لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفلهإعادة البناء لشروط الاستعمار في الأرض بقيم الاستخلاف
القسم الرابع/الفصل الثاني
عللت عزمي على تقديم المؤسسات الاجتماعية على المؤسسات التربوية ولأمر الآن إلى المقصود بالمؤسسات الاجتماعية التي ينبغي أن نعيد بناءها حتى يتسنى لنا تحقيق شروط الاستئناف الذي يخلص الامة من حالة الطوارئ والقوانين الاستثنائية والعودة إلى الدستورين المتعلقين بوجهي السياسة حكما وتربية.
والآن تبدأ مشكلة المشاكل: كيف نحدد المؤسسات الاجتماعية والظاهرات الاجتماعية التي تعنى بها يمكن وصفها بكونها لا تكاد تتناهي فعلاقة البشر العمودية بالطبيعة وعلاقتهم بالتاريخ وفعل الاولى في الثانية والثانية في الاولى وما يوحد بينها جميعا أو مفهوم الإنسان واسترمازه غير قابلة للحصر.
وها نحن نلامس ما اعتبرت ابن خلدون قد فاق به الجميع رغم دعاة فهمه بعصره حصرا لكأن محاولات فهم الفلسفة اليونانية ما بعد سقراط وما قبله يصح عليها توالي الفهوم فلا تعتبر اندفانا في الماضي كما يوصف كل من يحاول معاملة تراثنا الفلسفي بالمثل واكتشاف ما قد يكون غاب عن أذهان قرائه السابقين.
فليراجع أي باحث صادق الباب الاول من المقدمة. وسيكتشف أن المعادلة الخلدونية ليس البداوة والحضارة والعصبية كما يتوهم الكثير بل هي العلاقة بين الطبيعي والرمزي أو الثقافي من حيث هو عودة على ذاته لعلاج العلاقتين العمودية والافقية عودة مشدودة بالخوف من المستقبل الناتج عن معضلاتهما.
أما البداوة والحضارة فهما مرحلتان في علاج هذه المعضلات بمقتضى ما يفرضه ما يسميه ابن خلدون “نحلة العيش” ولا علاقة لها بنمط الإنتاج وعلاقات الإنتاج بالمعنى الماركسي عند من يبحثون عن السبق الخلدوني حتى يصبح لابن خلدون منزلة عندهم بالقياس إلى ما صار معيار تحديد المنازل في الفكر.
صحيح أن بين الامرين وجه شبه. لكن الفرق الجوهري هو صلتهما بالمشكل الأساسي الذي هو ما وصفت والذي يجعل الاسترماز هو الأساس في كل ما هو اجتماعي وإنساني: والاسترماز هو أداة العلاج المتنوع لهذه العلاقة بين الطبيعي والتاريخي في حياة الإنسان الذي يصبح كيانه مرجعية التأويل كله.
المبدأ الموحد لما يبدو لا متناهيا من الاجتماعي هوما يسميه الفلاسفة الانثروبولوجيا الفلسفية (=نظرية الإنسان) التي تجمع بين العلاقتين العمودية (العلاقة بالطبيعة) والأفقية (العلاقة بالتاريخ) أو الطبيعي والرمزي من كيان الإنسان أو الطبيعي والروحي من كيان الإنسان في علاقة بالعالم وبما ورائه.
وبهذا المعنى يصبح قلب الرحى في المقدمة نظرية الإنسان وعليها تبنى أرشيتاكتونيك فروع علم الاجتماع أو ما بفضله يمكن حصر المسائل المقومة لعلم العمران البشري (العلاقة العمودية خاصة) والاجتماع الإنساني (العلاقة الافقية خاصة) وخاصة تعني أن كل موضوع العلم يرى كله من هذه أو من تلك دون رد.
“دون رد” تعني Without reduction لأن الماركسية هي رد إلى أثر الاول في الثاني وما يرد به عليها هو رد الأول إلى أثر الثاني فيه. وكلاهما غير صحيح لأن اعتبار الأول والثاني منطلق منظور للكل هو المقصود بالعلاقتين: بمعنى أن العمران والاجتماع لا ينفصلان إلا كمنظارين لموضوع علم الاجتماع.
والمنظوران يمثلان وجهين من كيان الإنسان في الانثروبولوجيا الخلدونية والفلسفية عامة. ومعنى ذلك أن الأول يمثل كيانه الفعلي والثاني كيانه الرمزي أو الاول يمثل كيانه الأداتي والثاني كيانه الغائي: وصف ابن خلدون العمران بكونه لسد الحاجات المادية والثاني لسد الحاجات الروحية (الأنس).
وانطلاقا من هذا التعريف يمكن القول إن ابن خلدون قد وصف أول خطة لحصر المسائل التي يمكن أن تعتبر مجال البحث الاجتماعي بعد تحديد جوهر الإشكال الانثروبولوجي في الباب الأول أي العلاقتين العمودية (العلاقة بالطبيعة والجغرافيا) والأفقية (بالزمان والتاريخ): الخوف من المستقبل.
البال الأول من المقدمة ينطبق على الأبواب الخمسة الباقية ويؤطرها ويليه علاج هذه الاشكالية بحسب فروعها. ففي الثاني العمران البدوي ونحل العيش فيه والثالث الدولة والرابع المدينة والخامس الاقتصاد والأخير العلاج الرمزي لكل ما تقدم أو العلوم والتربية واللسان والفنون: منظومة ذات اتجاهين.
والاتجاهان يلتقيان في الباب الرابع. ولما كان الاول يشملها جميعا فإن قراءة البقية بالانطلاق منه يجعلنا نبدأ من الثاني إلى الرابع ثم نعود من السادس إلى الربع فنجد المنظورين اللذين تكلمت عليهما. فمن 2 إلى 4 نلاحظ تناقص دور الطبيعي وتزايد دور الثقافي والعكس من 6 إلى 4.
