لا يمكن أن يصدق المرء أنه ناصح للأمة ولا لنخبها.
لكن لا أحد يمكن أن ينكر صدق ما يقول إذا اعتمدنا الوضع الراهن وتغافلنا عن كلامه الممكن على القيادات العربية السابقة: مثل صدام وعبد الناصر والقذافي وبورقيبة وبومدين.
فلا أحد يمكن أن يكذبه في ما يقوله عن حفتر أو عن السيسي أو عن بشار أو خاصة عن صاحب المنشار وأمير الإمارات الذي يقوده كما يقاد الأعمى.
وحتى ما قاله عن قيس سعيد لما علق على قوله في الحملة إن التطبيع خيانة فقد تبين صدقه فيه.
فقد قال انتظروا قليلا وسترونه مثل غيره من رؤساء العرب يلعق حذاء إسرائيل.
وفعلا فقد صدق إذ إن سعيد فعل على الاقل خمس مرات ما يثبت توقع إيدي كوهين في أقل من خمسة أشهر من وصوله إلى قرطاج.
والمعلوم أنه قد فر إليها بسبب كورونا فذكرني بحكاية الأم التي جربها ابنها تقول إنها تفضل أن تموت بدلا من ابنها.
فوضع ديكا منتوف الريش تحت قصعة ولما رفعتها انفجعت فقالت: “يا ملك الموت منك لصاحبك” (فلكأن سعيد كذب شعبيته فقال: يا كورونا منك لأهل المنيهلة بدءا بصاحب المقهى):
- فقد قابل معارض تونسي من أصل يهودي ولم يكن الوحيد الذي يمثل ذلك الاتجاه في المعارضة فضلا عن غيره من المعارضات الأخرى التي ضحت أكثر منها والتي لم تعارض بورقيبة وحده بل عارضت ابن علي خاصة.
- ولم يقدم شيئا لزوجة الشهيد الذي ساعد غزة ولم يستقبل ويكرم إلا من يمثلون لونا سياسيا وحدا بمن فيهم أحد “زوافرية” الحثالة من “المثقفين” وأحد الطبالة للملالي من الصحفيين.
- وحج إلى الغريبة وطبعا وراء ذلك هو الحاجة إلى توسط فرنسا التي عين لها من تريد في حكومته من خارج القوى السياسية ذات الشرعية الانتخابية.
- واستقبل الربي من دون رموز الدينين الآخرين حتى من باب التغطية على هذا الامتياز لأن القصد هو بيان أنه امتياز لمن ينتظرون منه عبارات الخضوع.
- والأدهى من ذلك كله أنه يستعد للاعتراف ببشار واتصل بمحاصر غزة. ولم يعد يذكر شيئا عن التطبيع لأن كل من عينهم في ديوانه وفي حكومته مطبعون إما لعلاقتهم الفكرية (الشيوعيون) أو لعلاقتهم بالثورتين المضادتين (العربية والإيرانية) أو بفرنسا.
ولعله-إذا صدقنا ما يتداول من توصية المقيم العام بتعيين وزيرة الثقافة جزءا من الدور في التربية “الراقية”‘-هو الذي عين “المثقفة” التي تعيب علينا قلة الثقافة والتربية أضافت قلة الفهم بعد أن ترجمت تدوينتها إلى العربية.
ولهذه العلة فلا بد من فهم القصد من وظيفة إيدي كوهين لأنه لا يمكن أن يعتقد المرء أنه يفعل ذلك باختياره الشخصي بل هي مهمة كلفته بها الموساد والحرب النفسية على الأمة عامة وعلى الأعراب منها خاصة.
لو كان ما يقوله ليس حقيقيا لاستحال أن يكون لخطته أهمية أو تأثير في صمود الامة: فذلك حتى يضفي عليها المصداقية. ولكن لو كان ما يقوله من الأسرار لكان لكلامه معنى. فلا أحد يجهل أن بشار والسيسي وحفتر وصاحب المنشار وأمير الإمارات وقيس وغيرهم كثير يصح فيهم ما يقوله عنهم بل وأكثر.
والآن أليس هذا أيضا هدفه سحب هذا الصدق على قيادات الماضي بحيث يشكك الشعوب في من كانت تعتبرهم من القيادات المخلصة. وهم نوعان بعضهم كانوا رموزا ثم فضحتهم الثورة.
وبعضهم من القيادات الذين انقرضوا قبل الثورة مثل صدام وعبد الناصر وبورقيبة وبومدين.
وصدقه في كلامه على أولئك والفضائح التي تلت الثورة كما في حالة القذافي وبشار وحسن نصر الله وحتى بوتفليقة وغيرهم كثير يجعل كلامه على هؤلاء -صدام وعبد الناصر وبوتفليقة وبورقيبة وكل حكام العرب السابقين-قابلا للتصديق إلى حد كبير.
