لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفلهإعادة البناء لشروط الاستعمار في الأرض بقيم الاستخلاف
القسم الرابع/الفصل الرابع
تيسيرا للكلام في المؤسسات والكيانات الاجتماعية العامة حتى لا أقع في اللامتناهي لتجليات الاجتماعي وتعثراته التي أفسر به تردي حضارتنا وبلوغها غاية الانحطاط الذي يتمثل تأثيره في عدم كفاية قرنين لتجاوز الكبوة سأختار المقومات الخمسة لنظرية الإنسان أصل كل ما هو اجتماعي كوني. لست غافلا عن كون علم الاجتماع الحديث يهتم بالعيني أكثر من اهتمامه بالكوني وربما بالخصوصي أكثر من اهتمامه بالكلي وبالدراسات الميدانية أكثر من اهتمامه بالمشترك الإنساني لكن همي ليس اجتماعيا بالفهم البراجماتي والمعتمد على الاستطلاعات والإحصائيات بل بعلاج العلاقتين اجتماعيا. وقد أكثرت من الإشارة إلى العلاقتين العمودية بالطبيعة والأفقية بالتاريخ أو بالمؤسسات الاجتماعية التي تعتمد عليها السياسة حكما وتربية للتحقيق التوازنات الممكنة من الوجود السلمي في مؤسسات يغلب عليها الممارسة العرفية أكثر من المؤسسات الشكلية في العمل والتعامل أو التبادل والتواصل. فالاجتماعي هو الارضية التي يجري فيها السياسي والتربوي في التعامل مع هذين العلاقتين العمودية والافقية اللتين تمثلان مدار كل ما هو علاقات اجتماعية: فالناس يتبادلون ما ينتج عنهما ويتواصلون حول ما يتعلق بهما وبما ينتج عنهم في علاقات التنازع بين البشر في الجماعة أو بين الجماعات. وخياري هو التالي: مقومات الإنسان من حيث هو مستعمر في الارض بقيم الاستخلاف أو بدونها خمسة هي الإرادة وكليها السياسي والخلقي والعلم وكليها الإدراك والمعرفة والقدرة وكليها الثروة والمنزلة والحياة وكليها الذوق والفنون والوجود وكليه الرؤى الدينية والفلسفية. فلندرس ما حل بهذه الوجوه. ولندرس بالترتيب المعكوس فنبدأ بآخرها ونعود إلى أولها في مستويين كسلوك فردي وكسلوك جمعي وما بين السلوكين من تفاعل ومن تأثر وتأثير في السياسي والتربوي لنفهم المعنى الخلدوني لفساد معاني الإنسانية الذي يفسر به ليس انحطاط الأمم فسحب بل وكذلك زوالها البطيء من التاريخ. وهذا لا يتنافى مع الدراسات العينية ودراسة الحالات المونوغرافية والاحصائية والاستطلاعية لكني كلامي على الماضي وتطور المؤسسات الاجتماعية ودون أن أنفي إمكانية ذلك من خلال الكثير من الوثائق التي تعد ثقافتنا ثرية فيها كثيرا حتى إن لها معاجم خاصة بها ولها فنون تأليف تشملها. فمؤلفات الطبقات ومعاجم الحرف وخاصة دفاتر شهود العدول تمكن من علم اجتماع تاريخي مفيد. لكن ذلك كله ليس مطلوبي بل كما فعلت في كلامي على السياسة سأكتفي باستخراج بنية عامة تشرح كيف الذبول المتدرج للمؤسسات والكيانات الاجتماعية التي كان لها التأثير في الخمول العام للإبداع الحضاري. فوصف الظاهرات الاجتماعية وتشخيص أحوالها ليس مرتبطا بالمباشر والحي منها بل يمكن أيضا