحقيقة من أفضل ما كتب في تحديد علاقة الديني بالسياسي في المجتمعات البشرية قديمها وحديثها، صريحها ومضمرها رغم تخريف الكاريكاتورين.
فالكاريكاتور التأصيلي الذي يرد السياسي إلى الديني، والكاريكاتور التحديثي الذي يلغي الديني من السياسي، كلاهما غافل عن العلاقة العميقة بينهما.
وعنوانا الفصلين اللذين كتبهما ابن خلدون في المسألة كافيان وحدهما لبيان طبيعة هذه العلاقة. وهي تعرف في الفكر السني بعلاقة الشوكة بالشرعية.
صحيح أن الشرعية تبدو أوسع من العامل الديني إذ لها عدة اوجه تتعين فيها مثل القبول بالدساتير التي تبدو ذات طابع علماني لا إشارة فيها للأديان.
لكن ما يتناساه أصحاب هذا الوهم هو أن الدساتير دون تسليم، يجعلها جزءا لا يتجزأ من الأخلاق الموضوعية شبه مسلمات عقدية مجرد ورقة يفرضها محتل.
والدساتير الفاعلة ليست أوراقا مكتوبة. هي عرف سائد وتقاليد إنها اخلاق موضوعية تحكم معاملات الجماعة وعلاقة الحاكم بالمحكوم بإجماع سلمي وحر.
ومن دون هذه الأخلاق الموضوعية يصبح النظام السياسي استبدادا مطلقا، فيكون كل مواطن وراءه شرطي أو مخبر ويكون الناس في سجن عام كحال العرب اليوم.
فما علاقة الدين بالأخلاق الموضوعية؟ لو أخذنا الأخلاق الموضوعية أي العرف والعادات في المعاملات والحكم من دون وازع باطني، لكانت النفاق العام.
وهي ليست النفاق العام فحسب بل هي بالضبط ما وصفه ابن خلدون بمفهوم “فساد معاني الإنسانية” فيتكاذب الجميع ويتخادعون وفي خوف دائم بعضهم من بعض.
فلا يبقى من الدين إلا الرسوم الخارجية التي تتحول إلى أداة مصداقية مخادعة إيهاما بأن القشور دليل تقوى، وهي في الحقيقة عين النفاق: حال جل العرب.
وقد بين الربيع العربي وخاصة الثورة المضادة، كيف أن جل النخب الدينية التقليدية والنخب العلمانية الحداثية كلتاهما تنافق بما تدعيه من قيم.
ذلك أنهم بمجرد أن جد الجد، وأصبح المطلوب تطبيق هذه القيم في التاريخ الفعلي وتجاوز مجرد الكلام، انحازت غالبيتهم الساحقة للمستبدين والفاسدين.
وتبين أن خدم الحكام المستبدين والفاسدين هم أصل الداء. فهم من أجل فتات يرميه لهم هؤلاء كالكلاب حول موائدهم بأخلاق عبيد لحكام، هم بدورهم عبيد.
ذلك أن الحكام المستبدين والنخب النافذة ليس لهم أخلاق الرئاسة التي تأبى الذل والإذلال، وإنما هم خدم سيد استعماري يذلهم كما يذلون شعوبهم.
فمن يتأمل قردة الثورة المضادة أمام أي غفير إسرائيلي، ناهيك عن وزير أو رئيس أمريكي يجدهم كلهم مثل رئيس شرطة دبي: مجرد خادم ذليل لمافية دولية.
لذلك فلا معنى للكلام على علاقة الدين بالسياسة هكذا ومباشرة، بل لا بد من التمييز بين الفعل السياسي وغطائه القيمي سواء كان دينيا أو علمانيا.
فما يسميه التقليديون قيما دينية وما يسيمه الحداثيون قيما حداثية ليس ما يقولونه ويتظاهرون به، بل ما يفعلونه لما تكون هذه القيم رهان المعارك.
