ه
قد يذهب القراء إلى الظن أن موقفي من ائتلاف الكرامة متناقض.
والعلة هي الظن بأن الوصف “سلبي” يناقض تعريفي الأول لهم بكونهم فتية يمثلون أمل المستقبل بالنسبة إلى ثورة الحرية والكرامة.
ومرة أخرى سأستعمل “سلبي” للكلام حتى على موقفي نفسه منهم.
فقد قلت إني لو كنت شابا لانضممت إليهم لأني قارنت موقفهم من الجماعة السياسية الحالية في تونس بموقف حلف الفضول من الجاهلية.
وها أنا أقول لو كنت ممن يمكن أن ينضم إليهم لما تكلمت لكونه كان سيكون مدحا لذاتي.
وإذن فموقفي سلبي كذلك بل هو سلبي مرتين.
ولو كان المسلوب واحدا لصار موجبا لأنه كان يكون سلب سلب.
لما وصفت موقف فتية الكرامة بأن موقفهم سلبي كان هدفي تعريفهم بالقياس إلى ما طرأ بعد الانتخابات من ظاهرات جديدة لم تكن موجودة قبلها.
وضعتهم في جديد الساحة التونسية أعني أنهم كانوا ثالثة الظاهرات التي تجلت خلال معركة الانتخابات الـأخيرة:
1-ظاهرة الرئيس ورديفه.
وهي لغز لم يؤجل شروعه في الفعل إلا ما يمر به مشروع الملالي من أزمة في موطنه وما حوله أي في إيران وفي العراق ولبنان خاصة.
وما مجيء لحاس إيران – عطوان – وزيارته للرئيس ربما بدعوة منه إلا لهذا الغرض.
فالهدف إما التوسط أو الاستشارة أو التعليمات.
2-ظاهرة القروي وهي أكثر الظاهرات بينونة من حيث الطبيعة والبرنامج.
إنه برنامج التعامل مع الشعب التونسي كما تتعامل إسرائيل مع الشعب الفلسطيني الجائع.
يكفي سد حاجاته النباتية حتى ينسى المطالبة بالحرية والكرامة أي إن الخطة هي كيف يمكن الانتقال من “خبز وماء وابن علي لا” إلى “أعطنا الخبر والماء والثورة لا”.
3-ائتلاف الكرامة.
وهي الظاهرة الصحية الوحيدة رغم سلبيتها.
والخطر الذي يتهددها هو توهم البعض منها أن مشروعها من طبيعة مشروع الظاهرة الأولى.
وآمل ألا يكون ذلك عاما.
وهي ظاهرة سلبية لأنها قابلة للتلخيص في كشف مفاده أن النخبة السياسية تخلت عن أهداف الثورة بل وخانتها وخاصة تلك التي جعلت المشاركة الظرفية في الحكم اغراء يلغي قيم الثورة ويجعلها مجرد شعارات لا يتبعها عمل حقيقي لتحقيقها.
ولذلك من يعتبرها من لجان حماية الثورة ليس كاذبا من حيث الطبيعة.
وخوفه منها حقيقة عميقة ولا ينبغي الغفلة عن هذين الموقفين.
لكنه كاذب من حيث ثورة الوعي التي تصحبها:
فهي ليست ناتجة عن ثورة موجودة محتاجة للحماية بل هي متعلقة بوجود نكوص ينبغي مقاومته لاسترجاعها.
وهذا هو قصدي بكونها سلبية:
فالوعي بعدم شيء كان ينبغي أن يكون موجودا هو المرحلة الأولى في كل فكر مبدع وعمل منتج. الوعي بالمعدوم الذي ينبغي أن يوجد هو جوهر المنشود وهي محرك كل الثورات التي غيرت التاريخ الإنساني.
ولهذه العلة اعتبرت النهضة نفسها قد انقسمت أو هي لا محالة ستنقسم إلى صنفين من النخب السياسية:
1-من فرطوا في الثورة ممن استمرأوا كراسي المشاركة الذليلة في الحكم وبعض مزاياه.