وصف ماضيها وتشخيصه من خلال الوثائق التي رصدت مجراها لما كانت في شبه بث حي إما في كلام أصحابها عليها أو في آثارها التي كانت مدار جدالهم وخاصة صراعاتهم الفئوية والطبقية والطائفية إلخ… وفي هذا المضمار اعتبر دراسة الذهنيات وتحولاتها البطيئة من حيث التراكم الكمي والفجئية من حيث الطفرات الكيفية جزءا لا يتجزأ مما يمكن تسميته علم الاجتماع التاريخي حتى لا يقتصر على الاجتماع على دراسة ما يعاصره الباحث من احداث اجتماعية حية خلال مجراها وليس بعده أو حتى قبله. نعم “أو حتى قبله” ذلك أن توقع مآل المسارات الاجتماعية بالإسقاط على التطور المتوقع يمكن اعتباره علم اجتماع الاحداث المقبلة بوصفها مآلات الأحداث الحالية إذ لا فرق بين اعتبار المآلات الحالية حصيلة لحالات ماضية كان توقعها ومقارنة هذا التوقع بما صار حاصلا واعتبار المقبل افقا لحصوله. وهذه مقدمة للبدء في دراسة الرؤى الدينية والفلسفية بوصفهما ظاهرتين اجتماعيتين تحددان آفاق الصيرورة الاجتماعية والحضارية لكل جماعة أو هي الإطار التصوري والمفهومي لمسارها الاجتماعي والحضاري لأن الإنسان في علاقته بعالمه الطبيعي والتاريخي مستوى حدثه مرفوق دائما بمستوى حديثه عنه. وتلك هي علة تعقيد العلوم الإنسانية الأبلغ من تعقيد العلوم الطبيعية: فمستوى الترميز أو الاسترماز هو الذي يضاعف مجرى الظاهرات الإنسانية لأن الأحداث مصحوبة بما يعبر به الوعي عليها من أحاديث هي الإطار الرؤيوي دينيا وفلسفيا وإيديولوجيا فيهما معا ما يجعل “الواقع” مفهوما لا يكاد يدرك. وفي الحقيقة فما يفعل في الاحداث ليس الحاضر بل الماضي والمستقبل بخلاف من يتوهم من يتصورون أن الحاضر له وجود غير كونه ملتقى ما مضى وما هو آت حتى في الطبيعة. فـ”البوتونسيال” أو الذي بالقوة يفعل فعل “الريال” أو الذي بالفعل والإنسان يفعل فيه المتوقع والمتذكر أكثر من الحاضر. لذلك فالظاهرات الاجتماعية الحاضرة هي في الحقيقة ملتقى ماضي المجتمع ومستقبله لأن حاضره لحظة سيالة ليس لها قرار وخاصة في المجتمعات الحديثة التي ترهن المستقبل لتحل مشكلات الحاضر والمستقبل الذي ترهنه هو دائما المنتظر باعتبار الموجود الذي يضمن رهن المستقبل وخاصة في الاقتصاد. والاجتماع وثيق الارتباط بالاقتصاد ليس بمعناه المادي فحسب بل بمعناه الرمزي لأنه للثروة دورين بالإضافة إلى سد الحاجات: الأول هو أنه سلطة في كل سلطة سواء كانت سياسية او معرفية والثاني هو كونه محدد سلم المنازل في أي جماعة لأنه رمز القدرة الفعلية. تلك هي محركات الإنسان. وحتى دور السلطة الروحية المتعالية التي تنسب إلى الله فهي تعير بهذه المعايير إذ هو أساسا يعتبر سلطة على الأرزاق والمنازل خاصة في الدنيا وفي الآخرة مباشرة بالنسبة إلى الإنسان العادي وبتوسط الوسطاء الروحيين الذين يوهمون العامة بأن لهم قدرة على التوسط وتبليغ صوتهم لصاحب الدورين. ولذلك فما يعيني من المؤسسات