وابن خلدون لم يفته هذا الفرق، فبه يميز بين الوازعين الذاتي والاجنبي. والأول سلطان القيم هو أساس الشرعية السياسية، والثاني هو الشوكة السياسية.
والوازع الذاتي لا يمكن أن يضفي الشرعية حتى على ذاته إذا كان منافقا لا يتعدى القشور والأقوال دون وزع مكتفيا بالقشور. وهو ما فضحته الثورة.
ذلك أن الشوكة لو كانت بحق تستمد شرعيتها منهم، وليسوا مجرد غطاء زائف وكاذب، لكانت بحق مضطرة لتتوقف أمام دفاعهم عما يعتقدون فلا يكونوا طبالين.
فلا أحد يصدق أنه لو كان علماء السعودية مؤمنين حقا بالإسلام الذي يزعمون العلم فيه لاستحال على أي دكتاتور أن يفرض عليهم فتاوى منافية للإسلام.
وقد وجدوا حيلة تريحهم بمساعدة دجالي الحداثة: فزعموا أن الدين لا دخل له في السياسة: فبات الإسلام يقبل الاستبداد والفساد ويسمح بتبريرهما.
قد نجد لهم عذرا فالحكام بيدهم الأرزاق. وهذا صحيح. لكن له شرطين: أن يريد العلماء الثروة لا الكفاف، وأن يتنافسوا على الحظوة لدي المستبدين.
وهذا من قوادح الإيمان أو على الأقل الصدق فيه. لذلك فقد أصبح الدين بضاعة، وأصبح دجالو الدعاة من الأغنياء والمقابل حتما هو بيع الدين بالدنيا.
والظاهرة ليست جديدة، فآل عمران تعتبر التحريف المادي والمعنوي للدين أصله يرد إلى هذه الظاهرة: حلف بين رجال الدين والحكام المستبدين والفاسدين.
ومرة أخرى فالقصد بـ”رجال الدين” كل من له وظيفة اضفاء الشرعية القيمية على السلوك السياسي دينيا كان أو علمانيا: الطبال التقليدي والحداثي.
ونجح حكام الثورة المضادة، فجمعوا بين النوعين. بل وأبدعوا نوعين آخرين أشد وقاحة وهم دعاة جدد: تحديث الخطاب الديني وتأصيل الخطاب الفلسفي.
ولست بحاجة لذكر الأسماء فالنوعين الأخيرين ظاهرة بدأت تطغى وخاصة بين تأصيلي يفلسف الدين أو تحديثي يدين الفلسفة: إنها سوق أكثر نَفاقا ونِفاقا.
وبهذين النوعين الجديدين من التجارة بالأصالة والحداثة، يتوقف التحليل الخلدوني. فعمق الظاهرة لم يكن بوسع ابن خلدون إدراكه لعدم تجليه في عصره.
وفرضيتي كان يمكنه الانتباه إليها بالمقارنة بين اساس القيم الدينية في الإسلام، وأساسها في رده على ابن سينا في اثبات النبوة بضرورة الشارع.
فابن خلدون اعتبر الشارع ليس بالضرورة صاحب وحي بدليل أن أصحاب الأديان الطبيعية (الأديان الآسيوية) أكثر عددا من أصحاب الأديان المنزلة.
وإذن، كان يمكن المقارنة بين اساس القيم الدينية في الإسلام واساس القيم في الأديان الطبيعية (والعلمانية دين طبيعي حتى في حالة الإلحاد).
فأساس القيم الروحية التي ينسبها الإسلام إلى الشارع الإلهي، لم يأت بها الوحي. بل هو يذكر بها وهي مرسومة في الفطرة التي فطر الله الناس عليها.
والعلماني لا ينفي القيم، بل هو يعتبرها مرسومة في “طبيعة الإنسان” ويسميها الحقوق (والواجبات) الطبيعية للإنسان: فما علاقة الفطرة بالطبيعة.