ما أنساهم دور الحركة الذي يتجاوز شروط تبعية الأمة وليس تونس وحدها.
فصاروا مستعدين للتنازل اللامتناهي على ما تبين أنه لم يكن عندهم إلا شعارات للوصول إلى هذه المرحلة.
2-ومن كان يدعو الى مزيد من الانتقال الصريح والمتدرج إلى هذا الوعي الائتلافي لدى الكثير من المنتسبين إليها من المؤمنين بالثورة. وهم الامل مع الائتلاف لتجدد الوعي الثوري شرط استئناف الأمة دورها استئنافا يمكن لتونس أن تكون الرائدة فيه.
ما يعني أن الائتلاف يمكن أن يكون مستقبل التجديد الإيجابي للنهضة التي فشلت في الانتقال من “الساكت” التي رغم الاقوال ما تزال بالأفعال من جنس التنظيم الإخواني الذي له “مرشد” ولو بشكل سلطاني “بمنهج ياسر عرفات” إلى الحزب الحديث.
ذلك أنه لا يمكن لمن يؤمن بضرورة استئناف دور الأمة
للتحرر من التبعية
وللعودة إلى الدور الكوني في نظام العالم
أن يبقى في نظام حزبي ذي مرجعية “مرشدية”.
بل لا بد له من الجمع بين
المرجعية الإسلامية
والتنظيم الحزبي الحديث.
فالترجمة السياسية للمرجعية لا تجعل السياسة دينا بل تعبر عن قيم المرجعية لتكون غايات الفعل السياسي الذي لا دخل له في التربية الدينية والعبادات.
وإذا استخرجنا هذه القيم وجدناها تقتصر على الجمع بين
التحرر من الدولة الحاضنة اقتصاديا
وتعديلها بالدولة الراعية اجتماعيا
أعني بالتدقيق معنى يمين اليسار بلغة الفلسفة السياسية الحديثة يعني:
1- الجمع بين حرية المواطن شرطا في الإبداع والإنتاج المادي والروحي للجماعة غير التابعة
وهو معنى العزة والقيام المستقل بالذات.
2- وبين كرامته شرطا في قدرة الجماعة على أن تحكم نفسها بنفسها.
وذلك هو مدلول الشورى 38.
وإذا كان ذلك كذلك فإن ائتلاف الكرامة حتى يكون أمل المستقبل ينبغي ألا يكون مهتما بالمشاركة في الحكم حاليا ولا حتى في المعارضة لئلا يبقى سلبيا.
وعليه أن يمر إلى فعل التأسيس المتين لشروط الفعل العميق وذلك بتقديم الآجل على العاجل.
فحسب ما اطلعت عليه من أسماء وكفاءات منتسبين إلى هذه الظاهرة الجديدة يمكن القول إنها تتضمن كل النخب التي تحتاجها الأمة.
وهم من أفضل من أنجبت تونس وانتدبت الثورة.
وجلهم من أعيان اختصاصهم.
لذلك فلا بد أن يشرعوا في العمل طويل النفس بشروط الوصول إليها وصولا يجعلهم قادرين على تحقيق البرنامج الذي يحقق الانتقال من الرؤية المتخلفة لترجمة دور المرجعية الإسلامية في العمل السياسي من حيث هي مصدر القيم التي ينتظم بها أفعال سياسة الدنيا بقيم سياسة يؤمن أصحابها بوجود الأخرى:
1- تكوين نخبة الإرادة أو النخبة السياسية ومؤسساتها.
2-تكوين نخبة المعرفة أو النخبة العلمية ومؤسساتها.
3-تكوين نخبة القدرة أو النخبة الاقتصادية ومؤسساتها.
4-تكوين نخبة الذوق أو النخبة الثقافية ومؤسساتها.
