لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفلهإعادة البناء لشروط الاستعمار في الأرض بقيم الاستخلاف
القسم الرابع/الفصل الخامس
ونصل إلى غاية الكلام في المؤسسات والكيانات الاجتماعية: في غياب البديل الفاعل أو الناظم للفعل الاجتماعي بين السياسي والتربوي لا يبقى إلا رد الفعل لكيان عديم العمود الفقري أو المؤسستين البديلتين من الوساطة الروحية والوصاية السياسة اللتين ألغاهما الإسلام.
ففي غياب البديلين من الكنسية والحكم بالحق الإلهي المبقيين على وظيفتيهما المدنية دون وظيفتيهما السلطويتين ينكص المجتمع إلى ما دونهما أو إلى فوضى الفعل الفردي غير الخاضع لمؤسسات تؤطره ولا يبقى إلى رد الفعل البدائي للفرد ككائن عضوي أو للجماعة “كهورد” أو كحركات همجية كالمغولية.
وما ترتد إليه هو التنظيمات البدائية التي من جنس الطوائف والقبائل والمافيات وكلها يحركها انعدام المشروع الواعي الذي يعالج العلاقتين بوصفه علاجا ذا استراتيجية يحددها السعي القصدي لتدارك مفقود الماضي بمنشود المستقبل لملء الحاضر بنظام فعل غائي واع بمراحل الوصل بين البداية والغاية.
وهذا هو فعلا ما حصل منذ الحروب الاهلية التي تلت الفتنة الكبرى إلى اليوم في بلاد العرب. فحتى الاحزاب ومنظمات المجتمع المدني التي تأسست في بعض بلاد العرب فهي أقرب إلى عقلية الطوائف والفرق الكلامية والقبائل والمافيات منها إلى تنظيمات المجتمع التي عوضت الوساطة والوصاية في الحداثة.
وليس من شك في أنها حتى في المجتمعات الحديثة لا تفقد الصفة بالمؤسسات والتكوينات البدائية التي من هذا الجنس لكنها تتحرر منها بقدر كبير بفضل مؤسسات رديفة أهمها حرية النقد والإعلام الحر وحقوق الفرد وحرياته الاساسية كحرية الضمير وحرية التعبير وحماية كيانه بالدستور والفصل بين السلط.
وهذه هي التي تحرر المؤسسات والكيانات الاجتماعية مما كانت تتمتع به الوساطة والوصاية من شبه قدسية تحول دون الفرد والوقوف منها موقف الناقد المحمي من جبروتها. فالمسلم منذ ذلك الحين والعربي على وجه الخصوص يعاني من طغيانين: طغيان المتغلب سياسيا وطغيان مضفي الشرعية عليه روحيا.
والطغيان الاجتماعي ألف مرة اشد من الطغيان السياسي ذلك أنه يصبح مستبطنا في روح الفرد فيصبح يراه جزءا من الدين وهو في الحقيقة نقيض الدين لأنه نقيض الحريتين الروحية والسياسية اللتين هما جوهر ثورة القرآن أعني الغاء الوساطة الروحية والوصاية السياسة لتحرير الفرد والجماعة.
ما أتكلم عليه يبدو ألغازا ربما لأن العبارة عنه فيها ما يشير إلى خفايا غفلنا عنها طيلة الأربعة عشر قرنا من حالة الطواري التي عشناها بعد الفتنة الكبرى وحروبها الاهلية التي لم تتوقف إلى الآن خاصة وقد أحيتها حركتان هما حركة الخمينية وحركة القاعدة بوصفهما أداتي تهديم ذاتي بيد الاستعمار.
والأدهى أن حركة الخمينية لأن لها قيادات محنكة جعلت حركة القاعدة مجرد دمية بيدها تحقق بها كل ما تريده من أفعال لتشويه السنة بيد السنة نفسها وقد تعين ذلك التعين الامثل في حركة داعش. فهذه الحركة في الظاهر تفعل ما تفعل باسم السنة لكنها في الحقيقة هي التي تقضي على فاعليتها.
وطبعا لو لم يكن ذلك مما يحتاج إليه الامريكان والروس وإسرائيل خاصة لما سمح به ولما أمدوا في عمره وينوون تمديده ثلاثة عقود حتى يقضوا نهائيها على ما يتصورون عودته كافية لإخراجهم من الإقليم الذي سيستعيد دوره العالمي: القضاء على الشعبين الذي أنشأ دولة الإسلام والذي حماها في الغاية.