لكن هذه المرة ليس لأنه هو الذي يقوله بل لأن الاحداث هي التي تعبر عنه. فكل ما حصل بسببهم كان نكبات متوالية ما يعني أنها لا يمكن أن تكون بنات الصدف والهدف هو الإيحاء بأن فشلهم كان نتيجة خيانات.
وإذن فالمشكل يبقى مشكل: ما الهدف من بيان العدو خططه في تخريب مسعى الأمة هل يمكن لعاقل أن يعتقد أنه ناصح؟ ولكن هل يمكن لعاقل أن يعتقد أن مثل هذه الاعلانات يبقى لها فاعلية في حرب نفسية تتعلق بالماضي أم القصد هو المستقبل؟
ذلك ما كان علة خلافي مع حفيد البناء وفارس الجدل الذي وثق فيه شباب أوروبا المسلم والذي تبين ما لا أحتاج لقصه من سلوك لا يليق بمسلم خاصة وهو يدعي القيادة الروحية. فهو كان يريد أن يقنعني بأن الثورة مؤامرة أمريكية إسرائيلية ضد الأنظمة العربية وقاسها على ما فعل ضد الأنظمة التي أسقطتها الانقلابات بعد حرب 48.
وإذن فهو يشكك في قيادات النصف القرن الماضي الثاني مثل كوهين وهو يصرح بما يستهدفه كوهين أي التشكيك في ثورة الربيع. ومعنى ذلك أن الغاية هي التشكيك في الثورة التي انطلقت من تونس وعمت بلاد العرب.
وطبعا قد يصدق الكثير أن ذلك تأويل محتمل والرجل كتب في ذلك كتابا وحاول الدفاع عن هذه الفرضية في ندوة نظمتها جمعية عربية في سويرا. ودار بيننا حوار حول المسألة.
والحوار موجود في اليوتيوب بالفرنسية طبعا لأن الشباب من الأجيال المتأخرة من المهاجرين لا يفهمون العربية جيدا. ولست بحاجة لعرض زبدة ما دار بيننا إذ هو كما أسلفت منشور.
المهم هو أن هذا الأمر يعيدني إلى الماضي فأشك في تشكيكه.
قد يكون عبد الناصر وصدام وبومدين وبورقيبة قد استغلوا من استغلهم. لكنهم ليسوا خونة بدليل أسقاطهم من قبل من ظنهم دمى فخرجوا عن طوعه. صحيح أن أفعالهم لم تكن صائبة بل كانت مصيبة لكن ذلك بسبب الجهل وغياب الشروط للخروج من ثقافة الاستبداد والفساد والانحطاط لقرون.
وما أخشاه هو أن تكون الثورة قد وقعت هي بدورها في نفس الفخ ومعنى ذلك أن الأمر لا يتعلق بالنوايا ولا حتى بالإخلاص والولاء بل بيسر التلاعب بهم كما أرى ذلك في التجارب الخمسة التي عاشتها الثورة حتى انتهت إلى تحولها فعلا إلى مؤامرة على الثورة نفسها: في سوريا وفي مصر وفي اليمن وفي ليبيا وفي تونس.
وقد تجلى هذا التحول أخيرا في السودان: فهي ثورة في الظاهر لكنها لا علاقة لها بثروة الربيع بل هي ثورة على محاولات السودان الخروج من التبعية للثورة ا لمضادة في الخليج بمساعدة تركية فكانت انقلابا على هذا المسعى وليس ثورة من جنس ثورة الربيع.
واعتقد أن ما يجري في تونس منذ وصول سعيد إلى قرطاج هي من هذا الجنس ولكن هذه المرة بالجناح الثاني من الثورة المضادة جناح الملالي. فتكون الثورة فعلا في خطر لأن الثورة المضادة بجناحيها تحالفت مع الاستعمار الذي لم يعد مطمئنا لصمود عملائه فتدخل من جديد ليكون فعله مباشرة سندا للملالي وللخليج المعارضين للربيع.
وبذلك أفهم دور أيدي كوهين: فهو للتشكيك في ما قبل من فضحتهم الثورة أي ثورات الاستقلال الأولى وما يمكن أن تأتي به الثورة أي ثورات الاستقلال الثانية خوفا من اجتماع استكمال التحرير وتحقيق التحرر لأن الثورة لم تعد ثورة نخب يسهل استتباعها.
الهدف هو الحرب على الثورات الشعبية الفعلية التي حصل لها ما عرفته مصر من قتل وتشريد لأنها ثورات تذكر بثورات التحرير الأولى التي خانها الجيل الذي يمثله العملاء -الحركيون والصبايحية.
فلهم أحفاد هم بشار في سوريا السيسي في مصر وحفتر في ليبيا ونصر الله في لبنان وسعيد في تونس واذيالهم في كل الوطن ومعهم نوعا الثورة المضادة الخليجية والملالية: إيدي هو بوقهم.