والمدينة هي نقطة التوازن بين الاتجاهين وفيها كل نحل العيش في مركزها تغلب نحلة العيش الحضرية وفي محيطها نحلة العيش البدوية بحيث إن كل مدينة فيها كل التكوينية العمرانية والاجتماعية وهي ملخص جغرافي تاريخي لكل حضارة. وهو ما يمكن من الانطلاق إلى اعادة بناء المؤسسات الاجتماعية.
وأول ملاحظة أبدأ بها هي سخافة كل المعادين للإسلام من العرب وخاصة ممن هم بقايا الصليبيين والباطنيين أو من يوصفون بعرب الشمال الذين وصل الغباء ببعضهم إلى اعتبار الإسلام دين البداوة: ونسوا أنه تأسس في حاضرة سماها بالذات “مدينة” بمعنيي الكلمة الفلسفيين.
فأما المعنى الاول فهو ما منه اشتق فلاسفة العرب اسم علم السياسة تماما كالحال في اليونانية واللاتينية: فالسياسة هي علم المدنية بمعنى الإنسان الذي اجتمع وتجاوز الاجتماع البدائي إلى الاجتماع العائد على ذاته ليكون صاحب تنظيمها بعمل على علم وهو معنى السياسة حكما وتربية.
وأما المعنى الثاني فهو في آن موضوع هذا المعنى الاول وفي نفس الوقت غايته القصوى أي المدنية التي يؤكد عليها القرآن ويقابلها بالبداوة المنافية للمدنية كما يصف بذلك من يسميهم الاعراب وهم غير العرب وهم من يذمهم ابن خلدون حتى وإن استعمل كلمة عرب بمعناها في استعماله: من ليسوا مدنيين.
فالعرب في المقدمة يفيد أمرين: معنى انثروبولوجي عام ينطلق كل رعاة الإبل من كل الشعوب وهم العائشون في الصحاري بسبب رعاية الإبل وذكر منهم عدة شعوب وسماهم عربا. ومعنى عرقي خاص بالعرب وهم من يتكلم عليهم عندما يؤرخ للحضارات والدول فيقابل بينهم وبين الفرس والبربر مثلا.
لكن الحاقدين على العرب كعرق يعتبرون يخلطون بين الدلالتين فيعتبرون كلامه من جنس شهد شاهد من اهلها وهذا دليل جهل وتحامل. ذلك أن مؤسس الحضارة الإسلامية هم العرب وفي كل العلوم العقلية والنقلية بخلاف شهادة اخرى لابن خلدون يساء تأويلها خلطا بين الكم والكيف.
صحيح أنه كميا كان العلماء من غير العرب. لكن كيفيا كان المؤسسون خاصة عربا. ولن أتكلم على الرسول فهو مبلغ وليس صاحب العلم الذي بلغه. ولن أتكلم على العلوم النقلية أو علوم الملة كأصول الفقه واصول الدين وعلوم اللسان فهذه مفروغ من عروبة مؤسسيها. ولا فائدة من ذكر الأسماء.
فلأذكر علوم العقل. ففي الفلسفة أولهم الكندي. وفي الرياضيات اولهم وأكبرهم ابن قرة الجد والحفيد. وما عداهما منبن عليهما. لذلك فكفى تقويلا لابن خلدون ما لم يقصده. هو تكلم على الكم ولم يتكلم على الكيف. ولأعد على ما هو وسط بين النقلي والعقلي. فمؤسس علوم اللسان على الرياضيات الخليل.
فقد بنى معجمها على رياضيات التواليف والتقاليب مطبقا إياها على الحروف وبنى قوانين شعرها على نفس التواليف ولكن ليس للأصواب بل لمدد الحركات بصرف النظر عن الأصوات وهو فرع من الموسيقى أو من علم توزيع الزمان. وما اتصور قوما بدوا يمكن أن يفعلوا ذلك.
ولو كانوا قد فعلوه لأنهم كانوا تحت الاستعمار الفارسي لكان ذلك قد حدث قبل الإسلام. ولم ينتظر قرنا نيفا ليحصل. ثم الفرس نفسهم لا أعلم لهم فلاسفة قبل ابن سينا والغزالي وهؤلاء لا فرسية لهم وإلا لكانوا وجدوا قبل الإسلام. فلكأن احدا نسب علماء أمريكا الحاليين إلى أصولهم السابقة.
والدليل الدامغ والحاسم: لو كانت الحضارة العربية الاسلامية ترد إلى تأثير من تقدم عليها -ولا أنفي وجود هذا التأثير بل ردها إليه- لكان لما استطاعت الحضارة العربية الإسلامية تصبح الطابع العام لكل من انتسب إليها ممن تقدم عليها في الحضارة: فلسفة ودينا ولغة وأدبا وحتى بحورا شعرية.
قد لا يرى القارئ المتسرع علاقة هذا الذي يبدو استطرادا بالغرض من البحث أعين بإعادة بناء شرو ط الاستعمار في الأرض بقيم الاستخلاف. لكن العلاقة متينة وهي شديدة العمق: ينبغي للاستئناف أن يكون أولا وقبل كل شيء مبادرة شعب النشأة الأولى. والشرط أن يستعيد ثقته بنفسه.
فالعرب اليوم يعاملون باحتقار من الكثير من الشعوب ليس لأنهم يستأهلون ذلك حتى وإن كان وضعهم قد يبرره بل لأنهم أصيبوا في مقتل من أبناء جلدتهم الذين هم بقايا الصليبية وبقايا الباطنية وكل من توخى محاولة التميز باحتقار العرب والرسالة وشرط الاستئناف الكوني: العرب أولا والأتراك ثانيا.