وإذن، فالتشريع الحر للإنسان في العلمانية بخلاف التشريع المضطر في الدين، خرافة من أوهام كاريكاتور التحديث: لا يوجد فيلسوف يعتبر التشريع تحكميا.
لكن الديموقراطية توهم بذلك. وهي عندئذ شعبوية وليست ديموقراطية. الديموقراطية تشريعاتها مستمدة مما بلغ إليه العلم بطبيعة الإنسان والعمران.
من دون ذلك، يمتنع نقد الموجود بالمنشود. وجود الفارق بين الموجود والمنشود في كل عمران علته أن الإنسان يميز بين الأمر الواقع والأمر الواجب.
فما يسميه المسلم الصادق فطرة، يسميه العلماني الصادق طبيعة الإنسان. لكن المسلم المنافق والعلماني المنافق اللذين فضحتهما الثورة كافران بهما.
ما أريد بيانه، هو أن السياسة التي هي فعل تحقيق القيم بقدر الاستطاعة في حياة الجماعة بالتربية والحكم لا بد فيها من الوازعين الذاتي والأجنبي.
والوازع الذاتي سمه قيم العقد الديني أو العقد الفلسفي لا يهم. المهم هو كونها قيما صاحبها صادق الإيمان بها أو غير صادق: إنسان حر أو تاجر أشر.
وقانون العلاقة بينهما هو قانون العلاقة بين الوازعين: كلما كان الوازع الذاتي أو الضمير الخلقي فاعلا، قلت الحاجة إلى الوازع الأجنبي أو الشوكة.
وكلما تقدمت الشوكة، احتاجت إلى ظاهر من الوزع الذاتي توظف لها تجار الأصالة والحداثة بأنواعهم الأربعة القديمين والجديدين: درس الربيع العربي.
ومن علامات تحول هذه المعاني التي يظنها الكثير افكارا ذات وجود ذهني حصرا، أصبحت مؤسسات فعلية ذات وجود عيني في جغرافية العرب بفضل الربيع.
فالنوع التقليدي من تجار الأصالة ومن تجار الحداثة، كانا موزعين بين بلاد الأنظمة القبلية والأنظمة العسكرية في جغرافية العرب قبل سقوط السوفيات.
وكان كاريكاتور الاصالة في خدمة الأنظمة القبلية وحاميها الغربي، وكاريكاتور الحداثة في خدمة الأنظمة العسكرية وحاميها الشرقي: دكتاتوريات العرب.
وخف الصراع بين نوعي الانظمة بعد سقوط السوفيات، لأن محمياته أصبحت محميات غربية بعد أن فقدت سند الدب الروسي فأصبح اليساري والقومي ليبراليا.
ولما جاء الربيع كانت ثورة الشباب الفاضحة: أصبح التأصيلي والتحديثي تابعا لممولي الثورة المضادة، ولكن بشيء من الاختصاص والجمع بينهما في آن.
فالليبرالي واليساري والقومي إجمالا دجالو التحديث، صاروا تابعين لكنسية جديدة ضمت الأزهر ومنظمة العلماء المنافسة لاتحاد علماء المسلمين.
وهذه مركزها أبو ظبي وتوابعها في القاهرة وفي كل بلاد الربيع وفي المهجر. وظلت الكنيسة القديمة التي يمثلها السلفيون تابعة لأحول الحكم السعودي.
ومهزلة المهازل ما يجري في مصر: صارت مزبلة ومصب النفايات العربية كلها لأن منظرها وقائدها ماريشال غبي وعميل دنيء أطلق الغياب بحلم الكباب.
صرت أتطير من ابن خلدون: فهو يحرك كل المواجع ويحلل كل الفواجع، فلا يتركني أهنأ بلحظة كلما قرأته وناظرت بين إبداعه وحال الأمة ووضع الغمة.
الكتيب