الحرب كلها والإرهاب السني المزعوم المحقق لغايات الإرهاب الشيعي والصهيوني الفعليين هو الأداة التي وجدت ما يلائم استراتيجية روسيا وأمريكا لتهديم ما يمكن أن يحققه العرب والأتراك أي الشعب الذي أنشأ دولة الإسلام والشعب الذي حماها في الغاية إلى نهاية الحرب العالمية الأولى قدر مستطاعه.
فلا يوجد نظام عربي واحد يدعي الحكم باسم السنة ليست قياداته الفعلية -لا أتكلم على الكمبارس في كراسي الحكم-مستشارين انجليز أو أمريكان أو فرنسيين وجلهم صهاينة إن ليس بالعرق والدين فبالولاء واللادين. ويكفي تاريخ ما عينته انجلترا من حكام عرب وحتى من جامعة عربية.
قيادات الشيعة وملاليهم فرس وقيادات العرب ومستشاريهم صهاينة. ولذلك فالمشروعان المسيطران على الاقليم هما مشروعا استعادة امبراطورية فارس باسم آل البيت أي ضد ما كان ينبغي أن يكون مشروع آل البيت لأن الإسلام كان قائده جدهم وامبراطورية آل صهيون ضد ما يزعمه من يحكم باسم الإسلام.
ولهذه الظاهرة علاقة مباشرة بالمؤسسات الاجتماعية: فالاستسلام الشعبي لما يجري ليس له من تعليل غير ما عليه المؤسسات البديلة الكسيحة من مؤسستي تنظيم السلطتين الروحية والسياسية في القاعدة الاجتماعية وفقدانهما دور المحرك الفعلي للجماعة والمجتمع: فالسيسي غير ممكن من دون وساطتهم ووصايتهم.
وقس عليه كل بلاد العرب. ذلك أن العنف المادي مهما كان فاعلا فهو لا يفعل إلا لأن العنف الرمزي مهد له الطريق. ولذلك اعتبر ابن خلدون الأمم تفسد فيها معاني الإنسانية بالعنف الرمزي في التربية الذي يجعل العنف المادي في الحكم مؤثرا بصورة يؤدي اجتماعهما إلى الأمة “العالة” أمة العيال.
ولا بد هنا من الاتيان بنص ابن خلدون مؤسس ثورة الربيع بحق: “ومن كان مرباه بالعسف والقهر من المتعلمين والمماليك أو الخدم:
سطا به القهر وضيق على النفس في انبساطها
وذهب بنشاطها ودعاه إلى الكسل
وعمل على الكذب والخبث وهو التظاهر بغير ما في ضميره خوفا من انبساط الأيدي بالقهر عليه
وعلمه المكر والخديعة لذلك وصارت هذه عادة وخلقا
وفسدت معاني الإنسانية التي له من حيث الاجتماع والتمدن وهي الحمية والمدافعة عن نفسه ومنزله وصار عيالا على غيره بل وكسلت النفس على اكتساب الفضائل والخلق الجميل فانقبضت عن غايتها ومدى إنسانيتها فارتكس وعاد أسفل سافلين.
لا أعتقد أنه يوجد عربي صادق يقرأ هذا النص ولا يعتبره وصفا أمينا لوضعنا الحالي بل لوضعنا منذ الفتنة الكبرى إلى اليوم. ولا أعتقد أنه يمكن لأحد صادق بحق ألا يجد فيه ما عليه ثار شباب الأمة بجنسيه سعيا للخروج من حالة الطوارئ التي فرضت علينا منذ ذلك الحين.
فالثورة العربية الحالية هي فجر الاستئناف: كل المؤسسات الاجتماعية التي خربت الإنسان روحيا وماديا وجعلت اعز امة تصبح أذل الأمم انهارت ولن يستطيع الغبيان اللذان يقودان الثورة المضادة ويمولان قرود الجيوش المهزومة القبائل المهضومة مواصلة قهر الشعوب المظلومة: الثورة لن تهزم.
رمزية تونس اليوم هي ابن خلدون والشابي الأول رمزها الفكري والفلسفي والثاني رمزها الجمالي والشعري وشبابها بجنسيه يشبه شباب النشأة الأولى. ولا يحتاج لرسالة جديدة فهي موجودة. واعتبر نفسي جنديا في السعي لبيان أنها موجودة فإعادة قراءتها الفلسفية تحيي فاعليتها التاريخية.
ذلك ما أسعى إليه والله ولي التوفيق. ولم يبق في هذه المحاولة إلا جزؤها الخامس والاخير حول مؤسسات التربية التي ترسي قواعد مشروع الاستئناف الذي ينبغي أن يكون من حجم النشأة الأولى وهو استئناف اسلامي لا بد فيه من حلف صريح بين شعب النشأة الاولى وشعب الحماية الاخيرة قبله.