5-تكوين نخبة الرؤى فلسفية كانت أو دينية ومؤسساتها.
أما الاكتفاء بالخطاب السياسي والفعل المباشر وتقديم العاجل على الآجل وكثرة الظهور في إعلام المجاري فيمكن اعتباره اكتفاء بغاية الفعل السياسي من دون شروطه وهي الأربعة التي تليه في هذا العرض.
لكنها تشترطه حاصلا قبلها.
وهي إذن تتقدم عليه في الوجود وفي الفعل.
فالنخبة السياسية التي هي سياسية حقا – ليست نخبة الارتجال التكتيكي الدال على “خليها على ربي” و”الرماية في عماية” و”دعها حتى تقع”.
وليست بديلا من النخب الأربع الباقية.
بل هي تعمل بثمرات أفعال أنواع النخب الخمس.
وتشرف على شروط إدارة المؤسسات التي وظيفتها تحقيق هذا التكوين:
فالساسية هي سياسة هذه الأعمال بقوامة تنوب الجماعة لأن الفاعل لها هو الجماعة وليست الدولة.
وإذا لم يحصل هذا فالنتيجة هي ما نراه في كل الأحزاب العربية عامة والتونسية خاصة.
سيقال لكن هذه الوظائف هي وظائف الدولة وليست وظائف الأحزاب.
وهذا صحيح إذا كانت الدولة دولة بحق.
ولسوء الحظ فليس في بلاد العرب دول بل مافيات في محميات.
ما يسمى دولة في تونس هو محمية تحكمها مافية كانت متحدة تحت بالبربوز الواحد وزوجته ثم تفرقت بعدهما إلى مافيات داخلية متناحرة تناحر المافيات الخارجية التي تديرها بالرموت.
وكلها لا يعنيها لا نخبة سياسية ولا نخبة معرفية ولا نخبة اقتصادية ولا نخبة ثقافية ولا نخبة رؤية.
ومن يعتقد عكس ذلك فهو ينكر وجود ما يجري حاليا في كل بلاد العرب وبالقرب منا في تونس رغم أنه يثبت أن كل ما كان يسمى دولا تبين بالكاشف أنه ليس إلا مافيات لم تعد أي منها تعمل في الخفاء بل صراحة وعلنا.
ويكفي شاهدا على ذلك سلطانها على الأحزاب والاعلام.
ومن ثم فمن يتكلم على الدولة العميقة يكذب مرتين:
1-فهي ليست دولة لأنها
تبينت منظومة مافيات تتقاسم العمل
وتتنافس عليه
ويمكن
أن نشير إلى “برابيزها” بالاسم
وأن نعين حتى عناوينهم
وهم فوق “كذبة” الدولة متمثلة في المؤسسات التي هي بؤر التآمر على الوطن ومن يحكم ومن يعارض.
2-وهي ليست عميقة لأنها
لم تعد تتخفى
بل هي تصول وتجول على السطح
ولا أحد يستطيع ان يلمس شعرة منها
إلا إذا “تعارك” برابيزها
وظهر عركهم في من يسمون حكاما ووزراء ومنظمات “وطنية”.
وأختم بأن هذه الوضعية من يفهمها ويعمل بقوانينها ولا يريد تغييرها هما الحزبان الأولان أعني حزب الرئيس وحزب القروي.
وحتى وإن اختلفا حول الأسلوب تماما كما نرى ذلك في الإقليم كله.
فكلاهما يريد أن يجعل ذلك رسميا:
1-إما على الطريقة الإيرانية بتكوين مليشيات من جنس الحشد الشعبي بدعوى إعادة هندسة الدولة بالمجالس واللجان الثورية ومجتمع القانون.
2- أو على الطريقة الإسرائيلية بتكوين جمعيات خيرية تعمل بجنس المعونات التي توزع على اللاجئين حتى يبقوا لاجئين عبيدا لمن يغذيهم بالمقرونة.