والكيانات الاجتماعية هو هذه الفاعلية للماضي والمستقبل في الحاضر لحظة بلحظة في توالي حقب التاريخ الذي أريد فهم انقلابه من تاريخ أمة مبدعة ومبادرة حتى إن هيجل اعتبر ذلك من أهم مميزات الحضارة الإسلامية بالمقارنة مع الحضارة الهندية مثلا وما الذي كسحها. ما الذي آل بالمسلمين عامة والعرب غاية بالإخلاد إلى سبات عجيب جعلهم بالتدريج ينتقلون من قادة العالم إلى توابع أقزامه فتصبح السياسة التي هي إدارة علاج العلاقتين العمودية مع الطبيعة والأفقي مع التاريخ خارج أيديهم فيحكمهم ويربيهم أهماج العالم والحاميات التي كانت مرتزقة لدى حكامهم. وكان يمكن ألا أبالي بالأمر لو كان ماضيا مضى وانتهى لكنه ما يزال قائما بل هو يزداد وخاصة عند ذوي الثورة الخام الذين يكتفون بالعيش عيش الانعام سواء كانوا من مشرق العرب أو من مغربهم. ومن ليس له ثروة خام تذكر يبيع المناخ والشواطئ ويقبل بأن يحول ثقافته إلى ثقافة خدمات للغرائز. والأعجب من ذلك كله هو سلطان الحاضر الذي لم يسبقه ماض كان يعد له باعتباره المستقبل بل هو حاضر لحظي ليس له ماض أعد له فيكون الفعل فيه مجرد رد فعل للآزف من الحاجات وتلك هي حياة البهائم الذين لا يرون من الزمان إلى حاضره وينسون أن الحاضر لا معنى له إلا بطرفيه. ولا أعني أن المسلمين والعرب ليس لهم ماض وليس لهم مستقبل لكن ماضيهم لم يعد محركا إلا لقلة من الشباب ليس لهم دراية بمحركه والمستقبل لا يعني أحدا لأن من بيدهم الحل والعقد دون شرعية مستقبلهم لا علاقة بالجماعة إذ هم أولا دمى في يد حماتهم ومشروعاتهم حيزوها خارج الاوطان في الغرب. ولينظر القاري الكريم فيقارن العرب بمن يستعمر أوطانهم وحتى بمن هم ذراعا من يستعمرهم: فإيران وإسرائيل مباشرة وروسيا وأمريكا بصورة غير مباشرة كلهم أربعتهم ممتلئون بفاعلية ماضيهم ومستقبلهم وحاضرهم هو العمل لكي تكون مشروعات المستقبل محققة لمفقودات الماضي. كلاهما يريد استرداد امبراطورية يعتبرون الإسلام عامة والعرب خاصة هم من أفقدهم إياها وهم في الحاضر يحققون فعلا هذه الأهداف فيكون حاضرهم لحظات عمل ذي استراتيجية تصل الماضي المفقود بالمستقبل المنشود والعرب قعود كأنهم أعجاز نخل خاوية. ذلك هو همي من الكلام في المؤسسات الاجتماعية. بعبارة وجيزة ثورة الاسلام التي حررت الإنسان من الوساطة الروحية والوصاية السياسية تبناها الغرب وكل شعوب العالم لكنهم أوجدوا بدائل تؤدي وظائفها المدنية بحق بعد أن حرروها من الوساطة الروحية والوصاية السياسية وتلك هي المؤسسات التي اعتبر الأمة قد فشلت في تأسيسها لتعالج العلاقتين. لكن المسلمين عملوا العكس تماما أعني السنة لأن الشيعة لم يلغوهما. لكن السنة ألغتهما بالاسم وعوضتهما بما هو أدهى وامر أعني وساطة أمر واقع يتنافى مع إلغائها الواجب ووصاية أمر واقع يتنافى مع إلغائها لواجب فصاروا يؤسسون بالإسلام ما يتنافى مع جوهره: تحريف علوم الملة وأعمالها.